مدرسة أبولو وريادة التجديد

مدرسة أبولو  وريادة التجديد

الشعر ديوان العرب المعبر والمصور لكل مناحي حياتهم في حالتي السلم والحرب، وقد نما وازدهر منذ العصر الجاهلي إلى حدود سقوط بغداد على يد هولاكو زعيم المغول، وما نتج عن ذلك من أحداث متتالية تُوِّجت بالاحتلال العثماني لأغلب البلدان العربية، مما شكّل حاجزًا بينها وبين الحضارة الغربية التي كانت تتقدم، في حين كان العثمانيون يتأخرون حتى انهارت إمبراطوريتهم في الأخير، وانسحبوا بعد انقلاب كمال أتاتورك على السلطان عبدالحميد وتأسيسه جمهورية تركيا الفتاة، تاركًا الوطن العربي في مهبّ رياح الحركات الإمبريالية الأوربية، فوقع ما يسمى بتقسيم تركة الرجل المريض، الذي هو الإمبراطورية العثمانية، بين القوى الاستعمارية الصاعدة في ذلك الوقت. 

 

وقد بدأت اليقظة العربية تتنامى لتتحول إلى نهضة عندما اجتاحت فرنسا مصر بقيادة نابليون بونابرت سنة 1798. ولهذا الحدث وجهان متناقضان، وجه كريه وسلبي والآخر إيجابي. فأما السلبي فيتمثل في أن كل مستعمر بغيض ومكروه وشر مستطير لا يحبذه عاقل. ولكن وسط كل ظلمة ينبثق قبس من نور، ويتجلى ذلك في انفتاح البلدان العربية على الحضارة الغربية من جديد كما كانت الحال في العصر العباسي حيث كانت حركة نقل علوم الأمم الأخرى مزدهرة بالترجمة وغيرها. وقد كان أهم حدث إيجابي عرفته مصر هو إدخال الفرنسيين المطبعة إلى البلاد، فساهم ذلك في نهضة العرب وربط ماضيهم بحاضرهم، وجعلهم يطلعون على تراثهم العربي والإسلامي، وعلى آداب الغرب وعلومه وفنونه.  

يقول د. طه حسين في كتابه «تقليد وتجديد»: «... هذه المطبعة التي كان قد مضى عليها عهد بعيد في أوربا، وكانت قد أحدثت آثارها الخطيرة في الحياة العقلية الأوربية، ولكن الشرق العربي لم يكن يعرفها، ولم يكن يسمع عنها شيئًا، وجاءت هذه المطبعة مع الفرنسيين فعرفها المصريون ولم ينسوها بعد أن جلا الفرنسيون عن مصر... وجود هذه المطبعة في مصر وشعور المصريين بأن من الممكن أن تذاع الكتب وأن تنتشر بأكثر من هذه الطرق التي عرفوها، وهي طرق النسخ وتداول الكتب الخطيَّة، ولم تَكد توجد المطبعة - خاصةً بمصر -  في أوائل القرن الماضي حتى أخذنا نفكر في نشر بعض الكتب العربية التي كانت محفوظة في المكتبات والتي لم يكن يتاح للناس أن يقرؤوها إلا إذا سعوا لها أو ظفروا بها بعد البحث وبالأثمان الغالية القاسية، فأخذنا ننشر الكتب وننشر الكتب بغير نظام. ننشر كتبًا معاصرة في ذلك الوقت، ثم ننشر كتبًا قديمة من الكتب العربية التي ألفت في العصور البعيدة، وأخذ الناس يقرأون هذه الكتب ويتأثرون بها شيئًا ما. وفي الوقت نفسه جددنا صلتنا بالغرب فأخذنا نعرف شيئًا فشيئًا ما عند هؤلاء الغربيين، ثم قويت حاجتنا إلى هذه المعرفة فأخذنا نبعث البعوث إلى أوربا، ونتعلم علم الأوربيين بطريقة مفصلة واضحة، ونختار مما عند الأوربيين ما نحتاج إليه في تجديد حياتنا وتمكينها من أن تنهض وتستأنف نشاطها القديم». 

 

تياران متضادان

 في ظل هذه الظروف التاريخية، ظهر تياران شعريان متضادان ومتناقضان، وكل منهما ينطلق من مرجعية مخالفة لمرجعية الآخر، وهاتان المرجعيتان تحددهما النزعات الثقافية وحتى الدوافع السياسية لكل فريق. هاذان التياران هما مدرسة البعث والإحياء، ومدرسة الديوان. فالأولى ترى في العودة إلى الأصول المتمثلة في الشعر العربي القديم إحياءً للشعر الحديث ومحاربة للفكر الاستعماري الغربي الدخيل، فنهجت التقليد والمحافظة على مقومات الشعر القديم، في حين توجهت الثانية إلى التجديد وانتهاج طريق مغاير للبعث والإحياء، وترى في اختياراتها رجعية وزيادة في إغراق الشعر العربي في مزيد من التخلف. فمدرسة الديوان ترى أن الحل في الانفتاح على الآداب الغربية، والتحرر من القيود القديمة التي تكبل حرية القصيدة العربية. وهنا بدأت المعارك النقدية بين الديوان والبعث والإحياء. هذه المعارك التي انتهت دون انتصار أو انهزام هذا الطرف أو ذاك، بل انتهت المدرستان معًا وبقي أنصارهما إلى اليوم. ورغم دور مدرسة الديوان في محاربة النزعة التقليدية في الشعر العربي الحديث، لم تخلف مذهبًا تجديديًّا قائمًا بذاته. يقول محمد مندور، في كتاب «الشعر المصري بعد شوقي»: «وقد لاحظنا كيف أن دعاة الجديد لم يجتمعوا على مذهب موحد، وإن كانوا قد أجمعوا على محاربة الشعر التقليدي والدعوة إلى شعر جديد، أنفقوا حياتهم في البحث عنه وتحديد سماته. وفيما عدا هذا الهجوم تباينت نزعاتهم وتنوعت مشاربهم بتنوع أمزجتهم الخاصة وثقافتهم المكتسبة». 

في ظل هذه الظروف ظهرت مدرسة أبولو التي أسسها الشاعر أحمد زكي أبو شادي مع ثلة من الشعراء، حيث اجتمعوا في بيت الشاعر أحمد شوقي يوم 10 أكتوبر 1932م. واختاروه رئيسا لها، لكن شوقي توفي بعد ذلك الاجتماع بأربعة أيام فقط، فعهدت الرئاسة إلى الشاعر خليل مطران. وهكذا ولدت هذه الحركة الأدبية التي استطاعت أن تكون دوحة تجمع تحت أفيائها كل الأطياف الشعرية والأدبية حتى تلك التي كانت متصارعة، واحتضنت الشعراء من مختلف الاتجاهات ومن عدة بلدان عربية. واستطاعت شق الطريق ممهدًا أمام مبادرات التجديد في الشعر العربي، وتركت عليه بصمتها المميزة، ومع ذلك لم تدْعُ إلى مذهب أدبي محدد، بل كان هدفها يتجلى في السمو بالشعر العربي، وبالأحوال المادية والمعنوية للشعراء. 

 

الانفتاح على العطاءات الإنسانية

استمدت مدرسة أبولو اسمها من صحيفة أبولو التي أصدرها الشاعر أحمد زكي أبو شادي سنة 1932 والتي استمرت في الصدور حتى 1935. وأَبُولُو Apollo هو إله الشمس والجمال والفنون من موسيقى وشعر ورسم ونحت عند الإغريق. وقد كان الهدف من تسمية مدرسة أبولو بهذا الاسم، هو الرغبة في إعطاء الانطباع عن تنوع المعارف والفنون والعطاءات الإنسانية وتجاوز المحلية إلى العالمية، وهي الأهداف التي سطرتها هذه المدرسة التي نحت إلى الاتجاه الرومانسي نتيجة ثقافة روادها الذين تأثروا بالأدب الغربي وعلى رأسهم أحمد زكي أبو شادي الذي درس الطب في إنجلترا. 

كانت موضوعات شعراء مدرسة أبولو تتمحور حول الذات ومناجاة الطبيعة ومشاركتها أحزانهم وتصوير مكابداتهم العاطفية، فجاءت أشعارهم لتشكل مرآة تعكس حياتهم وإفرازًا لأحزانهم وأشجانهم التي كان التعبير عنها سائدًا في تلك الفترة بحكم تحكم المذهب الرومانسي في الأدب، وتحوله إلى اختيار نقدي على أيدي المجددين، وقد ساعدت على ذلك الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عاشها الناس بسبب الكوارث التي خلفتها الحروب. لذلك أولى شعراء أبولو اهتمامًا كبيرًا بالشعر الوجداني الذي تتشاكل فيه الطبيعة والنفحات الصوفية والتأملات الفلسفية. وهنا يبرز مدى تأثر روادها بالأدب المهجري وبخاصة شعراء الرابطة القلمية مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وغيرهم من الأدباء الذين مدوا الشعر العربي الحديث بشحنات من الحياة، وأخرجوه مما كان يعانيه من قيود كبلت حريته ومنعته من الانطلاق، وقد كان لمدرسة أبولو قسط وافر في تحقيق ذلك الهدف. وتجلى ذلك في إرسائها مبادئ أهمها إيصال الأفكار بأساليب جمالية واضحة واختيار اللغة السهلة الشفيفة التي توفر للشاعر الفرصة للتعبير عن ذاته بدون الخضوع لقيود الشكل والمضمون، وكل ما هو مطلوب هو توافر القيم الفنية الإنسانية وتعددها وانطلاقها بحرية. لذلك رفضت تقييد المبدعين بمذهب معين أو بأفكار جاهزة. مع التشجيع على الابتكار والتجديد، والابتعاد عن التقليد الذي كان قد شل حركة سابقيهم. لذلك مال شعراء هذه المدرسة إلى الاجتهاد في الإتيان بكل جديد، فحولوا الملموسات إلى معنويات وشخصوا الأشياء وجعلوها تنطق وتحس وتتحرك وتشاركهم آمالهم وآلامهم. 

 

مدرسة أبولو والشعر الحر

لقد كان لاحتكاك الوطن العربي بالغرب في بداية القرن العشرين كبير الأثر في تسريع حركة التجديد في الشعر العربي الحديث وظهور إرهاصات الشعر الحر، وقد بدأ الأمر بالشعر المرسل على يد عبد الرحمن شكري وجميل صدقي الزهاوي وغيرهما، كما كتب آخرون الشعر المنثور تأثرًا بالشعراء الفرنسيين وبخاصة شارل بودلير، ووصولًا إلى الشعر الحر التفعيلي قبل إعلانه رسميًّا على يد نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وانتهاء إلى أشكال أخرى منها قصيدة النثر. 

ونظرًا للتكوين الثقافي لرواد جماعة أبولو، وتأثرهم بالشعراء الغربيين، فقد كان حماسهم يقود قاطرة التجديد باطراد. وكان الشاعر أحمد زكي أبو شادي أول من بادر إلى كتابة الشعر الحر، غير أنه نسب فضل ذلك إلى أستاذه خليل مطران. يقول «س. موريهّ» في كتابه «حركات التجديد في موسيقى الشعر العربي الحديث»: «وقد نسب أبو شادي الفضل في إنشاء الشعر المرسل والشعر الحر في الأدب العربي الحديث إلى جهود أستاذه وصديقه خليل مطران قائلًا في شيء من المغالاة: «فما نشوء الشعر المرسل ولا الشعر الحر ولا ما بلغناه من الحركة التحريرية للنظم ولا ما نتناوله من الموضوعات الإنسانية والعالمية إلا الرقي الطبيعي لرسالة مطران». 

ويقول أحمد زكي أبو شادي في سياق حديثه عن الشعر الحر: «إن روح الشعر الحر free verse إنما هو التعبير الطليق الفطري، كأنما النظم غير نظم، لأنه يساوق الطبيعة الكلامية، التي لا تدعو إلى التقيد بمقاييس معينة من الكلام، وهكذا نجد أن الشعر الحر يجمع أوزانا وقوافيَ مختلفة حسب طبيعة الموقف ومناسباته، فتجيء طبيعته لا أثر للتكلف فيها، لذلك رأينا أن الشعر الحر مناسب جدًّا للمسرح خلافًا لما يدعون إلى التقيد ببحر معين وقافية معينة على لسان كل متكلم... وما أذعنا من هذا الشعر حتى الآن سوى بعض النماذج مدخرينه للمناسبات الدرامية ونحوها في المستقبل. فمن العجيب إذن أن يتهافت الأدباء إلى الانتقاص حتى لما لم يتبينوه...».

ومع ذلك كثر الجدال الذي أثير وما زال يثار حول ريادة الشعر الحر، لكن الدلائل الأدبية تؤكد أن رواد أبولو كان لهم نصيبهم في ظهوره، وهذا واضح من كلام أحمد زكي أبو شادي، ومدرسة أبولو كانت لها مساهمة فعالة في نشوئه وتبلوره، ولها الفضل في تجديد القصيدة العربية، والعبور بها نحو فضاء الحرية وفك ارتباطها مع ما كان يفرضه التقليديون من قيود تطالها شكلًا ومضمونًا. فلم يقصِّر شعراء أبولو جهدًا في سبيل جعل الشعر العربي الحديث يستجيب لشروط الحداثة، ونذكر منهم: أحمد زكي أبو شادي وإبراهيم ناجي وجميلة العلايلي وعمر أبو ريشة وعلي محمود طه وأبو القاسم الشابي ومحمد عبدالمعطي الهمشري وصالح جودت وكامل كيلاني وغيرهم ■