مكتب بريد غزة شاهد على زمن الاحتلال

مكتب بريد غزة شاهد على زمن الاحتلال

 تقع مدينة غزة في نهاية الشريط الساحلي الغربي من فلسطين المتاخمة لمدينة العريش المصرية الواقعة في شرق شبه جزيرة سيناء، وقد سمح موقعها الجغرافي أن تكون ممرًّا حيويًّا بين آسيا وإفريقيا؛ مما جعلها محط أنظار القوى المحيطة بها، وتتطلع إليها أطماع الدول عبر التاريخ. وتُعَـدُّ الإمبراطورية العثمانية آخر حكم امتثلت له مدينة غزة منذ عام 1516م لغاية شهر نوفمبر من عام 1917م، أي لمدة أربعة قرون.

 

مما يذكر أن الخدمة البريدية بدأت في الإمبراطورية العثمانية في شهر أكتوبر من عام 1840م، حيث فتحت لها مكاتب للبريد في جميع أنحاء الإمبراطورية، وأنشأت لها مكتبًا للبريد في بيروت عام 1941م تقريبًا، وهو الذي كان مسؤولًا عن البريد المرسل إلى فلسطين بموجب رخصة تُمْنَحُ سنويًّا لرجال أعمال يتولَّوْنَ نقل البريد من القدس وإليها، مرورًا بعكا ويافا عن طريق فرسان على ظهر الخيول ترافقهم قوة مسلحة، في رحلة تستغرق من عكا إلى إسطنبول اثني عشر يومًا. وفي عام 1945م تغيَّر مسار البريد بالتزامن مع تزايد الوكالات البريدية التي أُنْشِئتْ؛ لتكون محطاتٍ لترحيل البريد، وأصبح البريد ينقل من القدس عن طريق الرملة مرورًا بيافا وحيفا إلى صيدا، ثم مكتب بريد بيروت.

وبعد أن صدرت الطوابع العثمانية في يناير 1863م، أنشأت لها الإمبراطورية العثمانية مكاتب رسمية للبريد في تسع مدن فلسطينية في الفترة ما بين 1865م و1870م، وهي: عكا، وحيفا، ويافا التي تقع في الشمال، وفي القدس، ونابلس، وبيت لحم، والخليل وطبرية، وهي المدن الواقعة في الداخل، وأما الجنوب من فلسطين فكانت مدينة غزة، وفي نهاية القرن التاسع عشر تزايدت أعداد مكاتب البريد ليصل عددها إلى 52 ما بين مكتب وفرع ووكالة، وقد استمرت مكاتب البريد العثمانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. ويعد مكتب الناصرة آخر مكتب بريد عثماني استمر حتى شهر سبتمبر من عام 1918م.

وقد استخدمت مكاتب البريد العثمانية في فلسطين في العشر سنوات الأولى تقريبًا أختامًا مربعة الشكل بخطين مزدوجين، وأحيانًا تكون زوايا الختم مقوسة تحمل اسم المكتب بالعربية ليختم به الطوابع العثمانية التي تكون ملصقةً على الرسائل، وبعدها اُسْتُخْدِمَ ختمٌ دائريُّ الشكلِ، يتميز باللون الأسود، ويُعْرَفُ بالختم السلبي، ويُكْتَبُ به اسم مكتب وفي الأسفل تُكْتَبُ السنة الهجرية، وفي فترة زمنية لاحقة اُسْتُخْدِمَ ختمٌ ثنائيٌّ اللغة (اللغة العربية في الأعلى واللغة الإنجليزية في الأسفل) وهو دائري الشكل، وبداخله خطان متوازيان يحملان التاريخين الهجري والميلادي، وقد طرأ على الختم تحسينات طالت الخط، مع تعديله إلى الشكل المثمن في مكاتب كل من القدس ويافا وأريحا ما بين عام 1911م و1917م.

 

مكتب بريد غزة

هذا ويُعَـدُّ مكتب بريد غزة العثماني الذي افتُتِحَ في الأول من مايو عام 1865م أول مكتب بريد رسمي في تاريخ المدينة، وفي عام 1880م أُرْفِقَ معه مكتب برقي، وقد تمَّ رصد عدد محدود من الأختام المستخدمة لا تتجاوز ستة أختام طيلة الفترة العثمانية، وهي مشابهة للأختام التي اُسْتُخْدِمَتْ في جميع مكاتب البريد العثمانية الأخرى، حيث جاء أول ختم مربع الشكل بخطين مزدوجين بداخله غزة، ثم اُسْتُخْدِمَ ختمٌ سلبيٌّ دائريُّ الشكلِ يحتوي كلمة «بوسته غزة / شعبة والسنة الهجرية»، وغيرها من الأختام المذكورة سابقًا بالمكاتب العثمانية. 

  استمر مكتب غزة العثماني في أداء دوره البريدي حتى يوم السابع من نوفمبر عام 1917م وتوقف بعد دخول قوات الجيش البريطاني - التي تعرف بقوات الحملة المصرية - واحتلالها مدينة غزة، وقد سبقه في الإغلاق كل من مكتب بريد خان يونس الكائن في غزة الذي افتُتِحَ عام 1909م، ومكتب كل من بريد بئر السبع، وبريد الحفير؛ ليُنْهي ثلاثةً وخمسين عامًا من الإدارة العثمانية لمكاتب بريد فلسطين. 

مر مكتب بريد غزة بثلاث إدارات بريدية من عام 1917 لغاية 1948م، إدارتين لا تتجاوز مدتهما ثلاث سنوات، وإدارة بريدية امتدت لمدة ستة وعشرين عامًا.

وتُعرف الإدارة الأولى بالبريد العسكري، التي بدأت في نوفمبر 1917م، وانتهت في يوليو 1920م، وشغر مقر مكتب بريد غزة العثماني، في البداية سُمِحَ للناس باستخدام البريد بالمجان نظرًا لعدم السماح للجمهور باستحدام الطوابع البريطانية لاعتبارات سياسية، وكانت الرسائل تبعث عن طريق البريد المصري، والبريد العسكري البريطاني من بورسعيد، وجاء الختم دائري الشكل يحمل عبارة البريد العسكري باللغة الإنجليزية، واُسْتُخْدِمَ لمدة ثلاثة أشهر. بعدها طرحت «إدارة أراضي العدو المحتلة» طوابع بالعملة المصرية تحمل حروف «EEF»، وهي اختصار لاسم قوات الحملة المصرية، وختم يحمل الحروف الإنجليزية «OETA» اختصارًا لـ إدارة أراضي العدو المحتلة، مع «EEF»، وفي الأسفل كتب غزة GAZA، وبالمنتصف وضع التاريخ. 

 

فترة الإدارة المدنية

في الأول من يوليو عام 1920م، بعد انتهاء الحرب، سعت بريطانيا للتحول إلى الإدارة المدنية في فلسطين بغية تنفيذ وعد بلفور، حيث أسهم تعيين هربرت صموئيل أول مندوب سامٍ لبريطانيا في تبنِّي المشروع الصهيوني وتنفيذه من خلال تمكينهم من إدارة المؤسسات المدنية، والسماح لهم بتشكيل العصابات الإرهابية في تهجير الفلسطينيين بالتزامن مع تشجيع الهجرة اليهودية من أوربا، وفرض لغة المستعمر الإنجليزية لغةً رسمية في فلسطين، وكذلك فرض لغة الأقلية اليهودية بالتساوي مع اللغة العربية، مما انعكس على إصدار طوابع البريد ليتم توشيحها باسم «فلسطين» باللغة العربية في الأعلى، وباللغة الإنجليزية في المنتصف، واللغة العبرية في الأسفل، ولكن أُضيف حرفان باللغة العبرية (א»י) يرمزان لكلمة «أرض إسرائيل» تلبية لرغبة وإصرار اليهود الذين اعترضوا على كلمة (فلسطين)؛ مما يفسر أن إلغاء كلمة فلسطين وقع تنفيذًا لأجندة وعد بلفور على الرغم من الاحتجاجات التي صدرت من قبل سكرتير المؤتمر العربي الفلسطيني الرابع الذي انعقد في القدس عام 1921م.

استمر بريد غزة في أداء دوره البريدي خلال الفترة المدنية في مكتب بريد غزة العثماني واستخدم ذات الختم الدائري الشكل، ولكن نزعت منه الحروف «EEF» و«OETA» التي تشير إلى البريد العسكري.

 

فترة إدارة الانتداب 

بعد انتقال فلسطين تحت الانتداب البريطاني بموجب قرار عصبة الأمم في 11 سبتمبر 1923م، طرأت ثمة تعديلات في الختم البريدي لمكتب بريد غزة شأنه شأن باقي المكاتب البريدية في فلسطين، حيث اتخذ الشكل الدائري من حلقتين وفي الأعلى كتبت غزة باللغة الإنجليزية ثم خطان باللون الأسود غير متصلين مع وضع التاريخ في قلب الختم، وبعد تغيير العملة من الجنيه المصري إلى الجنيه الفلسطيني ما يعادل الجنيه الإسترليني من حيث القيمة عام 1927م، شهد بعدها إصدار طوابع مقومة بالعملة الجديدة ومكونة من أربعة عشر طابعًا، تحمل أربع صور من معالم فلسطين الدينية والتاريخية مكررة على فئات عدة: الصورة الأولى لمسجد الصخرة، والثانية رسم لقبر راحيل، والثالثة رسم لجامع طبريا، والرابعة رسم لبرج قلعة القدس، ومن عام 1932م لغاية 1944م صدرت طوابع أخرى تحمل صور المعالم الدينية التاريخية نفسها المستخدمة، ولكن بألوان وفئات مختلفة.

لعل الحدث الأبرز في مسيرة بريد فلسطين في فترة الانتداب يتمثل في إنشاء مطار غزة لخدمة الخطوط الجوية الإمبريالية (البريطانية) بعد تدشين الخط الجوي «البصرة/القاهرة»، الذي بدأ فيه العمل عام 1927م؛ مما أسهم في التسريع بنقل البريد وحركة المواصلات من إنجلترا ليمتد الخط الجوي بعد عدة سنوات إلى أستراليا، ذهابًا وإيابًا، علما بأن مطار غزة أصبح محطةً جويةً للعديد من شركات الطيران، مثل الخطوط المصرية، والهولندية وغيرها، وفي عام 1937م توقف عن العمل بعد إنشاء مطار بديل له أكبر حجمًا يقع في وسط فلسطين؛ ليستوعب تزايد الرحلات الجوية بما يخدم التوسع العسكري البريطاني والاستيطان الصهيوني.

 

تقسيم فلسطين

استمرت فترة الانتداب البريطاني على فلسطين حتى مايو عام 1948م، وأُعْلِنَ بعدها قيام إسرائيل بناء على قرار هيئة الأمم في نوفمبر عام 1947م، من دون تحديد لحدود الدولة التي نص عليها إعلان قرار تقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق: الدولة العربية وهي تمتد من الجليل الغربي، ومدينة عكا، وغزة وتمتد إلى رفح. والمنطقة الثانية: الدولة اليهودية وتبدأ من حيفا وتمتد إلى تل أبيب، ثم الجليل لتضم بحيرة طبريا، والنقب. أما المنطقة الثالثة: وهي مدينة القدس وبيت لحم ونابلس والأراضي المجاورة لها فأبقيت تحت الوصايا الدولية. وقد رفضت الدول العربية هذا التقسيم الذي أعطى لليهود الذين هاجروا إلى فلسطين ويشكلون ثلث عدد السكان 54 في المئة من مساحة فلسطين، وبعدها نشبت حرب بين إسرائيل وبين البلدان العربية متمثلة في كل من مصر والأردن وسورية والعراق ولبنان بالإضافة للفلسطينيين، ضد الميليشيات الصهيونية، ثم توقف القتال بعد ثمانية أشهر تقريبًا في يناير 1949م، وكانت نتيجة الحرب استيلاء إسرائيل على 78 في المئة من أرض فلسطين، بزيادة 25 في المئة عن الذي حدده قرار التقسيم، في حين سيطر الجيش الأردني على القدس الشرقية وضمت الضفة الغربية إلى شرق الأردن وأصبحت تحت سلطة المملكة الأردنية في 24 أبريل 1950م، في حين خضع قطاع غزة تحت الإدارة العسكرية المصرية.

في الأول من يونيو 1948م، أشرف البريد المصري الملكي على إدارة بريد مدينة غزة، وعلى المكاتب التابعة لها في خان يونس، ودير البلح، ورفح - إلى جانب مكاتب بريد بيت لحم والخليل لغاية عام 1949م بسبب انتقالها للإدارة الأردنية - استخدمت بها الأختام المصرية الدائرية الشكل، تحمل اسم المكتب ثنائي اللغة بالعربية والإنجليزية، مع طرح الطوابع المصرية المكونة من 19 طابعًا تحمل صورة الملك فاروق الموشحة بكلمة فلسطين باللغة العربية والإنجليزية.

 

حرب السويس 1956

بعد اتفاقية الجلاء (الاستقلال) بين مصر وإنجلترا عام 1954م، أعلنت مصر تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956م؛ مما دفع كلًّا من فرنسا وإنجلترا لاتخاذ هذا التأميم ذريعةً للهجوم على مصر رغبة في التخلص من جمال عبدالناصر الذي ساند ثورة الجزائر ضدها، وأما إسرائيل فدخلت الحرب من أجل تأمين حدودها وتدمير القوة العسكرية المصرية.

ففي 29 أكتوبر 1956م، بدأت الهجمات التي شنتها القوات الإسرائيلية بمهاجمة الحدود المصرية ودخول سيناء، وفي اليوم التالي، دخلت القوات الفرنسية والبريطانية السويس وبورسعيد، في الأول من نوفمبر عام 1956م، استولى الجيش الإسرائيلي على غزة، وبسبب المقاومة الشرسة للجيش المصري والضغوط الدولية من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، توقف العدوان الفرنسي البريطاني في 7 نوفمبر 1956م، وسحب كل منهما قواته في 22 ديسمبر، في حين استمرت إسرائيل احتلالها لغزة حتى 7 مارس 1957م، واستبدالها بقوات الطوارئ التابعة لهيئة الأمم وبعدها بيومين تولت السلطة المصرية إدارة غزة.

ترسم لنا الأختام التي رصدت على الأغلفة البريدية تسلسل أحداث حرب السويس، ففي الأسبوع الأخير الذي سبق الحرب استخدم البريد المصري ختمًا باللغة الإنجليزية يحمل عبارة «قناة السويس جزء لا يتجزأ من مصر» ليوضع على البريد الوارد والصادر. وبعد دخول الجيش الإسرائيلي لمدينة غزة في الأول من نوفمبر 1956م، قام بالسيطرة على مكتب بريد غزة والاستيلاء على جميع الرسائل الموجودة في ذلك اليوم، بعضها كانت واردة ولم تسلم، وأخرى ختمت لإرسالها ولم تبعث، ويقدر عددها أكثر من خمسين رسالة، وحجزت لمدة تتراوح ثلاثة أشهر في تل أبيب، حيث تمت مراقبتها عسكريًا ثم أعيدت بعد الاحتلال لمكتب بريد غزة بواسطة الصليب الأحمر.

 

حرب 1967م

وتعرف حرب الأيام الستة، التي بدأت في 5 يونيو من قبل الجيش الإسرائيلي بالحرب الجوية على قطاع غزة وسيناء، وفي 6 يونيو تحرك الجيش الأردني الذي كان مدعومًا ببعض من القوات العراقية داخل الضفة الغربية وصولًا إلى القدس؛ مما أدى لرد فعل سريع من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي في احتلال الضفة الغربية إلى جانب احتلال قطاع غزة وسيناء من مصر، وكذلك احتلال مرتفعات الجولان من سورية؛ مما أدى إلى انقطاع الاتصال البريدي ما بين أهالي غزة والضفة الغربية وبين عائلاتهم المقيمين في البلدان العربية، بعد أن سيطرت قوات الجيش الإسرائيلي على مكاتب البريد الفلسطينية لتصبح تحت إدارتها البريدية، وعمدت إلى تشغيل المكاتب البريدية واستخدمت أختام دائرية الشكل تحمل اسم المكتب باللغات العربية والعبرية والإنجليزية، مع طرح الطوابع الإسرائيلية في مكتب بريد غزة ودير البلح ورفح وخان يونس في (3 يوليو 1967م)، وفي كل من مخيم النصيرات ومخيم الشجاعية ومخيم جباليا وغيرها في فترات لاحقة.

ونظرًا للمقاطعة البريدية بين البلدان العربية مع دولة الاحتلال نشأت عدة وسائل اتصال كان لها دور محوري كوسيط بين سكان فلسطين وبين أهاليهم في الخارج. في البداية أسهمت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عملية تبادل الأخبار العائلية ونقلها بموجب ما نصت عليه أهدافها بـ «مد جسور التواصل بين أفراد العائلات التي شتتتها النزاعات أو الكوارث الطبيعية أو الاحتجاز أو الهجرة»، من خلال الكتابة على نموذج جاهز يدون في الصفحة الأولى اسم المرسل وعنوانه، وفي الأسفل يدون اسم المرسل إليه وعنوانه.

وفي الخلف يكتب المرسل رسالته المشروطة بالأخبار العائلية في حدود ثمانية سطور مع التاريخ، وفي الأسفل يضع المرسل إليه الرد، وتستغرق الرسالة شهرًا ونصف الشهر من تاريخ تسليمها للصليب الأحمر وفترة مماثلة في الرد من المرسل إليه، هذا ويؤدي الهلال الأحمر في البلدان العربية الدور المكمل في استلام وتسليم الرسائل مع الصليب الأحمر، التي نشط استخدامها بعد الاحتلال مباشرة واستمرت بوتيرة أقل لفترة لا تتجاوز الثلاث سنوات، علمًا بأن أغلب رسائل الصليب الأحمر تمر عبر الرقابة العسكرية الإسرائيلية التي تقوم بختمها بعد الاطلاع على محتواها.

وكذلك أسهم الفلسطينيون المقيمون في خارج الوطن العربي بوصفهم وسيطًا بريديَّا لخدمة أهاليهم في الأراضي المحتلة، حيث كانوا يتسلمون الرسائل التي تبعث من مكاتب بريد الاحتلال، ومن ثَمَّ يقومون بإعادة إرسالها إلى مكان وجودهم في البلدان العربية بعد وضعها في المغلف وكتابة الاسم والعنوان وإلصاق الطوابع المستحقة في مكتب بريد البلد الذي يقيمون فيه، وكذلك يقومون بدور عكسي بتسلُّم البريد من البلدان العربية وإعادة إرسالها إلى غزة والضفة الغربية.

في نهاية عام 1969م، وجدت وسيلة اتصال أكثر مرونة وغير مقيدة تحت رعاية اتحاد البريد العالمي من خلال المراسلة عن طريق مكتب بريد ثالث يلعب دور الوسيط بين الفلسطينيين تحت الاحتلال وبين الفلسطينيين في البلدان العربية. تم اختيار مكتب بريد نيقوسيا (قبرص) وسيطا تعنون إليه الرسالة وبداخلها مغلف آخر لا يحمل طوابعَ، ومعنون إلى فلسطين المحتلة، أو إلى البلدان العربية مع قسيمة بريد دولية يتم استبدالها بطوابع من مكتب بريد قبرص تُلصق على المغلف كي ترسل لوجهتها. وبعد تقسيم نيقوسيا في عام 1974م انتقلت المسؤولية إلى مكتب بريد لندن كوسيط ثالث للتبادل البريدي واستمرت حتى اتفاقية كامب ديفيد في مارس عام 1979م التي سمحت بالتبادل البريدي مع مصر.

ومما يذكر أنه بعد فترة من احتلال عام 1967م، سمحت وزارة دفاع الاحتلال للفلسطينيين بالتبادل التجاري مع الأردن عن طريق جسر اللنبي، وبعدها سمحت لسفر التجار والراغبين في أداء مناسك الحج والعمرة، والعلاج، والسياحة، والدراسة التي عُرِفَتْ بالجسور المفتوحة؛ مما أسهم في أن بعض المغادرين عبر معبر الأردن كان يحمل الرسائل ويودعها في البريد الأردني، وكذلك يحملون معهم الرسائل في طريق عودتهم عبر جسر اللنبي وإيداعها في صندوق البريد بعد إلصاق الطوابع بها من مكتب بريد الاحتلال الذي أُنْشِئ لتنظيم العملية.

في منتصف السبعينيات نشطت وكالات السفر في عَمّان، من أبرزها مكتب الشرفا للسياحة والسفر، وشركة الحلبي للسياحة والسفر وشؤون الحج، الذين فتحوا لهم وكالة في غزة؛ مما أسهم في قيام شركات السياحة بدور فاعل لنقل البريد مقابل مبلغ رمزي بالإضافة لأجرة الطوابع، وأصبحت العملية أكثر تنظيمًا بحيث تجمع الرسائل بكيس من غزة، ويتم نقلها إلى عمان عبر سيارات نقل الركاب، وفي مكاتب السفريات تقوم بلصق الطوابع وتبعث بالبريد الأردني، وكذلك تجمع مكاتب السفريات في عمان الرسائل التي تصل إليها من البلدان العربية، ويكون بجوف الرسالة مغلف معنوناً إلى غزة يتم إخراجه وبعد عبور جسر اللنبي تلصق الطوابع على الرسالة، ويسلمها لمدير مكتب بريد الاحتلال؛ لتبعث إلى غزة.

 

بريد السلطة الفلسطينية 1994م

بعد اتفاق «أوسلو» في سبتمبر 1993م، واتفاق «القاهرة» في 4 مايو 1994م بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين إسرائيل الذي منح السلطة الفلسطينية الحكم الذاتي لقطاع غزة بأكمله ومنطقة أريحا في الضفة الغربية، انتقلت بموجبه الخدمة البريدية للإدارة الفلسطينية، ليسدل الستار في تاريخ 17 مايو على سبعة وعشرين عامًا من الإدارة العسكرية الإسرائيلية للبريد، فتم سحب جميع الأختام والطوابع الإسرائيلية من الأربعة عشرة مكتبًا للبريد في: مدينة غزة وعددها ثلاثة مكاتب بريدية، وفي الشيخ رضوان، جباليا، بيت لاهيا، بيت حانون، البريج، النصيرات، دير البلح، بني سهيلة، خان يونس ورفح إلى جانب أريحا. وكان من ضمن الشروط أم لا يذكر اسم فلسطين على الطوابع، وإنما يكتب اسم «السلطة الفلسطينية»، التي بدورها عمدت إلى طباعة ثلاثة إصدارات من الطوابع بمطبعة في برلين (ألمانيا)، الأول يحمل علم فلسطين ووزع في أوربا وأمريكا عن طريق وكالات بريدية، والثاني يحمل شعار السلطة الفلسطينية على هيئة الصقر، والثالث يحمل صورة المسجد الأقصى، وقصر هاشم، وكنيسة القيامة، وجاءت جميعها بتعرفة «المليم» التي كانت متداولة إبان عهد الانتداب البريطاني مما دفع إسرائيل لرفضها، فلجأت السلطة الفلسطينية في أبريل 1995م بالاتفاق مع الأردن لاستخدام فئات الفلس والدينار على الطوابع، ولكنها تباع في مكاتب البريد بما يعادل قيمتها بالشيكل الإسرائيلي.

في البداية قامت مكاتب بريد قطاع غزة بتوزيع البريد الوارد مع تقديم خدمة التحويلات المالية، وفي الأول من أغسطس أضيفت إليها خدمة البريد الصادر، ولكن لم تختم الطوابع لعدم توافر الأختام واستعيض بالقلم في شطب الطوابع. وفي الأول من يناير 1995م استخدمت أول أختام فلسطينية بمكاتب بريد غزة بعد عهود من الإدارات المتعاقبة: العثمانية، الانتداب البريطاني، المصرية، والعسكرية الإسرائيلية، وهي أختام دائرية الشكل ثنائية اللغة «عربي وإنجليزي» بداخلها خطان متوازيان يحملان التاريخ الميلادي صنعت في مصر، وبعد ثلاثة أشهر استبدلت بأختام تحمل مواصفات أكثر جودة صنعت في ألمانيا. وفي شهر يوليو فتحت ثلاثة مكاتب للبريد في قطاع غزة وهي: الزوايدة، عبسان، والمغازي. وفي شهر نوفمبر ضمت الضفة الغربية لإدارة السلطة الفلسطينية؛ مما سمح لخدمة البريد الخارجي مع استخدام طوابع تحمل تعرفة الفلس.

الآن، ومنذ السابع من أكتوبر العام الماضي دمر الاحتلال الإسرائيلي ما يقارب ثمانين بالمئة، أو يزيد من البنية التحتية لقطاع غزة من مؤسسات مدنية وجامعات ومدارس وكنائس ومساجد، وحصد ما يزيد عن المئة ألف ما بين شهيد ومصاب ومفقود، متجاوزاً كل الأعراف والقيم الإنسانية... لا شيء غير الخراب، ولكن حتمًا الإرادة الفلسطينية لن تنكسر، وستنتصر لتحيي أرض غزة وباقي المناطق الفلسطينية حتى إعلان دولة فلسطين على أرض فلسطين ■