أسئلة الرواية الفلسطينية

أسئلة الرواية الفلسطينية

   منذ سبعة عقود ونيّف، وتملأ القضية الفلسطينية الدنيا وتشغل الناس، وهي قد مرّت بمراحل تاريخية مختلفة، يتفاوت اهتمام العالم بها بين مرحلة وأخرى، فأحيانًا تُوضَع على طاولة أصحاب القرار، وأحيانًا تُوضَع في أدراجهم، ويكون على أصحاب القضية أن يذكّروا العالم بها، على طريقتهم، وبأساليب مختلفة. وإذا جاز لنا أن ننعش الذاكرة العربية بتلك القضية، يمكن التذكير أنها قضية شعب طُرِد من أرضه، واستُبيحت حقوقه المشروعة، وانتُهِكت مقدّساته، ونُهِبت موارده، وارتُكِبت بحقّه المجازر، وهُدِمت مدنه وقراه، وتمّ العبث بتاريخه، وأُجبر على النزوح عن أرضه واللجوء إلى مخيّمات في الداخل والخارج. وقد جرى ذلك كلّه على مرأى ومسمع من عالم حرٍّ لا يرى ولا يسمع، ومن مؤسّسات دولية تتّخذ القرارات ولا تقوم بتنفيذها. ومع هذا، لا يزال الشعب الفلسطيني يقاوم بشتّى السُّبل لتحرير أرضه واستعادة حقوقه المشروعة، ويبذل دون ذلك الغالي والنفيس.

 

  إزاء ذلك كلّه، كان لا بدّ للأدب من التصدّي لهذا الواقع، والتعبير عن تحوّلات القضية في مراحلها المختلفة، فيميط اللثام عن الوجه البشع للاحتلال وممارساته الوحشية، من جهة، ويبرز نضال الشعب الفلسطيني بتجلّياته المختلفة، من جهة ثانية. وتمخّض ذلك عن مئات الأعمال الأدبية في الأنواع المختلفة، وفي مقدّمتها الرواية التي اتّخذت من الواقع الفلسطيني ووقائعه القاسية مواد أولية لها، وراحت تُصنّعها في ضوء مقتضيات الفن الروائي. وإذا بنا إزاء عشرات الروايات التي تطرح أسئلة الواقع. وهي، بلا أدنى شك، كثيرة ومتنوّعة ومتغيّرة بتغيّر هذا الواقع. فما هي أبرز الأسئلة التي تطرحها الرواية الفلسطينية؟ هذا ما تتوخّى هذه القراءة الإجابة عنه في حدود الروايات التي قُيِّض لنا الاطلاع عليها، مع الإشارة إلى أن معظمها كتبه روائيون فلسطينيون وبعضها كتبه متحدّرون من أصول فلسطينية، فيصح فيها القول المأثور «شهد شاهد من أهله». 

في الإجابة عن السؤال المطروح أعلاه، يمكن القول إن الأسئلة التي تطرحها الرواية الفلسطينية تقسم إلى قسمين اثنين: أسئلة تتعلّق بالاحتلال الإسرائيلي وممارساته الاستعمارية التي طاولت الإنسان والمكان والزمان، وأسئلة تتعلّق بالشعب الفلسطيني ومقاومته المشروعة للاحتلال بما ملكت أيمانه. وثمة أسئلة أخرى تشترك فيها مع الرواية العربية وتخرج عن نطاق هذه القراءة. على أنّه لا بدّ من الإشارة، في هذا السياق، إلى أن الأسئلة المعالَجَة لا تشمل كلّ ما تطرحه الرواية الفلسطينية، عبر تاريخها الطويل، فذلك أكبر ممّا تتّسع له هذه العجالة، بل تقتصر على ما تطرحه الروايات المقروءة.

 

أسئلة الاحتلال

تتوزّع أسئلة القسم الأول الناجمة عن الاحتلال، بشكل مباشر أو غير مباشر، على: القدس، المعتقَل، المخيّم، الهجرة غير الشرعية، السلطة وغيرها. وكل من هذه الأسئلة تطرحه رواية واحدة أو أكثر، دون أن يعني ذلك أن الرواية الواحدة تقتصر على سؤال واحد فقط، فقد تتعدّد الأسئلة داخل الرواية، غير أن القراءة تتناول السؤال الأبرز بينها.

 

سؤال القدس

في روايته «حارة النصارى»، يطرح نبيل خوري سؤال القدس، والحارة هي إحدى حارات القدس التي تغدو رمزًا لها ولفلسطين ولا تعود مجرّد مكان محدّد. ويروي من خلال بطله يوسف حكاية شعب احتُلّت أرضه، وغدا مصيره في مهبّ رياح اللعبة الدولية، وتخلّت عنه الأنظمة، فانطلق يقاوم بإمكانات محدودة، في معركة غير متكافئة تنتهي بسقوط القدس واستشهاد بطل الرواية. ولعل استشهاده بعد سقوط القدس يأتي لينقض ذلك السقوط، من الناحيتين الفنية والفكرية، ويفتح الأحداث على مرحلة المقاومة. والسؤال نفسه يطرحه حسين ياسين في روايته «ضحى»، فيطرح قضية القدس، ومن خلالها فلسطين، وما طاولها من تهويد وتزوير للتاريخ والجغرافيا والهوية. وهو يفعل ذلك من خلال رصد التحوّلات التي تطرأ على الشخصية التي تحمل الرواية اسمها، جرّاء التفاعل بين استعداداتها والظروف المحيطة بها، فتتحوّل ضحى من فتاة متحرّرة، ثائرة، متمرّدة، حالمة بالعدل، إلى مهجّرة، فعاهرة، فزوجة عجوز عربي، فحبيبة شاعر فلسطيني، فعاهرة من جديد، فذبيحة من الوريد إلى الوريد. فهل أراد الكاتب أن يجعل من هذه الشخصية الضحية معادلًا روائيًّا للقدس التي عرفت بدورها تحوّلات طاولت تاريخها وجغرافيتها وهويتها؟ 

 

سؤال المعتقل

السؤال الثاني الذي تطرحه الرواية الفلسطينية هو سؤال المعتقل. وهو ما تفعله عائشة عودة في روايتها «أحلام»، انطلاقًا من تجربة ذاتية خاضتها في المعتقل الإسرائيلي، تتمخّض عن قدرة المرأة الفلسطينية على المواجهة والصمود والتحدي، على غرار الرجل. لذلك، نراها تنخرط في النضال منذ نعومة أظفارها، فتنتمي إلى حركة القوميين العرب في المرحلة الثانوية، وتشكّل خلية من بنات صفّها، وتشارك في أعمال المقاومة، حتى إذا ما اكتُشِف أمرها، تؤثر المواجهة والاعتقال والبقاء في الوطن على التخفّي والخروج إلى الأردن، ما يؤدي إلى اعتقالها وتعرّضها لأبشع أنواع التعذيب. غير أن ذلك لا يفتّ في عَضُدها، فتبدي صمودًا وتحدّيًا وإصرارًا على الحق، وتشعر بالندّية مع المحتل وبالتفوّق عليه أحيانًا، وتمارس فعل الصمود في المعتقل، من تذكّر الماضي، وتخيّل المستقبل، وكتابة أبيات الشعر، ورسم الأشجار على جدران الزنزانة. وهكذا، يجترح الفلسطيني آليات المواجهة بالوسائل المتاحة، ويعيش حريّته حتى داخل الزنزانة.

 

سؤال المخيّم

سؤال المخيّم هو ما يطرحه جلال جبارين في روايته «القمح المر»، فيتناول الحياة في مخيم الفوّار جنوبي الضفة الغربية والأوضاع المزرية لسكّانه، حيث يتضافر ضيق المكان وكثافة السكان وتراكم النفايات وتلوّث المياه وانقطاع الكهرباء وانعدام الخصوصية وقلّة فرص العمل مع ممارسات الاحتلال على امتهان إنسانية الإنسان والحؤول دون كرامة العيش. ويقول باستحالة بلوغ العلاقات خواتيمها المنشودة في ظل هذه الأوضاع، فلا النجاح يؤتي ثماره، ولا الحب يتكلّل بالارتباط، ولا العمل يُسمن من جوع، ولا الأمنيات تتحقّق. ففي المخيّم لا شيء دائم، وكلّ شيء معلّق حتى إشعار آخر. ذلك أن علاقات الجوار والصداقة والقرابة التي ترصدها الرواية بين بعض الأسر، على شكل ثنائيات علائقية، تتخذ مسارات متعثّرة، وتؤول إلى مصائر قاتمة. وعلى الرغم من بؤس الأوضاع، فإن إرادة الحياة تجعل سكان المخيّم يجترحون الفرح في مناسبات عادية، ويمارسون التضامن في أخرى، ما يعكس قدرة الفلسطيني على التكيّف في جميع الظروف.   

 

سؤال السلطة

وإذا كانت الأسئلة المطروحة أعلاه تعكس التداعيات المباشرة للاحتلال على الواقع الفلسطيني، فإن أسئلة أخرى تطرحها روايات أخرى تعكس التداعيات غير المباشرة للاحتلال على هذا الواقع، من قبيل: سوء استخدام السلطة، الهجرة غير الشرعية وغيرهما. ففي روايتها «امرأة خارج الزمن»، تطرح سلوى البنا سؤال السلطة، وترصد حركة الحياة في مخيم  للاجئين الفلسطينيين، في دولة عربية، في مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي، واللجوء هو إحدى التداعيات غير المباشرة للاحتلال، وتقوم بتعرية ممارسات الثورة حين راحت تتخلّق بأخلاق السلطة وتنزلق إلى تسلّط أمني تكون له تداعياته على علاقتها بسكان المخيّم. ذلك أن البنا تستعيد، في ليلة واحدة، ذكريات تتناثر على أربعين عامًا، على لسان بطلتها مها سليم، تحت تأثير البنج خلال خضوعها لعملية جراحية. تتمظهر فيها السلطوية في: الفساد، سوء استخدام السلطة، قمع الرأي الآخر، كمّ الأفواه، تصفية المعارضين، قتل القتيل والسير في جنازته، وغيرها. ولعل استعادة البنا الذكريات على لسان امرأة مبنّجة هي نوع من التقية الروائية تحاول به التنصّل ممّا قد يترتب على تلك الاستعادة من نتائج.

 

سؤال الهجرة غير الشرعية

  هذه الممارسات معطوفة على بؤس الحياة في مخيمات اللاجئين هي التي حدت بكثيرين منهم إلى تجشّم مخاطر الهجرة غير الشرعية ودفع الأثمان الغالية جرّاء ذلك. وهو ما يطرحه يسري الغول في «مشانق العتمة». ففي السلك الفلسطيني من الرواية، نقع على معاناة الفلسطيني، داخل الوطن وخارجه. في الداخل تطارده لعنة الاحتلال والصراع بين الإخوة، وفي الخارج تحلّ عليه «بَرَكَة» الأنظمة الحاكمة، وتُلفّق له التهم بالإرهاب، وتوصد دونه سبل العيش الكريم، ما يضعه أمام خيارين أحلاهما مر، المعاناة أو الرحيل، حتى إذا ما اختار الثاني، يكون الغرق بانتظاره. وهو ما يحدث للزوجين يونس وهاجر في هجرتهما غير الشرعية، فيغرق هو وطفله في البحر، وتكتب لها النجاة. ولعل تنظيمها معرضًا لمتعلّقات الزوج والطفل في بروكسل، في موعد لاحق، يشكّل إشارة روائية إلى استمرار القضية بمن يبقى.  

 

أسئلة المقاومة

  إذا كانت الرواية الفلسطينية في الأمثلة المذكورة أعلاه تطرح أسئلة الاحتلال بتداعياته المباشرة وغير المباشرة، وبتمظهراته المختلفة، وهي مسألة مهمّة بطبيعة الحال، فإن الأهم أن تطرح أسئلة المقاومة بتجلّياتها المتعدّدة، وهو ما يُشكّل القسم الثاني من الأسئلة في هذه القراءة، تلك التي تتوزّع على أسئلة: التاريخ، الذاكرة، الانتماء، المقاومة، الأرض، الإرادة، المكان وغيرها. ولعل السؤال الأول هو الأكثر طرحًا في هذه الرواية. 

 

 

سؤال التاريخ

  في «قناديل ملك الجليل»، الحلقة الأولى من ثمانيّته الروائية التي تغطي 250 عامًا من التاريخ الفلسطيني، يتناول إبراهيم نصرالله شخصية ظاهر العمر الزيداني، فيرصد حركته على الأرض الفلسطينية وما جاورها، ويضيء قرابة قرن من التاريخ الفلسطيني الحديث، بين نهايات القرن السابع عشر ونهايات القرن الثامن عشر، ويطلّ من الخاص على العام، ومن الفردي على الجماعي، ومن المحلّي على الإقليمي، ما يجعل سيرة الشخصية تاريخًا لبلادها. وتتمخّض هذه العمليات عن شخصية قيادية وإنسانية، هي أقرب إلى المثال منها إلى الواقع، غير أنها حين تخلط بين مقتضيات الحكم والاعتبارات الخاصة تفقد السيطرة، وتؤول إلى نهاية فاجعة. هذه السيرة الخاصة يضعها الكاتب في فضاء عام  ملحمي، يختلط فيه الأبطال بالضحايا، والمخلصون بالخونة، والمصالح السياسية بالعواطف الشخصية، والسيرة بالتاريخ، والواقع بالخيال. ويستعر فيه صراع مركّب على السلطة ينخرط فيه الإخوة والولاة والقبائل والدول، كلٌّ من موقعه، وينجلي عن حقيقة أن البقاء للأقوى، وأن القرار المحلي لا يستطيع أن يكون بمنأى عن الإقليمي والدولي، وما أشبه الأمس باليوم! 

 

سؤال الذاكرة

 وإذا كان التاريخ هو الذاكرة الكتابية للشعوب، فإن الذاكرة هي تاريخها الشفاهي. وبذلك، يشكل الحفاظ على الذاكرة وتوثيق الذكريات نوعًا من مقاومة تزوير التاريخ وحرفه عن مساره. سؤال الذاكرة يطرحه إلياس خوري في «باب الشمس» حين يلملم الذاكرة، يرفو ثقوبها، يرمّم تصدّعاتها، ويصوغ الحكاية الفلسطينية بالوقائع والأسماء في مواجهة الحكاية الإسرائيلية المستندة إلى الخرافات والأساطير. وهو يستعيد قرابة نصف قرن من حكاية الفلسطيني في نزوحه وتشرّده وتسلّله ومقاومته وانكساره، بين عامي 1948 و1995، من خلال العلاقة بين يونس بطل الرواية الداخل في غيبوبة والطبيب المعالج خليل الذي يلازمه طيلة سبعة أشهر من غيبوبته، ويحكي له حكايته، بدءًا من ولادة يونس عين الزيتون في فضاء عكا لأبٍ أعمى يستحمّ بالتراب، مرورًا بزواجه من نهيلة، والالتحاق بالجهاد المقدّس، والانتقال إلى دير الأسد، والنزوح إلى لبنان، والتسلّل إلى مغارة «باب الشمس» التي يلتقي فيها بنهيلة، والانخراط في العمل الفدائي، وانتهاءً بمواجهة الحرب الإسرائيلية على المخيمات. على أن الراوي يرمي من الحكي إلى تحقيق هدفين اثنين؛ إخراج المريض من غيبوبته وإنقاذه من الموت، من جهة، ومحاولة الراوي العيش بعد أن تقطّعت به سبله، من جهة ثانية. وبذلك، يشكّل الحكي معادلًا للحياة، والدليل على ذلك أن يونس يموت فور توقّف خليل عن الحكي. ولعل خوري بإقدامه على جمع الحكايات، الواقعية والمتخيّلة، يحاول إنقاذ الذاكرة من الموت وصوغ تاريخ حي يعصى على التزوير.

   

سؤال الانتماء

لعمري إن هذه السلوكيات الموزّعة على ترميم الذاكرة وجمع الحكايات ونقل الإرث وحفظ التراث وزيارة مسقط رأس الآباء والأجداد وغيرها، إنما هي ناجمة عن قوة الانتماء الذي تغرسه الهوية الفلسطينية في أصحابها، فتدفعهم إلى البحث عنها والتعلّق بها والعودة إلى الجذور ومكابدة التضحيات لتحقيق هذا الهدف المركّب. وهو ما يتناول يحيى يخلف في «جنة ونار» الذي يطرح سؤال الانتماء من خلال شخصية سماء، الفتاة الجامعية الفلسطينية المقيمة مع أسرتها في كورنيش المزرعة، فحين تعلم أن هذه الأسرة ليست أسرتها الحقيقية، وأنها قد تبنّتها بعد أن عثرت عليها طفلة رضيعة بين الأشواك في العام 1948، عند باب التم قرب بحيرة طبرية، وعلى مقربة منها كيس صغير وشال عليهما رسوم ومطرّزات، تقرّر البحث عن أسرتها الحقيقية، وتأخذ من الكيس والشال رأس خيط في عملية مضنية، تقودها من بيروت إلى مخيّم اليرموك في دمشق، إلى الأردن، ففلسطين، حيث تعثر على أمّها الطبيعية، بالتزامن مع العودة إلى الوطن، ما يقيم تعادلًا جميلًا بين الأم والأمة. وفي هذه العملية، تستعين البطلة بالأنثروبولوجيا في تحليل الرسوم والمطرّزات، والتقصّي الميداني، والبحث التاريخي، والمعرفة التراثية، والخبرة الطويلة، والعمل المباشر، ويساعدها الداخل الفلسطيني. وهكذا، تقول الرواية إن العودة إلى الأم/ الأمة لا تتحقق بالشعوذة والتبصير والغيبيات بل بمعرفة التاريخ والتراث والحضارة وبالعمل المباشر. 

 

 سؤال الأرض

على أن العودة إلى الأرض ليست زيارة سياحية إليها، ولكي تؤتي ثمارها يجب أن تقترن بالتجذّر فيها واستنبات خيراتها ما يعزّز مقوّمات صمود أهلها فيها. وفي هذا السياق، يطرح مروان عبدالعال سؤال الأرض في «60 مليون زهرة» التي تقوم روائيتها على علاقة جدلية بين: إطار واقعي سحري، تنهض به شخصيات غريبة الأطوار، تفتقر إلى التوازن النفسي، وتعيش داخل أوهامها وتصوّراتها وأحلام يقظتها، وتتم تسميتها بأسماء الجنس، ومحتوى واقعي، تنهض به شخصيات مقاومة، تعمل في الأرض، وتدافع عنها، وتتكامل فيما بينها، وتتم تسميتها بأسماء العلم. ومن خلال هذه العلاقة الجدلية، يتم تفكيك الواقع الفلسطيني في غزة المؤمن بحتمية التحرير، فيشكّل الانسحاب المفاجئ من المستوطنات، من جهة، وإصرار مزارعي غزة على زراعة الزهر وتصديره، من جهة ثانية، مؤشّرين على تحقيق تلك الحتمية. 

 

سؤال العمل الفدائي

  إلى ذلك، إن العودة إلى الأرض والتجذّر فيها واستنبات خيراتها تقتضي حمايتها من المتربّصين بها اغتصابًا والدفاع عنها. ولعل العمل الفدائي هو من أولى الوسائل التي استخدمها الفلسطينيون لتحقيق ذلك. وهو ما تطرحه جمال سليم نويهض في رواية «الفدائي». فترصد حركة العمل الفدائي في فلسطين ودول الطوق العربي، من خلال شخصية الغزاوي خالد حمدان، من جهة، وترصد بالتزامن معه حركة الشتات الفلسطيني، داخل فلسطين وخارجها، من خلال أسرة خالد، في تنقلاتها القسرية هربًا من خطر، أو بحثًا عن أمن، أو مواكبة لحركة العمل، من جهة ثانية. هي لا ترصد هاتين الحركتين بمعزل عن حركة التاريخ وتمظهراتها الكبرى، فتضع الأحداث الخاصة في الإطار العام، وترسم الخلفية التاريخية للأحداث. وهكذا، يتفاعل الخاص والعام، والسيرة والتاريخ، في فضاء شبه ملحمي، فلا تعود الرواية مجرّد رصد لحركة الشخصيات في مكان وزمان معيّنين، بل تغدو تأريخًا بالرواية لشعب مناضل في سعيه العنيد إلى التحرّر من ربقة الاحتلال وبناء مستقبله المنشود.   

  وعود على بدء، هذا غيض من فيض الأسئلة التي يزخر بها الواقع الفلسطيني الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس، منذ سبعة عقود ونيّف، ولأن الواقع متغير باستمرار، فإن الأسئلة تتغير معه، ما يجعل الإمساك بها على قدر كبير من الصعوبة. ومع هذا، استطاعت الرواية الفلسطينية أن تواكب الواقع في تغيّره المستمر، وأن تطرح ما أمكن من أسئلته، لعلها تسهم في تغييره في مصلحة الأرض والإنسان، وبذلك، تكون في قلب العملية الأدبية التي تحاول تحويل الواقع إلى فضاء صالحٍ للحياة. فهل تنجح في اجتهادها فتنال أجري المحاولة والنجاح أم تخفق فتكتفي بنيلها شرف المحاولة؟ ■