لي بيت هناك

 لي بيت هناك

لحظة وصول صوته عبر الهاتف، يرد الصدى، يقول لي:

- لا أحد.

- أين ذهبوا؟!

- لحقوا بالجموع لحظة تناثرت على بيوتهم نشرات تحذرهم من البقاء، وأنهم إن بقوا ستنسف بيوتهم على رؤوسهم. أنا جئت إلى بيت خالي، قلت له: «اذهب وزوجتك وأحفادك الصغار وأنا باق هنا». صرخت أمي، صارت تهذي أنها لن تتركني وحيدًا، صرت أنا وهي في ردهات داركم خالتي الغالية، لم يبق سواي وهي تركن إلى مقعدها ما بين الصحو والبكاء.

 

هي شقيقتي «بهادر» وكأن دمعاتها تغرقني، تلاحقها الغارات والقنابل الحارقة منذ طفولتها، وصيف 67 كانت تصرخ في فراشها، تصارع الخوف والضياع، يسرع إليها والدي من قلب العتمة يضمها إليه، يهدئ من روعها، وأنا إلى جوارها ألتمس بعضًا من أماني حيث أبي الذي لم يتوقف قلبه عن إزاحة الخوف من قلوبنا، واليوم يمضي الوقت والسنوات وكأن «بهادر» على ذات موعدها معهم، قصف ونيران وزلازل من أتون حقدهم وإجرامهم، عادت تصرخ، وعاد حضن ابنها يحتوي هذيان روحها وقلبها.

ساد «سكون باكي» وقبل أن تسقط دمعة يصلني صوته:

- لا تخافي خالتي أنا لي قلب أسد.

- منذ سنوات بعيدة لم آت إلى بيتنا يا «نسيم»، لكني تركت مطارح أقدامي هناك، حيث أنت.

- هل لي أن أعيدك من جديد خالتي وآخذك هنا، حيث أنا وأمي، قد يزور قلبها الفرح.

- كيف ستعيدني يا نسيم؟ كيف؟!!

- لدي بطاقة شحن في هاتفي قبل أن تحتله العتمة سأصور لك البيت وكأنك هنا، بيننا، وآخذك إلى كل مكان فيه، سنستعيد الفرح ونستعيد روح الحياة.

سكت الصوت وبدأت عين الكاميرا تفك قيدها وتمرح في براح بيت لا زال يقاوم الكسر والقهر والدمار، يقاوم من روح أبي الذي بنى وزرع وترك لنا حصاد زرعه ليرثه الأبناء والأحفاد، جيل بعد جيل، يقف «نسيم» على أول ممر دارنا الذي تظلله عريش داليات عنب زرعتها يد أبي، الأخضر يسكن سماء ممر بيتنا الطويل، داليات العنب تعانق أوراق شجر البرتقال وتركن إلى سكونها حيث حبات زيتون حان وقت قطافها، هو زيتون بيتنا، هي داليات العنب، هو شجر البرتقال الذي كانت تضمني أغصانه، حين كنت أرتقي إلى أعلى فروعه أعانق زرقة السماء وأقطف البرتقال، أزيح قشوره لتصير حباته في يدي وأنا أجلس أعلى الشجرة حيث فضاء بيتنا الذي غزله أبي من روح الأخضر، ذهبت الكاميرا خلف الدار ونسيم يسابق خطواته حيث شجرة التين التي كان أبي يقطف من ثمارها، يناولنا حبات التين وهو يلاحق خطواتنا وألعابنا في حديقة من روحه وقلبه، وفي الزاوية البعيدة بيت الحمام الذي بناه أبي، فتحات بيوت الحمام تحوط ظهر بيتنا، ينشد الحمام في الصبح أنشودة وطن، ويحط في بيت بناه أبي يعانق سلامه وسكينته.

 

أبطال الحكاية

عين الكاميرا لازالت تدور هناك، غرفة الخزين التي كنت أذهب إليها وأنسج من زواياها خيالات وشخوص أتحدث إليهم وتكبر حكايات من خيال حيث حجرة خلف بيتنا، هناك تركت أبطال الحكاية في علب كرتونية ومقاعد خشبية لازالت هناك وهم لازالوا ينشدون حكايات كتبناها معًا، قد تعود إليهم من كتبتها معهم، قد تعود...

عين الكاميرا وقد فك قيدها تذهب إلى سور بيتنا الذي لازال يحفظ مطارح مجلسي عليه وأنا أرنو إلى حديقة جيراننا، كان لديهم بركة ماء، كنت أسأل «لماذا لم يبن أبي بركة ماء كما جيراننا؟!!...» بنات جيراننا ما أن يرونني في مجلسي حتى أراهن أمامي يقفن يتحدثن معي، عن أخواتي في الدار، عن أمي وعن أحوال دراستي، كن يقطفن لي حبات الكرز والتفاح، سور بيتنا كان يعتلي حديقتهن، تمتد أيديهن وهن يكبشن حبات الكرز لتركن إلى راحة يدي، هي ثمار حديقة زرعتها يد والدهن، حكايات لنا لا تنتهي، وصوت ضحكاتنا لا زال يعانق سور بيتنا وزهرات حبات الكرز...

 

***  ***

تمضي عين الكاميرا حيث شجرة زيتون وشجرة لوز تطل من حديقة الجيران وشرفة بيتنا ودرجات تتماهى وبداية ممرنا الطويل، مجلسنا على حافة درجات الشرفة في صحبة أمنا نجلس وضحكات الحب لا تغادر وكيف كنا نذكر بعضنا بألا نقطف قطوف العنب وهي خضراء حتى يكتمل نضجها كما كان ينبهنا والدي، في مجلسنا نرنو إلى دالية عنب تحمل قطوفها بطعم المانجو زرعتها يد والدي وأضاف إليها عبق المانجو فصارت عنبا بطعم المانجو...

 

***  ***

هو باب بيتنا الحديدي الذي ينتهي عند آخر ممرنا الطويل، أختي «بسمة» حين كانت تتعلق به، تدفعه بقدمها الصغيرة فيذهب بها بعيدًا ويعيدها مرة ومرات وأنا حين أجده موصدًا أتعلق بحلقاته وأسقط جسدي داخل البيت، فيتلقفني ممر بيتنا الطويل...

على حافة ممرنا أجلس تحت ظلال تكعيبة العنب ومن حولي أوراق شجر الليمون، أرنو إلى حباته وهي تعانق خيوط الشمس.

تحت جدار شرفتنا توقفت عين الكاميرا، المقاعد الخشبية صارت خواء وفنجان قهوة أمي رحل عن طاولتها، أمي وأحاديثها التي تظللها شجرات البرتقال.

عين الكاميرا توقفت على حافة مقعد كانت تجلس عليه أمي، أكتب إلى نسيم:

- أين أنت؟!

لا أحد... يصلني صوت هدير الطائرات وارتطام صواريخهم على أرض لم تغادر ربيعها، هي نيران حقدهم، فصار الوقت حريقا، هي دقائق وسكن الصوت وعاد نسيم يكتب لي:

- أنا الآن في زاوية معتمة في داخل الدار، كادت نيران قذائفهم أن تلاحق خطواتي وعدسة هاتفي، لكني لن أتوقف وسأرسل لك من ذاكرة مكان نعشق مواقيته، أنا هنا في حجرة جدي في الطابق العلوي، عادت عين الكاميرا تأخذني حيث سرير والدي وشباك غرفته الذي منه كنت أرنو لداليات عنب كما بساط أخضر يتمدد حتى يعانق جدران البيت ويعتلي شباك حجرته، سرير والدي خاو لم يعد في حجرته أحد، عين عدسة التصوير غادرت حجرته حيث حجرتي التي كانت إلى جواره، هناك رأيت سريري وكتبي ونافذة كنت أتنفس منها عبق وطن لم يغادرني.

«نسيم» يرتقي درجات البيت وينزل من جديد وأنا من كانت على حافة ذات الدرج حين كنت أترك جسدي ينزلق حتى بداية الدرجات الأولى، لتطالعني مرآة وصنبور مياه، هناك يقف أبي في صباح كل يوم وحين يراني يقول لي:

- أين صباح الخير؟!....

أرنو إلى ملامح وجهه وقد أصابني الخجل، يصلني صوته الحنون:

- صباح الخير يا ست بشرى.

رحل الصبح عني منذ غابت شمسه وصار شروقها في روحي ودمي، هناك كان للصبح مواقيته ونوره الذي أهدانا كل الحب.

 

كل الذكريات

عين العدسة دخلت الحجرات ومقاعد لملمنا من عليها حكاياتنا ولوحات يطل منها وجه أبي وأخواتي...

لحظات خاطفة من عين الكاميرا وقد أطل ممر ضيق صغير ما بين حجرات بيتنا، ممر على جانبه خزانات خشبية، رفوفها رخامية، منها خزانة ملابسي هناك تركت شال الحرير وثوبًا نقشت عليه جدتي أسماء كنعان، أسفل باب الخزانة رف أرضي لا أنسى أنني جعلت منه بيتا لقنفذ أحببته، أطل بيت القنفذ وممر ضيق بين الحجرات كنت أنبطح بجسدي على بلاطاته لأفتح باب الخزانه وأرنو إليه، أناوله طعامه وأغلق عليه وأقيم طولي، وأمي التي كانت لا تطيق وجوده في محيط خزانتي، هو ذلك الممر الضيق الذي يحمل في قلبي كل الذكريات... حرب 67 وكيف كان أبي يلملم خوفنا لنجلس جميعنا على أرض الممر الضيق، قد تحمينا حوائط الحجرات الخلفية من قذائف طائراتهم، نجلس نلوذ بصمتنا، بخوفنا، أبي مَن يمرر السلام إلى قلوبنا، من صمته يهدينا كل الأمان، وفي الليل يحملنا إلى أسرتنا في حجرات نومنا كي لا تنهشنا قذائف اجرامهم وتغتال الحياة والطفولة فينا.

***  ***

«نسيم» يسابق الوقت، قد لا تعود عدسة الهاتف من جديد وتتهدم جدران البيت وتحرق داليات العنب، الزيتون، حبات الكرز، مضى أخي «عمر» وترك روحه في بيت والدي، وحبات قهوة أرسلها لي حيث مدن المنافي البعيدة، قهوة لا زال عبقها يسكن جدران بيتي، صرت أنا وحبات قهوة جاءت في لفافة وقد كتب عليها حروف اسمي، هي الهدية من قلب أخي الذي رحل وكف يده تقبض على روح الوجع...

عاد القصف من جديد، تناثرت أبواب الدار، لم يعد سرير والدي، احترقت كتبي، تطايرت أبواب خزانتي، تهدم بيت القنفذ، مسجد «فلسطين» على تلة رملية، تلاحقه قذائفهم، تناثرت مئذنته على سطح بيتنا، مسجد «فلسطين» كنا ووالدي نذهب إليه في مواقيت الصلاة، غاب الصوت، وأطلت العتمة، لم يعد هاتفي يكتب ولم يعد «نسيم» يقرأ حروفي، صارت مدينتنا «غزة» مدينة الحلم الطويل حريق... حريق ■