قصة يوميات حلا
شاهدتها فجأة، وأنا أنفض الغبار عن الكراس الذي سقط من الركام على يدي. هي نفسها، حلا، طفلة السنوات الثماني، تنهض من الركام... تركض نحوي، في غمامة من الدخان والغبار... تقبل نحوي بعينيها اللازورديتين الواسعتين، مشعتين بالفرح، يضيء بياض وجهها الجميل الصغير... يداها ترفعان لكاميرا هاتفي، رسمها الفائز في مسابقة الأطفال.
أسرعت أبدأ الحوار، قبل أن يحل طارئ يمنع التصوير لطفلة المخيم الفائزة بجائزة الرسم في مسابقة عالمية للأطفال... رحب الجميع بي، الأم والجدة والإخوة الصغار المتشوقون لمشاهدة الحوار على اليوتيوب، كما وعدتهم، لتشجيع أبناء المخيم على المشاركة في مسابقات قادمة، تعرف بالمبدعين الصغار.
عادت حلا تطير في الغبار... تنشر عجلى رسومها أمامي... ترمقني بعينها المتوقدة من حين لآخر.
- هذه بيارة الزيتون الخضراء، كما حدثتني عنها جدتي... قبل أن تقتلع العصابات الهاجمة الأشجار.
خضرة يانعة حية لونت بها الأشجار الوارفة، تناثرت بينها حبات الزيتون السوداء، كبيرة، تلتمع تحت الشمس، على الأغصان.
- وهذا زورق أبي، بألوان قوس قزح لونته. كان أبي يبحر به للصيد ويأتينا فيه بالسمك... نراه أحيانًا يتقافز حيًا في قاع القارب. ولكنهم حطموه، قبل أن يأخذوا أبي.
وهذا باب بيتنا المقوس المنقوش، كما أراد جدي، قبل أن يخرجونا منه بالقوة، ونأتي إلى المخيم... كنت أجلس على عتبته طفلة وألهو مع قطتي.
رفعت حلا رأسها إلي، وقصة شعرها تنساب على بياض الجبين المرفوع والنظرة الشاسعة السائلة تشع بالألوان.
- أعجبتك عمو؟
أشرق وجهها بابتسامة واسعة وأنا أقول:
- أنت فنانة حقًا! رسومك رائعة يا حلا.
وطارت من أمامي... وطار معها الكراس، قبل أن تقبض يدي المفتوحة عليه. أسرعت أورقه، أرفع هاتفي، أصور بعض الصفحات، قبل أن يعود القصف.
10 أكتوبر ــ 2023
قالت لنا سيدتي اليوم في المدرسة «ارسموا وجه شخص تحبونه». سريعًا خطر أبي، أبي الغائب عنا منذ أكثر من عامين. خطفوه من بيتنا ونحن نائمين ورموه ظلمًا في سجنهم بعد أن كسروا الزورق. أصبح بيتنا كئيبًا خاويًا، رغم وجود ستي معنا. أبكي أحيانًا وأخفي دموعي في الوسادة كلما أوجعني الشوق إليه.
- سنعلق أحسن الرسوم على جدران القسم. قالت مدرستي.
سريعًا أخذت قلمي الرصاص وأقلامي الملونة وانكببت بشوقي ومحبتي أرسم وجه أبي.
حين كاد رسمي يكتمل، مرت سيدتي حذوي. هللت بصوت مشجع مبتهج:
- رائع رسمك! أحسنت يا حلا.
ورفعت الرسم بين يديها. تأملته.
- إنه يشبه أحد الثوار الكبار في العالم. أتعرفين من هو؟
عدت أتأمل وجه أبي الذي خطت أصابعي. تذكرت... بدا شبيهًا بوجه غلاف كتاب كان يطالعه أبي، ويضعه في واجهة المكتبة، كتب عليه العنوان كبيرًا «تشي غيفارا». انتبهت إلى أن لهما نفس العينين السوداوين الكبيرتين، تشعان بقوة، كذلك الشعر الأسود المسترسل، والشفتين المزمومتين.
ابتسمت سيدتي ونظراتنا تلتقي.
- سأعلق رسمك على الجدار. اكتبي اسمك أولاً، واسم أبيك.
فرحت باستحسان المدرسة ونظرات كل الرفاق تتعلق برسمي. ولكن، كان فرحي أكبر بأبي الذي أطل علي، في القسم، عاليًا، تحضنني نظرته الحانية، لا تفارقني.
طلبت من سيدتي أن آخذ رسمي معي في نهاية الحصة. طرت به إلى أمي وستي.
تهلل وجه ستي بالفرح والحنين. قبلت الصورة وحضنتني وعيناها تلمعان بالدموع. وعدتني أن تقدمها لأبي، إن سمحوا لها يومًا بالزيارة. ستقول له إنها هدية من ابنته المشتاقة إليه «حلا» و...
... لم تكمل كلامها، إذ ثقبت أسماعنا الطائرات تشق السماء، وأصداء قصف وانفجارات بعيدة تتوالى...
الأربعاء 11 أكتوبر ــ 2023
في طريقنا إلى المدرسة، عادت الطائرات تمرق فوق رؤوسنا، تلقي المناشير المتطايرة مع الريح... «إنذار أخير. اتركوا الديار إلى الحدود».
أمسكنا المناشير. لعبنا بها في طريقنا. حولناها طائرات ورقية وركضنا إلى المدرسة، نطيرها ساخرين... كيف نترك ديارنا؟... ليقصفوا البيوت، ونسكن الخيام؟... تذكرت حكايات ستي وما فعلوا بها صغيرة يوم قدم الغرباء المسلحون إلى البلدة، وأخرجوها مع أهلها، مهددين بالسلاح... ليهدموا بعدها البيوت. قتلوا أخاها وجدّها إذ رفضا الخروج.
عادت الطائرات تحوم فوقنا، تعلو وتنخفض، تكاد تسحقنا ناثرة المناشير. رفعنا إليها رؤوسنا وركضنا طائرين إلى المدرسة.
لم يكد ينتصف النهار، في طريق العودة إلى بيوتنا، هبت الطائرات صارخة في السماء. لم تعد المناشير أوراقًا. صارت قنابل تقصف الطريق والديار... تفجرت الأرض بالدخان الكثيف... طرت مع رفاقي هاربين من القصف، نكاد نعمى من كثافة الدخان.
حين وصلت بيتنا، لم أصدق أني نجوت من القصف... حضنتني أمي بقوة حالما دخلت... عندما هدأ القصف، أسرعت أطل من النافذة... حدقت في كتلة السواد الهائلة الطالعة من ناحية المدرسة. حدقت في اللهب الطالع مع الدخان هناك... حدقت... لم أجد المدرسة... لقد تحولت إلى كومة من خراب. ارتميت في حضن أمي باكية، أبكي أقسامنا وساحتنا ومعلمينا... تذكرت بغتة أني أنقذت أبي من القصف والحريق. كففت دمعي ومضيت أتفقد أبي خلف بلور واجهة المكتبة، وأمي تعدني بأني سأعود أدرس، سنعود ندرس، حتى لو هدموا المدرسة... أخذت رسم أبي من واجهة المكتبة حذو «تشي غيفارا»، وأمي تشد بيديها كتفي، قبلته ووعدته، سأعود أدرس، حتى لو هدموا المدرسة، وسأصير يومًا ما أريد... طبيبة كما وعدتك... سنصير يومًا ما نريد.
الخميس 12 أكتوبر ــ 2023
أفقت على وجع حارق في حلقي هذا الصباح. مضيت أفتح الحنفية لأشرب، وأبلل حلقي المجروح... لا قطرة ماء تنزل. التفت إلى أمي سائلة... مضت تسأل الجيران.
- لقد قطعوا الماء عن كل البيوت التي سلمت من القصف. قالت، وهي تمدني بنصف كأس حليب ساخن.
مضيت مع إخوتي الصغار، بالأسطل والأواني نتسابق إلى دار عمي المحاذية، مسرعين، قبل أن يعود القصف، لنملأ الأواني من البئر الباقية هناك. عدنا بالأوعية المليئة بالماء، ساخرين ممن قطعوا الماء عنا. قال أخي جهاد ابن العشر سنوات:
- سنحفر بئرًا جديدة.
حين وصلنا بيتنا، وجدنا ستي تدعو الله وتلعن المغتصبين والظالمين... لقد قطعوا أيضًا الكهرباء.
حين أشعلت أمي في الليل شمعة، انزويت في ركن بعيد عن إخوتي وفتحت كراسي. لم أكن خائفة بقدر ما كنت حزينة. بدأت أكتب أحداث يومي، وأمي تقطع الغرفة ذهابًا وإيابًا، تمسك هاتفها وتحاول الاتصال بأخيها خارج المدينة المحاصرة، وأضواء الشمعة تنوس، تتراقص ظلالها عليها وعلى ورقي.
هب صوتها فجأة، محتقنًا بالقهر والغضب:
- «الإنترنت» مقطوعة.. كل الاتصالات مقطوعة... رباه، رحمتك وعونك.
الجمعة 13 أكتوبر ــ 2023
اشتعل الليل فجأة بالقنابل المضيئة وقد عادت الطائرات تلقي المناشير لنترك البيوت. شاهدت وجه أمي المتعب، يتصلب وعيناها تبرقان... تطفو في لمعانهما وجوهنا، نحن أطفالها الست.
- لن نخرج... لن نترك دارنا...
وضمتنا في أحضانها. كانت ستي تصلي وتدعو ربنا. تلتفت إلينا وتعود للدعاء، عيناها في السماء... الله معنا... الله معنا.
في ضوء الانفجارات والحرائق، بدت البنايات المحاذية للمدرسة ركامًا... هناك يسكن رفاقي في القسم، سليم وجهاد وشام ولينا وجنى...و... كدت أجهش بالبكاء، ولكني كتمت دمعي أمام إخوتي الصغار وركضت إلى قلمي، أصابعي تتوتر وترتعش... أمسكت بقوة القلم وشرعت أرسم في بقايا ضوء النيران، أصدقائي الغائبين في ساحة المدرسة، يركضون ويلعبون تحت الأشجار التي اختفت... يطير جهاد، يتحول عصفورًا لا تطاله الطائرات.
السبت 14 أكتوبر ــ 2023
فكرة مثيرة أطلقها اليوم الكبار... أمام توالي القصف وسقوط المئات والآلاف تحت الأنقاض، كتابة أسماء الأطفال على الكتف أو الذراع للتعرف عليهم حال السقوط جرحى أو قتلى تحت الركام... رغم الخوف، بدت لي الفكرة مدهشة... لم أكن خائفة بقدر ما كنت معجبة بفكرة الرسم. أسرعت أنفذ الوصية قبل أن تفعل أمي ذلك. أخذت قلمي الأسود الجاف ورسمت على بياض زندي بخط واضح جميل اسمي. عدت أمرر القلم مرة أخرى ضاغطة على الحروف لتصبح وشمًا لا يمحى... حلا... حول الحروف الثلاث، رسمت طيورًا ملوّنة بالأحمر والأخضر والأسود، ترفرف وتحرس اسمي. أسدلت كم فستاني المزهر، بعد أن شهدت أمي توقيعي على بياض الزند.
ارتج البيت فجأة حولنا، وتساقط الزجاج مكسورا من النوافذ... القصف جد قريب... طرنا إلى حضن أمي. فتحت ستي ذراعيها وصدرها لنا... حشرتنا في الزاوية البعيدة.
-النار تشتعل في المستشفى... هناك أخي باسل...
صرخت أمي وهي تلتفت إلى النافذة المكسورة. بدا جبل من الدخان الأسود الكثيف يطلع مع النار من هناك.
- رحماك يارب... رحماك...
ارتفع صوت أختي الرضيعة صارخًا بالبكاء، وعلا صوت ستي المبتهل... حسبنا الله ونعم الوكيل... حسبنا الله ونعم الوكيل.
أمام عيوننا المحدقة، كان الدخان الكثيف يتعالى إلى السماء ويهجم خانقًا من النافذة المكسورة.
... رميت قلمي لأرتمي في حضن يما...
هبت صرخة أحد الشباب الباحثين عن الناجين، تحت السقوف المنهارة، من الغارة الأخيرة... صاح مستنجدًا... تركت التصوير ورميت هاتفي في سترتي المعلنة «صحافة»... سقط من يدي كراس حلا... تركت الريح العاصفة تورق اليوميات مع الغبار.
-ارفعوا معي...
صاح الشاب أمام السقوف المنهارة.
بدت من بين أسلاك الحديد الماسك بقايا الخرسانة، قدمان صغيرتان بيضاوان، وقد انطبق عليهما السقف المنهار... في محاولة لرفع بقايا السقف المهدوم، تدلت مزق ثوب مزهر علق بأسلاك الحديد المعوج، و... سقطت ذراع طفل... صرخت وأنا ألتقط الذراع المقطوع المدمى... على بياض البشرة، شاهدت طيورًا ملونة ترفرف حول حروف اسم منقوش بالسواد «حلا».
وأنا ألتقط الذراع والطيور و...حلا... انقلبت السماء وهبت الغربان السوداء المجنونة فوقي ناعبة.
ولا أدري، أهي الغربان السوداء، أم شظية نار أم رصاص غدر اخترق الجسد الواقف أمام الدمار؟... وأنا أهوي على الأرض، ذراع حلا في يدي، كان آخر ما شاهدت، رسوم حلا وطيورها تعلو في الدخان وكراس يومياتها يتطاير بعيدًا، عاليًا، مع الريح.
أشرق وجهها بابتسامة واسعة وأنا أقول:
- رسومك رائعة يا حلا. أنت فنانة بحق.
- وطارت من أمامي... طار معها الكراس قبل أن تقبض يدي المفتوحة عليه ■