أيّ حضورٍ لمدينة صور اللّبنانيّة في الموروث الشّعريّ؟
مدينة صور اللّبنانيّة الّتي يعود تاريخ تأسيسها إلى الألف الثّالث قبل الميلاد تُعدّ واحدةً من أقدم المدن في العالم، وتُشكّل إحدى أيقونات الحضارة الفينيقيّة على ساحل البحر المتوسّط، ومنارةً لبنانيّة شامخةً عبر التّاريخ قامت في البرّ بدايةً، ثمّ نُقلت إلى جزيرةٍ صخريّة قبالتها لدواعٍ عسكريّة دفاعيّة، ولكن لمّا رُدم بين طرفيها في عهد الإسكندر الكبير ليتمكّن من الاستيلاء عليها، اتّصل الشّاطئ بالجزيرة، واتّخذت المدينة شكل شبه جزيرة تتّصل بالسّاحل المتوسّطيّ.
أطلق الصوريون على مدينتهم اسم «صُر» (sr) الذي يعني في معظم اللّهجات الساميّة الصوّان أو الحجر الحادّ للدّلالة على الطّبيعة الصّخريّة الصّلبة الّتي بنيت عليها المدينة؛ فصور دالّ لغويّ يعني الصّخرة بالفينيقية.
كانت صور الّتي لُقّبت بـ«سيّدة البحار» من أبرز المدن الفينيقيّة وأقواها، نهضت بدور مهمّ في الحقبة الفينيقية من ناحية مساهمتها الفاعلة في التّجارة البحريّة، واهتمامها بإنشاء المستوطنات التّجاريّة في حوض المتوسّط، وخاصّة إنشاء مستوطنة قرطاجة في تونس الّتي قارعت الدّولة الرّومانيّة، كما اشتهرت بنشر الدّيانات في العالم القديم، وتصدير الأحرف الأبجديّة. وبفعل موقعها المحوريّ البارز تعرّضت لها الإمبراطوريات المجاورة بالحرب والغزو طمعًا بالاستيلاء عليها عبر الحقب التّاريخيّة المختلفة، فكان من نتائج ذلك أن احتشد في أرضها خليطٌ من الحضارات والثّقافات المتنوّعة من الفينيقيّة والإغريقيّة والبيزنطيّة والعربيّة والمملوكيّة والعثمانيّة.
ولئن عرّجنا على الحكم العربيّ الإسلاميّ في صور، لوجدنا أنّها دخلت في ظلّ الخلافة الإسلاميّة في العام 13هـ، لتتابع مسيرة ازدهارها العمرانيّ والحضاريّ على الرّغم من كثرة الحروب والقلاقل الّتي أُحيطت بها.
واليوم تمثّل صور إحدى أهمّ وجهات السّياحة في لبنان المدرَجة ضمن قائمة اليونيسكو للتّراث العالميّ. تجذب إليها مئات آلاف السّيّاح سنويًّا من الدّاخل والخارج بفضل معالمها التّراثيّة الغنيّة وجمال شاطئها الأخّاذ وبما تتوافر عليه من خدمات بشريّة ومرافق سياحيّة حيويّة. تبعد عن العاصمة بيروت حوالي 83 كلم2، وهي مركز قضاء صور أحد أقضية محافظة الجنوب.
ولكن ما يهمّنا في هذا المقام هو الإجابة عن سؤالٍ أساسيّ هو: كيف تجلّى حضور مدينة صور في مدوّنة الشّعر العربيّ لدى الشّعراء غير الصّوريّين؟
حضور صور في مرايا قصائد الشّعراء غير الصّوريّين
شأنها شأن نظيراتها من المدن والحواضر اللّبنانيّة - ما عدا طرابلس - لم تتبوّأ مدينة صور، في ظلّ الخلافة الإسلاميّة، مكانةً سياسيّةً بارزةً كما كانت عليه في الحقبة الفينيقيّة تحديدًا، بل اكتفت بالاضطلاع بمهامّ وظيفيّة محدّدة تتّصل بأدوار تجاريّة اقتصاديّة؛ فهي المرفأ والمنفذ التّجاريّ على المتوسّط لعبور الصّناعات المحلّيّة واستيراد البضائع الأجنبيّة، وهي مركز صناعة المراكب البحريّة، كما شغلت وظيفةً عسكريّةً تتمثّل في كونها القاعدة العسكريّة الّتي تنطلق منها جيوش المسلمين لغزو جيوش الرّوم، أو الثّغر الحدوديّ لصدّ هجمات المعتدين، يقول اليعقوبيّ في ذلك: «ولجند الأردن من الكور: صور وهي مدينة السّواحل، وبها دار الصّناعة، ومنها تخرج مراكب السّلطان لغزو الرّوم، وهي حصينة جليلة، وأهلها أخلاط من النّاس».
ونظرًا إلى التّلازم ما بين الشّعر والسّياسة في الموروث العربيّ، وبين الإبداع القوليّ والجوائز الماليّة الّتي يهبها ذوو السّلطان للشّعراء، فإنَّ مدينة صور لم تكن لتُقارع نظيراتها من الحواضر المجاورة ذات الشّأن السّياسيّ في أن تكون محطَّ أنظار الشّعراء، أو الفضاءَ الّذي يُلبّي تطلّعاتهم ومطامعهم، ومع ذلك حظيت بإقامة عددٍ لا بأس به منهم في ربوعها، وكانت مدار اهتمامهم، وخاصّة في سياق التّغنّي بمقارعة الغزاة من البيزنطيّين والإفرنج.
وبحسب حدود اطّلاعنا ربّما يكون أقدم نصّ شعريّ يأتي على ذكر مدينة صور يعود إلى العصر الأمويّ، ونقصد به القصيدة المنسوبة إلى أعرابيّ قدم على الأسود بن بلال المحاربيّ الّذي ولّاه هشام بن عبد الملك إمرة البحر على طول السّاحل الشّاميّ، ففرض له وأغزاه البحر، ولكنّه لمّا ذاق أهواله وأخطاره جرّاء الرّياح العاتية، أنشد شعرًا يندم فيه على مفارقة شاطئ صور، والاستجابة لدعوة الأسود وانقياده لرأيه في الغزو، فيقول:
أَقـــولُ وَقَـــدْ لاحَ السَّفيــــنُ مُلَجِّجًا
وَقَدْ بَعُـــدَتْ بَعْــدَ التَّقَــرُّبِ صُوْرُ
وَقَدْ عَصَفَتْ ريحٌ وَلِلْمَوْجِ قاصِف
وَلِلْبَحْرِ مِنْ تَحْتِ السَّفينِ هَديرُ
أَلا لَيْتَ أَجْري وَالعَطاء صَفا لَهُــمْ
وَحَظّي حَطوطٌ في الزِّمامِ وَكورُ
فَلِلَّه رَأْيٌ قــــــادَنـــــــي لِسَفينَـــــــــــــةٍ
وَأَخْضَرُ مَـــــــوّارُ السّرارِ يَمــــــورُ
تَرى مَتْنَهُ سَهْلًا إِذا الرّيحُ أَقْلَعَـتْ
وَإِنْ عَصَفَتْ فَالسَّهْلُ مِنْهُ وَعورُ
فَيــا ابْنَ بِلالٍ لِلضَّلالِ دَعَوْتَنـــــي
وَما كانَ مِثْلي في الضَّلالِ يَسيرُ
ومع العصر العبّاسيّ زاد اهتمام الشّعراء بمدينة صور في ظلّ تضعضع مركزّية الحكم، وتعاظم الميل إلى تأسيس دويلات شبه مستقلّة تنعم بحكم ذاتيّ في عددٍ من الحواضر العربيّة. وسط تلك النّزعة لدى الإمارات النّاشئة إلى مراكمة قوّتها وسلطانها يعمد أبو الطّيّب المتنبّي إلى تهنئة الأمير بدر بن عمّار في إثر تلقّيه كتابًا من أمير الأمراء في بغداد محمّد بن رائق يعلمه فيه بضمّ صور وبقيّة السّاحل اللّبنانيّ إلى أعماله، ولكنّ المتنبّي يعكس الآية، فيهنّئ صور بإضافتها إلى سلطة ابن عمّار الّذي تبكي كلّ بلادٍ لا يكون أميرها، فيقول:
تُهَــــنَّا بِصُــــوْرٍ أَمْ نُهَنِّئُهــــا بِكـــا؟
وَقَـــلَّ الَّـذي صُـــوْرٌ وَأَنْتَ لَـــــهُ لَكـــــا
وَما صَغُرَ الأُرْدُنُّ وَالسَاحِلُ الَّذي
حُبيْــــتَ بِـــــهِ إِلّا إِلـــــى جَنْـــبِ قَدْرِكا
تَحاسَدَتِ البُلْــــدانُ حَتّى لَوَ انَّهـا
نُفوسٌ لَسارَ الشَّرْقُ وَالغَرْبُ نَحْوَكا
وَأَصْبَـــــحَ مِصْرٌ لا تَكـــــونُ أَميرَهُ
وَلَـــــوْ أَنَّهُ ذو مُقْلَـــــــــةٍ وَفَــــــمٍ بَكــــى
وكان من نتائج نشوء الإمارات وتصارعها انتشار القلاقل والحروب والعنف الدّمويّ، وهو ما نجده جاثمًا على صدر مدينة صور حين استولى عليها بنو كلب، وانتزعوها من سيادة الدّولة الفاطميّة، فما كان من والي طرابلس الفاطميّ القاضي عليّ بن حيدرة الكتاميّ إلّا أن توجّه إليهم، ليهزمهم في معركة قاسية، ففرّ الرّجال ناكسين رماحهم، تاركين نساءهم وراءهم، وأعينهم تسترجع صُوَرَ الموت والهزيمة في المدينة. وقد سجّل تلك الأحداث الضّارية الشّاعر أبو الحسن التّهاميّ في قصيدة يمتدح بها صنع ابن حيدرة الّذي أعاد الاستقرار إلى المدينة، فقال:
غـــــادَرْتَ أُسْدَ بَنــــي كِــلابٍ أَكْلُبًا
إِذْ زُرْتَهُــــــــمْ وَزَئيرُهُـــــــنَّ نُبـــــاحـا
فَنَسوا النِّساءَ وَدَمَّروا مــــا دَبَّروا
وَرَأَوْا بَقــــــا أَرْواحِهِـــــــــمْ أَرْبـاحـــــا
يَتْلــــو هَزيمَهُـــــمُ السِّنـــــــانُ كَـأَنَّهُ
حَـــــرّانُ يَطْلُــــــبُ فــــي قَــراهُ قَراحا
وَالسُّمْرُ قَـــدْ لَفَّتْهُــــــــمُ أَطْرافُهـــــــا
لَفًّا كَمـــــا اكْتَنَــــفَ البَنــــانُ الرّاحا
فَمُعَفَّـــرٌ حَسَدَ الحَيــــــاةَ وَهــــــارِبٌ
حَسَدَ الرُّفــــاتَ القَبْـــــرَ وَالصِّفاحا
حَتّى إِذا اقْتَنَتِ القَنـــــا أَرْواحَهُـــمْ
قَتْـــــلًا وَفَــــرَّقَتِ الصِّفــاحُ صِفاحا
رَفَعــــوا أَصابِعَهُـــــمْ إِلَيْـــكَ وَنَكَّسوا
أَرْماحَهُــــــمْ فَثَنَيْنَ مِنْــــكَ جِمــاحا
وَتَرَكْتَ أَعْيُنَهُمْ تَصَوَّرُ في الوَغى
صُوْرًا وَقَدْ جاحَ الوَرى ما جاحا.
ويذكر التّهاميّ صُوْرَ في قصيدة أخرى يمتدح فيها القاضي ابن حيدرة الَّذي أعدى بكرمه وجوده وحلمه المدينةَ وأهلَها:
أَعْدى نَدى كَفَّيْهِ صُوْرَ وَأَهْلَهـــــا
وَالبَــــــدْرُ يَقْلِــــــبُ طَبْعَ كُـــــلِّ ظَــــلام
وَلَوْ أَنَّ صُوْرًا جَنَّةٌ مــا اسْتَكْثَرَتْ
وَأَبيــــكَ مِــــــنْ غِلْمـــانِـــــــهِ لِغُــــــــــلامِ
يَعْفـــــو فَيَفْعَـــــلُ حِلْمُــــــــهُ بِعَــــدُوِّهِ
مـــــــا تَفْعَـــــــــلُ الأَسْيـــــافُ بِالأَجْسامِ
ولقد نالت صور نصيبها من الحكم الذّاتيّ حين تمكّن قضاتها من أسرة بني عقيل من انتزاعها سنة 455هـ من يد الحسين بن حمدان. وفي تلك الحقبة نزل الشّاعر الشّاميّ محمّد بن سلطان المعروف بابن حيّوس في ربوعها، ومعه بضاعة أودعها دارَ الوكالة لبيعها، ولكنّ ابن السّمسار متولّي الدّار هضمه حقّه، فكتب إلى القاضي عين الدّولة محمّد بن أبي عقيل يلتمس عدله، ويُعرّض بابن السّمسار، ويشكو أمره إليه قائلًا:
تَحَكَّــمَ فــــي دارِ الوَكالَةِ فَانْبَـرَتْ
بِغاراتِــــهِ قــــاعًا كَمـــا تَشاءُ صَفْصَفـا
فَأَفْقَـــرَ وَاسْتَغْنــى وَمـا كَــفَّ شَرَّهُ
وَحـــازَ تُراثَ العالَميْــــنَ وَمـــــا اكْتَفـــا
تَعَمَّدَني بِالجَوْرِ كَـــيْ يَسْتَفِزَّنــــي
فَـــلا كانَ مـــا يَرْجـــو لَـدَيَّ وَلا اشْتَفا
وَسَوَّفَنـــي حيـــنًا إِلـى أَنْ شَكَوْتُهُ
عَلــــى أَنَّنــــــي لَمْ أَلْـــــقَ إِلّا مُسَوِّفـــــا
إِذا عُدِمَ الإِحْسانُ عِنْدَكَ لَمْ نَجِدْ
أَخـــا سُنَّةٍ فـــي العَــــدْلِ وَالجودِ يُقْتَفا
إِمـــامُ كِــرامِ العَصْرِ أَنْتَ فَلا تَجُرْ
عَنِ القَصْدِ إِنْ جارَ الزَّمانُ وَإِنْ وَفا
ويبدو أنَّ الإقامة في صور طابت لبعض الشّعراء، ومنهم الشّاعر جعفر بن أحمد الملقَّب بالسّراج البغداديّ الذّي اشتهر بكثرة أسفاره، وبتردّده الدّائم إلى صور زمنَ حكم ابن أبي عقيل وأبنائه، حتّى قطن بها زمانًا قبل عودته إلى بغداد. نقرأ له مطلعًا غزليًّا في مستهلّ قصيدةٍ يمدح بها عين الدولة ابن أبي عقيل في صور، يطرق فيه المألوف من المعاني الّتي تدور على دلالات فراق الحبيبة ووداعها برغم رغبته في وصالها بعيدًا من عيون الرّقيب، فيقول:
عَرِّجْ بِنـــا عَـــنِ الحِمـــى يَمينا
فَقَـــدْ تَوَلّـــــى الحَيْــــــرَةُ الغـــادينا
لَمْ أَنْسَ يَوْمَ ذي الأَراكِ قَوْلَها
وَالبَيْنُ عَنْ قَوْسِ النَّوى يَرْمينـا
تَـــزَوَّدِ الــوَداعَ وَاعْلَـــــــــمْ أَنَّنـــا
كَمـــــا اشْتَهـى البَيْــــنُ مُفارِقونـا
وَأَلْمَسَتْنـــــي وَالرَّقيــــبُ غافِـــــلٌ
كَفًّــا تَكــــادُ أَنْ تَــــــذوبُ لينــــــــــا
أَجْلَلْتُ فـــاهــــا اللَّثْـــمَ إِلّا أَنَّنـي
قَبَّلْــــــتُ مِنْهـــــا النَّحْرَ وَالجَبينــا
تَمْنَعُنـــــــا العِفَّـــــةُ كَــــــلَّ ريبَــــةٍ
وَالقَلْــــــبُ قَدْ جُــــنَّ بِهـــا جُنونـــا
كما أنّ شاعر الشّام في زمانه ابن الخيّاط الدّمشقيّ وفد سنة 484هـ على والي صور منير الدّولة الجيوشيّ الّذي خلع طاعة أمير الجيوش بدر الجماليّ الأرمنيّ، ومدحه بقصيدة أنشده إيّاها، يقول فيها متغنّيًا ببأسه وقوّته وسداد رأيه:
وَلَمّا رَمـــانــــي الدَّهْرُ عُذْتُ بِدَوْلَـةٍ
جَـــلا الحادِثاتِ الفادِحاتِ مُنيرُها
إِلــــى مَلِكٍ تَعْنــــو المُلــــــوكُ لِبَأْسِهِ
وَيَقْصُرُ يَوْمَ الفَخْرِ عَنْهُ فَخورُها
لَـــهُ الرَّأْيُ وَالبَـــــأْسُ اللَّذانِ تَكَفَّـــلا
لِأَعْدائِـــهِ أَوْحــــــى حِمـــامٍ يُبيرُهـــا
سُيوفٌ مِنَ التَّدبيرِ وَالفَتْكِ لَمْ تَزَلْ
وَمُغْمَـــدُها فـــــي كَفِّــــهِ وَشَهيرُهــا
ثمّ يُعرّج على ذكر استيلاء الممدوح على صور، فيرى أنّه أنقذها من طمع الطّامعين، وأعزّها بسلطانه المهيب، وصانها بسيفه، فسعدًا لها به:
رَأى أَرْضَ صُــوْرٍ نُهْبَـــةً لِمُغـالِبٍ
يُنازِلُهـــــا يَــــوْمًا وَيَــــوْمًا يُغيرُهـــــا
تَدارَكَها وَالنَّصْرُ في صَدْرِ سَيْفِـهِ
أَخو عَزَمــــاتٍ لا يُخـــافُ فُتورُهـا
أَرى أُمَــراءَ المُــــلْكِ لِلْفَخْــرِ غــايَةً
وَأَنْتَ إِذا عُـــدَّ الفَخــــــارُ أَميرُهـــا
وَمــــا زِلْـــتَ تَسْمــو لِلْعَــلاءِ بِهِمَّةٍ
تَقِلُّ لَكَ الدُّنْيا بِها كَيْفَ صُوْرُها
وَإِنَّ بِــــــلادًا أَنْــتَ حائِــــــطُ ثَغْــــرِها
بِسَيْفِكَ قَدْ عَزَّتْ وَعَـــزَّ نَظيرُهــــا
فَسَعْدًا لِأَمْـــلاكٍ عَلَيْــكَ اعْتِمادُهــا
وَفَـــخْرًا لِأَيّـــــامٍ إِلَيْـــــكُ مَصيرُهـــــا
ويلحظ الباحث أنّ بدء حملات الصّليبيّين واحتلالهم مناطق واسعة من الرّقعة العربيّة في أواخر القرن الخامس الهجريّ جعلت الشّعر العربيّ يدور في فلك المعاني الدّينيّة المتّصلة بالجهاد والحثّ عليه، واستنهاض روح التّحرير والمواجهة، وتمجيد صورة القائد المجابه توسّعَ الصّليبيّين، والفخر ببطولات الجيوش المسلمة، ووصف المعارك الحربيّة، ورثاء الشّهداء... ولذلك اقترنت صورة مدينة صور في شعر تلك المرحلة بتلك المعاني عقب احتلال الصّليبيّين إيّاها احتلالًا تأخّر، بفضل أسوارها المنيعة ومقاومة أهلها الشّرسة، عشر سنوات بعد سقوط جميع المدن الشّاميّة السّاحليّة في قبضتهم.
يُشير الشّاعر أبو الحكم المغربيّ الأندلسي إلى مدينة صور في قصيدةٍ يتغنّى فيها بانكسار الصّليبيّين، وانهزامهم عن دمشق سنة 542، وقد توافدوا إليها من عدّة مدن عربيّة محتلّة، من الأندلس وفلسطين، ومن عكّا وصور وصيدا وتبنين، فيقول:
بِشَطَّــــيْ نَهْــــرِ داريّــا
أُمـــــورٌ مـــــا تُــــواتينـا
وَأَقْـــوامٌ رَأَوْا سَفْـكَ الدِّمـا
فـــــــي جِلَّقٍ دِيْنا
أَتـانــــا مــــــائتا أَلْـــــفٍ
عَـــديدًا أَوْ يَزيــدونــــا
فَبَعْضُهُـمُ مِـنَ انْدَلُسٍ
وَبَعْضٌ مِنْ فِلَسْطينا
وَمِنْ عَكّا وَمِنْ صُوْرٍ
وَمِــــنْ صَيْدا وَتِبْنينـا
وهذا الشّاعر ابن منير الطّرابلسيّ يمدح نورالدّين الزّنكيّ في إحدى قصائده، ويحثّه على تحرير صور من الفرنجة، فيقول:
هُتِمَتْ طَرابُلْسٌ فَأَصْبَحَ ثَغْرُها الــ
بَسّامُ مِــنْ عِــــزِّ الثُّغــــورِ ثَغيــرا
باكِـــرْ بِرَكْــــــزِ قَنًا تُنَسِّــــفُ أُسَّهــا
وَالخَيْلُ صُوِّرَ كَيْ نُزيرَكَ صُوْرا.
هُتِمتْ أي كُسِرَتْ، يقصد أنّ الزّنكيّ هشّم حصون الصّليبيّين في طرابلس، ولذلك يدعوه إلى صور لمنازلة محتلّيها.
وعلى منواله يمدح الشّاعر الشّاميّ المعروف بفتيان الشّاغوري صلاح الدّين الأيوبيّ الّذي حارب الصّليبيّين، فيُمجّد أفعاله في مقاومته إيّاهم، ويأتي على ذكر صور في غير قصيدة، ومنها رائيّته الّتي يحثّه فيها على تحرير المدينة اللّبنانيّة البديعة التّصوير الّتي لن تعجزه أسوارها العاصمة:
كَمْ بِالنَّدى عــانٍ فَكَكْتَ وَبِالرَّدى
عاتٍ كَفَفْتَ بِخَوْفِهِ أَمِنَ البَرِي
هَـــلْ تُعْجِزَنْ صُوْرٌ مَليكًا ناصِرًا
للهِ أَيْـــنَ يَـسِرْ يُـسَرَّ وَيُنْصَـــــــرِ
ما سُوْرُ صُوْرٍ عاصِمٌ مِنْهُ وَهَلْ
سُوْرُ المَعاصِمِ عاصِمٌ لِمُسَوَّرِ
فَلْيَمْنَحَنْـــــكَ البَحْــــرُ دُرَّةَ تاجِـــــــهِ
إِذْ رُعْتَــــهُ بِخَميسِكَ المُتَنَمِّــــــرِ
بَحْــــــرٌ زُعــــــاقٌ مــــــــاؤُهُ مُتَكَـــــدِّرٌ
يَعْنو لِبَحْرٍ طابَ غَيْرِ مُكَــــــدَّرِ
فَانْهَدْ لِصُوْرٍ فَهْيَ أَحْسَنُ صُورَةٍ
في هَيْكَلِ الدُّنْيا بَدَتْ لِمُصَوِّرِ
ومثله ينحو الشّاعر ابن النّبيه المصريّ في مخاطبته أبا الفتح الملك الأشرف مظفر الدّين شاه الأيوبيّ، فيدعوه إلى فتح عكا وصور المتعطّشتين إلى رؤيته قائلًا:
ثِقْ يا أَبا الفَتْحِ بِالفَتْحِ المُبينِ فَلَمْ
تُخْلَـــقْ لِغَيْــــرِ أَبيهِــــنَّ الفُتوحـــاتُ
عَكّــا وَصُــوْرٌ إِلـــى رُؤْيـاكَ عاطِشَةٌ
فَانْهَضْ فَقَدْ أَمْكَنَتْ مِنْهُنَّ حُلْواتُ
وتتوالى الأيّام، وتتعاظم المعارك ضدّ الفرنجة إلى أن يكتمل فتح البلاد الشّاميّة وتحريرها في زمن المماليك على يد السّلطان قلاوون وابنه الأشرف خليل، فتُحرّر مدينة صور سنة 690هـ. وهو ما كان محلّ إشادة الشّعراء ومدحهم، فابن دانيال الموصليّ يتوجّه إلى مخاطبة الأشرف خليل يمدحه ويُمجّد صنيعه في فتح عكّا وصيدا وصور وعثليت وبيروت على طول ساحل المتوسّط:
أَيُّهــــا الأَشْرَفُ الَّذي شَرَّفَ الدُّنْــــ
ــيا وَقَدْ أَصْبَحَتْ لَهُ الأَرْضُ مُلْكا
صِدْتَ صَيْدا قَنْصًا وَصُوْرَ وَعَثْليـ
ــــــتَ وَبَيْـــروتَ بَعْـــــدَ فَتْحِكَ عَكّا
يـــا مَليــــــكَ الزَّمــــــانِ هَنَّـــــــأَكَ اللهُ
بِمـــــا أَضْحَـــــكَ العِبــــادَ وَأَبْكــــــى
والأمر نفسه يُشير إليه الأديب الدّمشقيّ محمد بن سباع الصّائغ الدّمشقيّ متغنّيًا بفتح عكّا وصور الّذي أعاد ذكريات فتح العموريّة ضدّ البيزنطيّين، فيقول:
قَلْقَلْتَ أَرْضَ الشّامِ عِنْدَ دُخولِهــا
رَكْضًا بِجَيْشٍ كَالسَّحابِ عَرَمْرَمِ
فَـــأَرَيْــــتَ عَكّــــا مـــــــا بِعَمّــــــورِيَّـةٍ
رَأَتِ الفَوارِسُ في الزَّمانِ الأَقْدَمِ
فَتْــــحٌ مُحَيّــــا الدَّهْــــرِ مَــوْسومٌ بِهِ
وَزَمــــانُهُ فـــــي دورِهِ كَالمَــــوْسِمِ
مـــــا الرَّأْيُ إِلّا عِنْــــــدَ قَلْــــبٍ ثابِـتٍ
وَالسَّيْفُ إِلّا في يَمينِ مُصَمِّــــمِ
قَدْ حُزْتَ صُوْرًا في تَقَضّي فَتْحِها
فَبِشُكْرِكَ الإسلامُ رَطْبُ المَبْسِـمِ
نتوقّف في الختام لنُسجّل ملاحظتين بارزتين حيال ذكر الشّعراء غير الصّوريّين مدينةَ صور في قصائدهم؛ الأولى تشير إلى اقتران ذكرهم هذه المدينة بقصائد مدحيّة يمتدح بها الشّعراء بعض الولاة السّياسيّين والقادة العسكريّين، والثّانية أنَّ تلك القصائد لم تمسّ واقع الصّوريّين اليوميّ ولم تقترب من الطّبقات الشّعبيّة في المدينة، بل اقتصرت على تسجيل بطولات القادة والولاة من ذوي السّلطان والتّغنّي بخصالهم وأمجادهم سواء في سياق التّنافس بين الإمارات المحلّيّة النّاشئة أم في سياق غزو الرّوم في حوض المتوسّط أو صدّ هجمات الصّليبيّين وتحرير البلاد الّتي احتلّوها ■