جمال الدين الأفغاني بين الشرق والغرب
جمال الدين الأفغاني (1838-1897م) أحد روّاد النهضة الفكرية في عصر النهضة. نشأ في كابول عاصمة أفغانستان. درس القرآن الكريم، فاكتسب ثقافة دينية دفعته إلى رفع راية الإسلام وتوحيد صفوف المسلمين وتقويض النعرات المذهبية فيما بينهم؛ هذا بالإضافة إلى إلمامه باللغات، كالفارسية والتركية والإنجليزية والفرنسية، ما فتح له باب الاطلاع على الثقافات الأخرى، وجعله كالسندباد يتنقّل بين البلاد، فزار الهند والسعودية ومصر وإيران والعراق وتركيا وبريطانيا وفرنسا وروسيا حاملًا همّ أبناء أمته، وداعيًا إلى توحيد كلمة المسلمين والتصدّي للمستعمرين، فكان أكثر جرأة من غيره في طرح أفكار جديدة، من أجل مواجهة الاستعمار والسياسة الغربية الحديثة والمدنية الأوربية، التي داهمت الشرق العربي ووضعته في موقع المتخلف والعاجز عن الدفاع والمجابهة، وأخضعته للهيمنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي فرضتها عليه.
رأى الأفغاني أن «الاستعمار يسير إلى البلاد الغنية في ثروتها ومعادنها وخصب تربتها ومن كان من أهلها في الدرك الأسفل من الجهل، قد خيّم عليهم الخمول لا يبدون حراكًا ولا يقربون عراكًا... فيحرمون من خيرات بلادهم ومن كسب تجارتهم واستثمار مناجمهم، وبالإجمال الحرمان المطلق من كل خير». إنه سلّط الأضواء على مساوئ ذلك الاستعمار الذي جعل الشرق يخضع لسلطته وهيمنته وأيديولوجيته التي فرضها عليه، والتي دفعت بالشرقيين إلى الوقوف مذهولين ومدهوشين أمام هول هذه التحديات، وخاضعين للقلق والتوتر ولسياسة التهديد والوعيد والتفريق والتنديد التي بنى المستعمر الأوربي مبادئه عليها.
توحيد الأمة
ولذلك كان الكاتب من أكثر المفكرين اندفاعًا إلى توحيد أبناء الأمة الإسلامية، كي يواجهوا ويقاوموا هذا المستعمر «بدحض مفترياته على الإسلام والمسلمين... وفضح مؤامراته وأعوانه ومساعيه للتسلط على الشعوب وسلب ثرواتها وطمس ثقافاتها»، ولعل هذا ما يتطلب وعيًا وترشيدًا وتوجيهًا ذكيًا من أجل التصدّي لأطماعه التي سيطرت على الشرق آنذاك وفاقمت في ترهّل واستضعاف الدولة العثمــــانيـة، والتي جعلت الأفغـــاني يوظّف كل طاقاته وأفكــاره للدفــــاع عن تلك الدولة؛ لأنه كان يرى فيها امتدادًا للحكم الإسلامي، ولأن المرحلة تتطلّب أكثر من أي مرحلة تمسّكًا بالعودة إلى إسلام الأوائل النقي والخالي من البدع والضلالات، والذي يعمل على لمّ شمل الأمة وتوحيد صفوفها، قائلًا: «قوة كل أمة كامنة في أفرادها لا يظهرها إلا الاتحاد ولا يخفيها إلا التفرق. فمَن رام من الأمم استعادة مجدها، والتخلص ممن أذلها، فليس عن طريق الاتحاد ما يوصل إلى الغاية، وينقذ من البلاء، ولا غير حب الموت ما ينجي من الموت، وينيل المرء إحدى الراحتين، فإما أن يعيش بحريته واستقلاله سعيدًا، وإما أن يعيش دونهما بطلًا أو شهيدًا». إن الدعوة إلى الاتحاد والجهاد تعتمد على تصويب الهدف في حياة المسلمين الذي كان يراه الكاتب المنفذ الوحيد الذي يستطيع من خلاله أبناء أمته استعادة مجدهم ومواجهة الحضارة الغربية. فباعتماد مبدأ الاتحاد تتقوّض النعرات المذهبية وتتولّد القوة والعزيمة والإرادة، وبإعلان الجهاد تتجلّى روحانية الإسلام التي تحمل معنى وأهمية وقيمة الشهادة في سبيل الله، من أجل إعلاء كلمة الحق ونشر تعاليم الدين الحنيف، وتحقيق الفوز على الصعيد الديني والدنيوي؛ لأن الشهيد سوف يحيا ويعيش في جنات النعيم وفي أعلى مراتبها، ولأن المجاهد الذي يبقى على قيد الحياة سيشعر بنشوة النصر والاعتزاز التي تدفعه إلى المطالبة بتحرير الأرض تحت راية الإسلام والدين الإسلامي، كما أنه صاحب قضية ورسالة وهدف، فيستسهل ويحبّذ الموت على الحياة، وقد يكون بذلك الأفغاني حدّد الدواء الناجع الذي يفرض توازن الرعب ويجعل المستعمر يخضع لشروطه.
وهنا يطرح السؤال نفسه: هل اعتماد مبدأ الاتحاد والجهاد الذي دعا إليه الأفغاني هو الحل الأفضل والأكمل للتخلص من سيطرة الغرب على الشرق؟ من الطبيعي أن لا شيء بلا شيء، وأن تحرير البلاد بحاجة إلى الاتحاد والجهاد اللذين لم يتحقّقا بسهولة؛ لأن الكاتب كان يعرف أن الضعف والانحلال في وشائج الأمة الإسلامية بدأ يظهر «عند انفصال الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة، وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يحوزوا شرف العلم والتفقّه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه كما كان الراشدون رضي الله عنهم».
إن عدم اعتماد نظام الشورى الذي بنى المسلمون الأوائل نظامهم عليه، وإن تكريس نظام التوريث السياسي الذي أدّى إلى وضع الرجل المناسب في غير المكان المناسب، والذي ابتدأ الأمويون به، والذي أكمل بمبادئه الخلفاء العباسيون أوصلوا البلاد والعباد إلى ما وصلوا إليه، فتفكّكت الدولة الإسلامية إلى دويلات. هذا بالإضافة إلى أن الأمر زاد سوءًا بعد دخول الاستعمار الغربي الذي اعتمد سياسة «فرّق تسد»، فأيقظ النعرات الطائفية والمذهبية، وجعل البلاد تعيش حالة قلق وصراع دائم على أسس عقائدية دينية استثمرها لمصلحته.
وفي الواقع أن الدعوة إلى الاتحاد والجهاد التي دعا الكاتب إليها، كانت مبنية على إيمانه برسالة الإســلام، التي تستمد أحكامهــا من القرآن، الذي وجد فيه ما هو أقوى من كل أنــــواع الوسائل السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، التي وظّفها الغربيون لتفكيك الشرق ونزع أواصر الوحدة بين أبنائه. ولهذا راح يسلّط الأضواء على واقع الحال الذي ي
عيشه المسلمون من أجل أن يؤكد لهم أنهم عندما اتحدوا في الماضي وابتعدوا عن الأنانية في توريث المناصب كادوا أن يحتلوا العالم، ومن أجل ذلك فإن المرحلة تتطلب وعيا وتوجيها ودعوة إلى توحيد الصفوف لمواجهة المستعمر، فركّز على تصوير الحقبة الاستعمارية التي يعيشها، وصرّح عن سبب كرهه ونفرته من الإنجليز قائلًا: «فلا يفوتنك العلم أني ما تناولت الإنجليز وحكومتهم إلا من وجهة استعمارهم، وتدخلهم في الممالك الشرقية كالهند ومصر وسومهم أهلها سوء التصرف، ومنتهى العسف والجور، فكيف يمكن أن يكون للإنجليز هناك أثر من العدل، ولو أنصفت أو عدلت لما دخلت واستعمرت الأقطار والأمصار، وأتت فيها منكر الأعمال. الإنجليز كأمة ليس من ينكر أنها من أرقى الأمم، تعرف معاني العدل وتعمل بها، ولكن في بلادها، ومع الإنجليز أنفسهم، وتنصف المظلوم إذا كان من الإنجليز». إنه حدّد ذلك التفاوت في تعامل الإنجليزي نفسه مع الناس. فهو عادل في بلاده وهو ظالم في طريقة تعامله مع الشرقيين في بلادهم. وقد يدلّ تعامله هذا على خلفية بناها على مقولة ديكارت Descartes «أنا أفكر إذا أنا موجود». أي أن الإنجليز يفكرون إذًا الإنجليز موجودون، والشرقيون لا يفكرون إذا الشرقيون غير موجودين.
ومن المعلوم أن عودة الإنجليز إلى الشرق من جديد ارتكزت على مبادئ المعرفة والقوة والتحدّي والمنافسة واستغلال واقع الشرقيين الذي جعلهم عاجزين عن المواجهة؛ لأنهم كانوا يعيشون مرحلة التخلف والجهل والانحطاط أمام هول التحديات الغربية، ولهذا أراد الأفغاني أن يسلّط الأضواء على مبادئ الإنسانية والعدل والإنصاف والتسامح التي نادى بها الفكر الغربي الحديث في بلاده ولم يطبقها في بلاد الشرق، وهو يكون قد عمل على تنوير العقل العربي ليكشف حقيقة المستعمر المزيفة التي تعتمد على التسلّط والقوة، وإخضاع الدول الضعيفة والجاهلة إلى أهدافه وغاياته التي تريد أن تحتكر ثروات وخيرات الشرق، وتعمل على ابتزاز أبنائه وتعزيز سياسة التفرقة والتشتيت فيما بينهم.
مدى تأثير المدنية الأوربية بالشرق
رأى الأفغاني أن الغربيين «يسخّرون الدين لأجل الدنيا، ويحسنون أمر دنياهم وما تتطلّبه مظاهر الحياة»، أما الشرقيون فهم «يسخّرون الدنيا لأجل الدين، وإذ هم لا يعملون بأحكامه، يخسرون الدين والدنيا معًا». ويتّضح من هذا الرأي الذي طرحه الكاتب أن الغربيين اهتمّوا بالحياة الدنيا أكثر من الدين، فانحرفوا نحو اتجاه جديد ظهر في حياتهم خلال القرن التاسع عشر، ألا وهو تيار الحداثة الذي اعتمد العقل كحقيقة، وحدها الحقيقة وتهميش كل ما دون العقل، وخصوصًا الدين والأخلاق، وهذا ما أطلق العنان لهم في انبثاق ثورة فكرية فلسفية علمانية، أفرزت مدنية أوربية جديدة أتاحت أجواء الانفتاح والتقدم والتطور، وفي الوقت نفسه ساهمت في تعزيز ثقافة اجتماعية جديدة بعيدة كل البعد عن القيم الدينية والأخلاقية التي نادت بها الكتب السماوية، فكانت النتيجة انحرافهم الخلقي وتفكّك أسرهم وهدم بنيانها. أما الشرقيون فاهتموا بالدين على حساب الدنيا، ولم يستطيعوا أن يفهموا جوهره وأن يعملوا بمبادئه الصحيحة، أو يطوّروا أنفسهم من خلاله، أو يواكبوا ركب الحضارة الغربية العلمي، فأضاعوا البوصلة، وراحوا يتأثرون بقشور المدنية الأوربية التي تعمل على تعزيز الغرائز عند الإنسان، فتناسوا ما جاء في أحكام الدين الإسلامي والقرآن، فخسروا في هذه الحالة دينهم ودنياهم، ولعل هذا ما أراد الأفغاني الإشارة إليه أن العرب لم يتأثروا بالعلوم الغربية بقدر ما تأثروا بعادات الغرب وتقاليدهم الاجتماعية، حتى لكأنهم تماهوا بالمدنية الأوربية التي لم تعد تتماشى مع معتقداتهم وديدنهم، ولذلك راح الكاتب يعيد للدين الإسلامي مجده السابق، معتبرًا أن هذا الانحراف الذي حلّ بالمسلمين هو بعدهم عن تعاليم دينهم، فوجد أن «كل مسلم مريض ودواؤه في القرآن»، وأن «أهل أوربا مستعدّون لقبول الإسلام إذا أحسنت الدعوة إليه».
مرحلة التحدي العلمي
إن هذه الأفكار التي طرحها الأفغاني تسلّط الأضواء على عدّة أمور، لعلّ أهمها أن القرآن حثّ على التعلم والتبحر في العلوم، ورفع من شأن العلماء. والمرحلة التي يتحدّث عنها الكاتب هي مرحلة التحدّي العلمي. فهل استطاع المسلمون مواجهة هذا التحدي؟ وهل يكفي أن كل اكتشاف علمي حقّقه الغربيون يواجهه المسلمون بأن القرآن الكريم أشار إلى ذلك منذ أكثر من ألف عام؟ إن التقدّم العلمي الذي أحرزه الغرب جعل الأفغاني يحاول إيجاد حلّ بشدّ عصب الأمة الإسلامية، فعاد بالماضي إلى تاريخها المجيد عندما حقق المسلمون العديد من الإنجازات العلمية، وكان مرجعهم الوحيد هو القرآن الكريم. وسؤال آخر يطرح نفسه: لماذا تقبّل الغربيون الإسلام عندما ذهب المسلمون تجارًا إلى ماليزيا وإندونيسيا وغيرهما؟ ولماذا مازالت هذه الدول تتقدّم على الصعيد العلمي كغيرها من الدول الغربية؟ إذًا، هل أراد الكاتب أن يشير إلى أن السبب الرئيسي لتقبّل الدين الإسلامي هو عدم فرض اعتناقه على الآخرين؟ لأن العقيدة هي ما عقد في القلب واللسان والضمير، وهي التي تدفع بالآخرين إلى عــدم تغيير دينهم ببســاطة، وخصوصًــا أن هذا التغيير كان مقــرونًا بالغصب والإكراه والتهديد والقتل والتشريد، لا بالتحبيب وحســن المعامـلة، ولعل هذا ما دفع الغرب إلى ردة فعل كانت من خلال حملاته الصليبية على الشرق تحت شعار الدين والعقيدة، والتي مهّدت لعودته من جديد بأسلوب وفكر جديدين كرّسا لفرض مبادئه الاستعمارية تحت شعارات مزيفة، أوهمت الشرقيين في بداياتها.
ولا أحد ينكر أن المسلمين عندما ذهبوا إلى بلاد الأندلس أفادوا الغربيين في كثير من المجالات الحضارية، فزرعوا بذورها في تلك البلدان، وكانت النتيجة أن الغربيين عملوا على تطوير أنفسهم، معتمدين معيار الكفاءة في تحقيق الإنجازات العلمية بعيدًا عن التدخلات السياسية والدينية، كما أوجدوا بيئة حاضنة للعلماء والمفكرين، وعزّزوا تطبيق مبادئ العدل والمساواة بين الناس ومنحهم الفرص لتطوير بلادهم وتشجيعهم على الاكتشاف والتقدم والتطور والازدهار. ولعل هذه المبادئ هي التي نادى بها الدين الإسلامي، فأفادت الغربيين وطبّقوها في حياتهم العلمية والعملية دون أن يعتنقوه كعقيدة بديلة من دياناتهم.
أخيرًا يمكن القول إن الأفغاني سعى إلى تحقيق نهضة عربية إسلامية بالعودة إلى القرآن الكريم وأحكامه، والوحدة الإسلامية والجهاد، من موقع رجل الدين المسلم الغيور على مستقبل الدين الإسلامي والمسلمين، فحارب الاستعمار وكشّف أوراقه وأنار العقل العربي وشكّل من خلال أفكاره خارطة أساسية لهواجس الكثيرين من المسلمين في تلك المرحلة، ورأى أن الإصلاح الثقافي والحضاري لا يتحققان بمعزل عن السياسة والتحرر والاستقلال، فكان إيمانه برسالة الإسلام أقوى من كل التحديات الغربية وحاول توظيف الدين لصالح السياسة وطابق بينهما حتى صار في نظره كل خصم سياسي هو خصم ديني ■