كاملة كنتِ حتى وإن انقضى عمرك
هي السِّت، فقط لا قبلها ولا بعدها، أطربت الغناء، فانقاد لها مقوده، وأخضعت سنام النغم فأتى إليها مسترحمًا، طالبًا إكرامه بترديدها له، بدأت كبيرة وهي في سن صغيرة، اختارت قدرها، وأطربت عشاقها واستحوذت على قلوب وآهات رددتها كلمات أغانيها.
هي السِّت لا قبلها ولا بعدها، غنت لفحول الشعراء ومغموريهم، فنشرت شعر الأوائل، واستعذبت شفاهها وآذاننا أشعار الأواخر.
غنت لأبي فراس الحمداني «أراك عصي الدمع» مع ثلاثة ملحنين؛ عبده الحامولي في العام 1924، وأطربت بها، واللحن الثاني مع زكريا أحمد بالعام 1942، وأذيعت ولكنها لم تسجل، ويقال إنها موجودة لدى الأستاذ وجدي الحكيم الذي أخفاها حرصًا وإشفاقًا، واللحن الثالث مع المبدع رياض السنباطي، وهي المعروفة والشائعة.
وفي كل لحن هي تبدع وتطرب وتشجي.
كانت السِّت جريئة في اختياراتها، وكأني بها تردد بيت شعر لجبران في قصيدته «المواكب» يقول فيها:
وفي الزرازير جبن وهي طائرة
وفي البزاة شموخ وهي تحتضر
ولا يجوز فنًا ولا تاريخًا ألا تذكر الرباعيات الخيامية في غنائها، وهي تراجم عديدة لعمر الخيام، تولاها كثيرون، منهم وديع البستاني، أحمد الصافي النجفي، إبراهيم المازني، جميل الزهاوي، أحمد أبوشادي، إبراهيم العريضي، وغيرهم، حتى أبدع فيها أحمد رامي، فاختارت معه بعضًا منه وغردت:
سمعت صوتًا هاتفًا في السحر
نادى من الغيب غفاه البشر
وقد أبدع رامي في تغيير ثلاث كلمات من هذه الرباعية، فأزال ألفاظ الخمر وجعلها مقبولة للسامعين، فلم تكن السِّت تقبل أن تأخذ أي قصيدة كما هي، بل تضع بصماتها عليها، فحين عرضت عليها قصيدة نزار قباني «أصبح عندي الآن بندقية»، استبعدت البيت القائل:
مشيئة الأقدار لا تردني
أنا الذي أغيّر الأقدار
مفسّرة ذلك بأنه يصطدم مع العقيدة الدينية لكثير من عشاقها، وهكذا كان.
ويروي لي الصديق وجدي الحكيم أنها تدخلت لاستبدال كلمة «عايزة أشكي لك من نار حبي» في أغنية «حيّرت قلبي معاك» لأحمد رامي، واستبدلتها بلفظة «بدي»، وهي لفظة شامية، مبررة ذلك لرامي والسنباطي، بأن «السِّت ما تقولشي عايزة» ترفّعًا، وتهذّبًا، وهكذا كان!
وتستمر السِّت في عطائها الشعري المغلف بالموسيقى، فتغني عشر قصائد لأمير الشعراء شوقي، كلها بألحان السنباطي، حتى ظهر قول طريف آنذاك «إذا أردت أن تتكلثم فتسنبط»، وهو مختصر لحالة الوجد التي تنتاب لقاء القمتين.
وتدرجت السِّت، بل وصعدت بالغناء حين أكدت وحدة عنصري الأمة المصرية آنذاك (الأقباط والمسلمون) في قصيدة «الملك بين يديك» بالعام 1936 لشوقي وفيها:
يفديك نصرانيه بصليبه
والمنتمي لمحمد بهلاله
ولشوقي مع السِّت قصيدة وأغنية مجهولة هي «مقادير من جفنيك» غنتها السِّت وعبدالوهاب بالعام 1936 ومطلعها:
مقادير من جفنيك حولن حالًيا
فذقت الهوى من بعد ما كنت خاليًا
ومما يروى أن بيرم التونسي أسمعها كلمات أغنية «غني لي شوي شوي... غني لي يا نور عيني»، فاستبدلت السِّت كلمة يا نور بكلمة «وخد عيني»، وقال بيرم، كدا أحسن!
وأيضًا يروي أحمد شفيق كامل أنه حين أسمعها مطلع أغنية «أنت عمري» بقوله «شوّقوني عينيك لأيامي اللي راحوا»، قالت السِّت خليها «رجعوني عينيك»، فاستعذب الشاعر هذا التغيير.
بدأت مرحلة الشيخوخة لدى السِّت في العام 1970، ومع صدمة رحيل عبدالناصر، بل إن «حشرجة الصوت»، حتى لا تقول شيئًا آخر، بدأت مع غنائها «اسأل روحك» للموجي، لدرجة أن عبدالوهاب عاتب الموجي بشدّة، لأنه لم يراع الطبقة اللحنية لصوت السِّت وشيخوخته، ولم تستسلم السِّت ووقفت وقفتها الأخيرة على مسرح سينما قصر النيل في الرابع من يناير 1973 تغني لحن عبدالوهاب «ليلة حب» في الوصلة الأولى، ثم أنشدت في الوصلة الثانية لحن السنباطي الصوفي «القلب يعشق كل جميل»، في 51 دقيقة فقط، وكان هذا آخر العهد بها على المسرح.
تدهورت الحالة الصحية للست، وفي مساء الثالث من فبراير 1975 توفيت السِّت، وقد حلّت ذكرى وفاتها قبل أشهر، فكان لزامًا علينا أن نستذكرها ونذكّر بها، وهي مَن لا تُنسى.
ويا أيها القلب... كم كنت أتمنى أن توهب لك نبضة واحدة من قلوب ثلاثمئة مليون عربي، حتى نطيل عمرك وتبقي معنا مأسورين بك وبشغفك للموسيقى والطرب.
لك الوفاء منا بسماع صوتك ودندنة أغانيك، واسترجاع صدى النغم في آهاتنا المرسلة.
وداعًا... يا من كنت كاملة... وإن انقضى عمرك... وداعًا... أم كلثوم ■