مساحة ود

مساحة ود

عندما أعطيت الورد لمن حولي!

في ذلك الصباح ذهبت متأخرة إلى العمل، لأسباب أعلم جيدًا أنها لن تقنع مديري.. ماذا أصنع؟ فكرت كثيرًا في داخلي وقلت: بالطبع سأعتذر ثم أقول الأسباب، لا. بل سأقول الأسباب ثم أعتذر. وهكذا تضاربت الأفكار المتضادة في عقلي. وفي تلك الأثناء كنت أفكر وأنا سائرة بجوار حديقة كبيرة تدب أوصالها في المدينة منذ سنوات كثيرة، ويخرج من بين أسوارها الورد ليطل على المارة ويبشرهم بالخير، عن طريق ألوانه ورائحته الزاهية. قطفت وردة بيضاء، لم تكن كبيرة ولا متوسطة، بل صغيرة، وحملتها أشتم رائحتها الذكية فقد كانت من نوع الياسمين الجميل. أذهبت رائحتها بعض الخوف من داخلي، جعلتني أثق في أسبابي وأقول في داخلي: سبب استيقاظي المتأخر رغما عني سيقبله المدير حتمًا ونومي متأخرًا ليلة أمس نتيجة مرض صديقتي الوفية أيضًا سيقبله مديري حتمًا. وهكذا صارت الأمور تتصاعد نحو التفاؤل وفي الخط التصاعدي لا التنازلي أبدًا.

دلفت إلى العمل وأنا واثقة بدرجة كبيرة مما سأفعل، بل تخطيت مرحلة مقابلة مديري وقمت بتأجيلها بعض الدقائق وذهبت إلى القسم الذي أعمل به أولا لألقي تحية الصباح في هدوء على الزملاء الذين ملأت أعينهم شعاعات الدهشة لكوني متأخرة وأسبح في ذلك الهدوء العميق.

وذهبت إلى المدير غير خائفة، ومازالت الوردة البيضاء معي لم تفارقني، أشتم رائحتها التي لا تنتهي وأرتشف منها التفاؤل الجميل. وإلى غرفة المدير دلفت، كان التأخير عن آخره، دخلت في ثقة إليه مبتسمة، وقلت : صباح الخير يا سيدي.

لم يرد، فقد كان منشغلًا حتى النهاية بأوراق أمامه يرتدي لها نظارة القراءة التي يعلم كل العاملين في المستشفى، أنه عندما يرتديها يجب ألا يتحدث معه أحد وكأنها علامة تقول لا للإزعاج من فضلك.

قفزت إلى عقلي الفكرة الأخيرة، لماذا لا أعطيه الوردة، لعل رائحتها تجعله يتفاءل هو الآخر ويحدث ما أريد! ووسط زحام الأوراق أمامه، وضعتها أمام عينيه تحت نظارة القراءة بسنتيمترات كي يراها.

نظر إلى ذلك الكائن الغريب كأنه يشاهده لأول مرة، أو بالأحرى لم يعطه طبيب من قبل ولا أحد ذلك الشيء، أو لم تدلف وردة طبيعية من قبل إلى مكتبه العملي جدًا الذي لا يعترف إلا بالجدية المحمودة والحزم.

نظر إلى الوردة ونظر إليّ، اشتم رائحتها الفواحة وأخذ نفسًا عميقًا منها وارتخى على المقعد وقال: ما أجملها، نظر إليّ، أفاق من عالم الوردة البيضاء ليجدني أمامه مبتسمة، وانتظرت ماذا سيقول، هل أم هل؟!

ولم يتحدث بعد، وضع الوردة بعناية في كوب أمامه وقال: ما أجمل أن تأتي وردة وسط الأوراق والعمل، شكرا جزيلًا. وانصرم اليوم بهدوء بسبب الوردة البيضاء، ومن وقتها لم ينسها لي مديري، ليذكرني كل صباح ويقول: أين الوردة؟ ويحكي للزملاء عما فعلته هذه الوردة به وهو منغمس في العمل المكثف.

ومنذ ذلك اليوم أعطيت الورد لأصدقائي، لعائلتي، لزملاء العمل، لكل من أريد زيادة المودة والعلاقات الإنسانية السامية بيني وبينهم. وكأنهم ينتظرون بعض التغيير وسط ضغط الحياة الذي لا يتوقف، وهم يسيرون في دائرة من صباح لمساء ومن مساء لصباح في روتين لا يتغير دومًا، استطاع ذلك الورد أن يفعل ما لم يستطع البشر فعله، كائنات صغيرة ملونة خلقها الله لتعطينا البهجة والسعادة إذا فهمنا معناها، فهي تنظر إلينا وتقول شيئًا لا نعرفه، واليوم عرفته جيدًا. وهكذا سارت الحياة وردية، عندما أعطيت الورد لمن حولي!.

 

 

أسماء الطناني