جمال العربية.. لُغةٌ.. وإبداع لغة
جمال العربية.. لُغةٌ.. وإبداع لغة
توطئة: وعندما شرفت بكتابته، أدرْتهُ على محورين، أحدهما: لغوي صرف، يدور من حول اهتمامات لغوية، تكشف عن قدرة هذه اللغة وطاقاتها المختزنة، ومدى ملاءمتها لاحتياجات العصر، والنهوض بأعباء التطور والتقدم، لتتحقق لها بالفعل صفة «العصرية» أو «المعاصرة»، الدالة على حيويتها وتجددها، واكتساباتها المستمرة. أما المحور الثاني: فكان يعكف على تأمل أحد النصوص التي تكشف عن عبقرية هذه اللغة لدى مبدعيها الكبار: قُدامى ومحدثين ومعاصرين، تأملاً يدور في فلك الكشف والتذوق، بعيدًا عن الدراسة النقدية التي قد لا يطيقها القارئ المعنيّ بجمال العربية، وحُماداهُ أن يجد لمسة موحية أو إشارة كاشفة، أو توضيحًا دالاّ، يُضيء له معالم الطريق لولوج هذا النصّ الذي يكون في الأغلب الأعم نصًّا شعريًّا، وتصحبه هذه القراءة الكاشفة صحبة لا يضيق بها صدره، ولا تصطدم بها حساسيته أو عفوية تلقّيه. وبدءًا من عدد «العربي» لهذا الشهر: يناير 2011، تلاقت رغبتانا: «العربي» وأسرته الموقرة، وكاتب هذا الباب، عند ضرورة التطوير والتغيير والتعديل. وهو أمر صحيُّ ومحمود، فضلاً عن أنه يتيح لي مجالاً شديد الأهمية في صناعة اللغة المعاصرة وتطويرها وتيسيرها واتساع فضائها، يتمثل في عمل مجامعنا اللغوية، وبخاصة مجمع اللغة العربية في القاهرة، وهو مجال كنت قد أشرت إليه مرات في السنوات الأولى من كتابتي لهذا الباب، كما تناولته في كثير من حلقات برنامج «لغتنا الجميلة» في سنواته الأولى: ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، ومازلت أعود إليه بين الحين والحين، والبرنامج يدلف إلى عامه الرابع والأربعين، ويجدّد من جلده وخلاياه، اقتحامًا لمتطلبات القرن الحادي والعشرين. والآن إلى هذه البداية الجديدة. جديد أقرّه المجمع: تخلو معجماتنا المعاصرة سواء منها ما أنجزته بعض المجامع اللغوية، أو قامت بإنجازه هيئات ومؤسسات علمية، أو أفراد تخلو من كثير من الألفاظ والأساليب التي تشيع في العقود الأخيرة على ألسنة اللغويين والأدباء والكتاب وأقلامهم، ظنًّا من واضعي هذه المعاجم أنها لا وجه لها من الصواب اللغوي، باعتبارها ألفاظًا وأساليب محدثة، لم تسجلها المعجمات اللغوية، فلا مجال إذن للاعتراف بها، وإضفاء الشرعية اللغوية عليها، بالرغم من جريانها في الاستعمال اللغوي المعاصر. من هنا كان عمل لجان الألفاظ والأساليب في مجمع القاهرة، وفي غيره من المجامع منصبًّا على البحث في هذا المعجم اللغوي الجديد المعاصر، للكشف عن صحته اللغوية إن كان له وجه من الصحة، والاطمئنان إلى صحة استخدامه في محدث الكلام، والدعوة إلى تسجيله في المعجمات، إثراء لمتن اللغة، وتضييقًا للهوّة المعرفية القائمة بين الشيوع في الاستخدام من ناحية، والتأصيل اللغوي والكشف عن الصحة اللغوية من ناحية أخرى. هذه اللجان تناقش أولاً ما يعرضه عليها أعضاؤها وخبراؤها فإذا أقرّته عُرض على مجلس المجمع بكامله لمناقشته وإقراره، تمهيدًا للعرض على المؤتمر السنوي للمجمع الذي يشارك فيه رؤساء المجامع اللغوية وعدد كبير من أعضائها المعينين في مجمع القاهرة طبقًا للقانون، والأعضاء المراسلين له من شتى البلاد العربية والأجنبية، بحكم قانونه أيضًا. فإذا تمت إجازة المعروض من قِبل هذا المؤتمر المجمعي السنويّ الجامع، أصبح مُلزمًا للجميع. وعلى سبيل المثال هناك كلمة «آلية» التي اقترح أحد أعضاء اللجنة والمجمع إجازتها بمعنى الفاعلية أو نظام العمل أو إجراءات التنفيذ، مثل آلية للتعاون بين الدول. مُبَينا أن الكلمة غير واردة في المعاجم العربية، وإن كانت عربية المادة، ومنها أيضًا كلمة الآلة. وعند النحاة مصطلح اسم الآلة ومن معاني هذه المادة: الاستطاعة، وفي الوسيط: أَلَّى الشيءَ، استطاعه. وقد اقترح الدكتور محمود فهمي حجازي إجازتها باعتبارها سائغة مقبولة، على سبيل المصدر الصناعي. وكان من رأي الدكتور محمد داود الخبير بلجنة الألفاظ والأساليب - أيضًا، أن الكلمة «آلية» شاعت في لغة الإعلام على وجه الخصوص، مصدرًا صناعيًّا بمعنى: فنّ تنفيذ الأشياء، وإنجازها وتفعيلها، كما في قولهم: ما آلية تنفيذ مشروع النهضة؟ وتستعمل الكلمة أيضًا للدلالة على إجراءات محددة تتخذ لتنفيذ الفعل، والكلمة صحيحة مبنًى ومعنى. أما من حيث المبنى فقد جاءت الكلمة على وزن قياسي في العربية، وأما من حيث المعنى، فالمعنى الجديد ذو اتصال وثيق بالأصل الذي أُخذ منه «آلة» حيث إنه لا وجود للكلمة في المعجمات القديمة والحديثة، التي بين أيدينا، باستثناء المعجم العربي الأساسي، وقد استخدمها في معنى مختلف: هو فنُّ اختراع الآلات واستعمالها. لذا فقد اقترح إضافة هذه الكلمة بدلالتها إلى معجمات المجمع. وفي الجلسة الثانية والعشرين من جلسات مؤتمر الدورة السبعين (عام 2004) كانت الموافقة المجمعية التي تلتها موافقة مؤتمر المجمع السنوي. وعلى سبيل المثال أيضًا، كلمة «الحساب» بمعنى الأجر. وقد تقدم الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع السابق ورئيس لجنة الألفاظ والأساليب, رحمه الله إلى المجمع بمذكرة يطلب فيها إجازة لفظ «الحساب» بمعنى الأجر، من قبيل التوسع في المعنى، فيقال: أعْطِ العاملَ حسابه، أي أجره. وجاء نصّ مذكرة الدكتور ضيف على هذه الصورة: في اللغة: الحساب: العدُّ والتقدير. يقال: حسب المال ونحوه إذا عدّه أو قدّره، كما يقال عن كريم: إنه يعطي بغير حساب، أي أنه يُعطي الكثير بدون عدٍّ أو تقدير. ويقول الشخص: هذا الأمر لم يكن في حسابي أو تقديري. واستعملت العامة الحساب بمعنى: الأجر، يقولون: أعْطِ العامل حسابه، أي: أجره؛ كما يقولون: لنا عنده حساب، أي مبلغ من المال. فسمّوا الأجر والمبلغ من المال باسمْ الحساب، إذ يلزم الأجر والمبلغ المطلوب الحساب من باب المجاز واللزوم. وقد أجازت اللجنة بحث الدكتور شوقي ضيف، ثم أقره المجلس والمؤتمر (بالجلسة الخامسة عشرة من مؤتمر الدورة السادسة والستين عام 2000). وإبداع باللغة: من بين شعراء مصر في عصر الدولة الأيوبية شاعر اجتمع له من رقة الحسّ ورقة اللغة ورقة التصوير ما جعل منه مثالاً للرقة وعنوانًا عليها بين غيره من شعراء عصره، وغيره من العصور. واللغة التي يستعملها البهاء زهير تستحق الالتفات والتأمل لكونها لغة هي لغة الناس الفعلية، لا تجافيهم ولا تتعالى عليهم، ولا تجابههم بغلظتها وصعوبتها، فقارئ شعره يحسّ أنه يقرأ المألوف والمعتاد من أساليب التعبير، تنهمر كالماء السلسال في غير عنت أو مشقة، وتحمل من خطرات نفس الشاعر ونفحات وجدانه ما يدلُّ على بساطته الأنيقة أو أناقته البسيطة، في غير غُلوٍّ أو إسراف، ووصوله ونفاذه إلى المعنى من أيسر طريق وأسلس تناول، حتى وهو يمتح من مخزون خبراته وتجاربه ومعرفته بالناس والحياة، يغترف منها ببساطة متناهية، ويعيد صياغتها ببراعة لا يتقنها غير المتمرس القدير. فنحن مع قصائده نطالع ونلمس ونتحسس تجليات إبداعه الشعري وفنه فيه، لكنّا لا نعرف شيئًا عن أسرار هذه الصياغة ولا نكاد نراها أو نردُّها إلى أصولها ومكوّناتها، هي السهولة الممتنعة، تلك التي يظن الجهلاء أنهم يحسنون مثلها، ولكن هيهات. البهاء زهير إذن شاعر البساطة، وشاعر الروح المصرية الخفيفة الظل، وشاعر اللغة الجميلة السهلة الطيّعة التي انتزعها من ألسنة الناس وسكب عليها ماء شاعريته وكيمياء فنه. يقول البهاء زهير: أنا في الحب صاحب المعجزاتِ وهي الرقة نفسها والبساطة الجميلة الأنيقة، في لغتها المُتخيّرة، ومعجمها البعيد عن الابتذال أو الإسفاف، - بالرغم من أنه منتزع من لغة الناس ولغة الحياة، التي تحيا على ألسنة الناس وأقلامهم، في عصره وبعد زمانه نطالعهما في قصيدة جميلة الإيقاع، بديعة الفواصل، يقول فيها: هو خطى قد عرفتُه والبهاء زهير هو صاحب هذه الكلمات الجميلة التي ذاعت شهرتها بعد أن لُحّنتْ وغُنّيت، لرقّتها وسلاستها وتدفّقها شعورًا وإحساسًا ولغةً: يُعاهدني لا خانني ثم ينكُثُ وأخيرًا يقول شاعر رقة اللغة وخفة الظلّ وسماحة الروح والعشق على الطريقة المصرية في زمانه، عصر الدولة الأيوبية: أأحبابَنا، بالله كيف تغيرت
|