إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

أزمة الإعلام أم أزمة الديمقراطية؟

قد لا يكون من قبيل الصدفة أن يتراجع عدد الصحف في بلادنا والعالم، وأن تختفي المقالات التي كان القراء فيما مضى يتهافتون عليها ويتداولونها ويحولونها موضوعات لأحاديثهم وزادًا لثقافتهم. لكن أزمة الصحف ليست سوى وجه من أزمة الإعلام الشاملة. وهي ليست الوجه الأخطر، فالأخطر هو الإعلام المرئي.

عندما تسود الديمقراطية يكون الشعب سيدًا، والإعلام حرًا يعكس تنوع الآراء. وعندما تضعف الديمقراطية يستأثر النافذون بالإعلام، ويرسمون الحقيقة على قياس مصالحهم.

في السنوات الثلاثين الأخيرة لم تعد السلطة السياسية تملك وسائل الإعلام بل رجال الأعمال.

ومنذ أن صار الأمر كذلك بدأت المؤسسات الإعلامية تغربل الصحفيين، وتعالج كبرياء من يصعب تدجينهم. وإذا كانت عادة السلطة السياسية أن تتعامل مع هؤلاء بالتهديد والوعيد، فإن عادة رجال الأعمال أن يتعاملوا معهم بالرشوة، فيشترون ذممهم بالعلاوات والوعود بالمراكز الجيدة. والصحفيون، ككل الناس، يغريهم المال والمركز.

عندما تحوّل الإعلام المرئي إلى إعلام تجاري، صار دأبه أن يحوّل المشاهدين إلى زبائن. فأخذ يزرع فيهم روح الاقتناء وحبّ الظهور والربح بأي ثمن. وصار يكثر من برامج الألعاب وعروض الأزياء والدعايات التي تُسلِّع المرأة وتشجع الناس على الاستهلاك. وشيئًا فشيئًا بدأ يحقق غايته. فقد دخلت هذه الروح إلى عقول أطفالنا. وبدلاً من أن تكون سلع السوق مفصلة على حاجاتنا، صارت حاجتنا مفصلة على سلع السوق. صار التلفزيون دليلنا. لم يعد جمالنا جزءًا من تكويننا، صار صناعة في متناول يدنا. وصرنا نغيّر وجوهنا لنشبه من يعجبنا. وأصبح البوتكس وشد الوجه من ضروريات نسائنا، وحتى عجائزنا، وتغيرت أعراسنا فلم تعد مناسبات فرح،صارت أفلامًا نواجه فيها الكاميرات والمصورين ونمثّل أدوارنا. فاختفت منها الروح وحضرت المظاهر، غاب الفرح وحلت الابتسامات البلهاء والضحكات الاصطناعية. ومنذ أن أفرغت محطات التلفزة عقولنا وأرواحنا ازداد توترنا. ولما بحثنا عن منجاة من التوتر لم نجد أمامنا سوى محطات التلفزة نفسها.

ثم نسينا القيم التي كانت تدعونا إلى السعي إلى مستقبل أفضل، والترفع عن السطحية والمادية، وضبط الشهوات، وتعميق فهمنا للعالم الذي نعيش فيه، والمشاركة في هموم شعبنا ووطننا. وصرنا محاصرين بخطاب إعلاني يغرينا بالإكثار من الاستهلاك، والإصغاء إلى صوت الرغبات، وإهمال كل ما هو خارج ذواتنا.

يكفي أن ننقّل النظر بين محطات التلفزة الكبيرة، المحلية والفضائية، لنكتشف كم أن الشعب غائب عن برامجها. فهي تستقبل مغنين وممثلين وكتّابًا وصحفيين وسياسيين ورجال أعمال، ولكنها لا تستقبل عامل مصنع أو سكرتيرة في شركة أو فلاحًا يعيش من جني يديه. فهل نعجب بعد ذك إن كنا لا نعرف شيئًا عن أوضاع شعبنا بينما نعرف الكثير عن أي راقصة أو مطربة أو عامل في السياسة؟ وهل نعجب إن رأينا كل فتاة وشاب في مجتمعنا يحلم بأن يصبح مغنيًا؟

إن الإعلام في أزمة، والإعلاميين الرصينين أيضًا في أزمة. فهؤلاء، وعددهم غير قليل، يواجهون ما يجري منفردين عاجزين، ويرون مهنتهم تهبط من مستوى الرسالة التي تستحق أن ينذروا أنفسهم لها إلى مستوى وسيلة العيش، فيصغر عملهم في أعينهم ويفقدون حماستهم له. والصحفي الرصين يعرف أن الإعلام لو كان حرًا لساهم كثيرًا في التثقيف والتوعية وتكوين الرأي العام، وفي استعادة ما ضاع من القيم الإنسانية، وفي إعادة الحياة إلى الديمقراطية، وفي محاصرة العولمة بالضوابط التي تُخرجها من وحشيتها.

 

 

لطيف زيتوني