مساحة ود
المحطة الأخيرة
القطار يقف في محطته الأخيرة، في حدة متناهية يصفر، يعلن استعداده للرحيل من جديد، في لحظات قصيرة كان عليها آن تتخذ قرارا حاسما تصنع به مصيرا جديدا.
الكل كان يرى الشاب المتقدم لخطبتها أكثر من مناسب لمطلقة مثلها، ولكنها كانت ترفض رغم ما تسمعه وتعرفه عما تعانيه المطلقة في مجتمعنا من مشكلات، لم يكن رفضها موجها للشاب، ولكنها كانت تنتظر اللحظة التي تتمكن فيها من صنع قرار خاص بها، وحدها دون تدخل أحد، وخلاف رغبات الجميع، فربما كانت هذه أول مرة تشعر فيها بأنها تمتلك حرية قرارها.
حزن كبير ينتابها عندما تسمع أمها تتحدث عن ابنتها المطلقة كمن تتحدث عن مأساة. هل تدرك أمها بعد هذا العمر أي مأساة تعيشها المرأة المتزوجة؟ الأغلب أنها لا تدرك؟ بل لعلها مثل غيرها لا تريد أن تدرك، تجربتها السابقة في الزواج كانت كفيلة بأن تفتح عينيها على الكثير، عرفت كيف يمكن أن يتخفى الاستبداد في كل شيء حتى أنه يمكن أن يمارس باسم الحب، حين يتحكم الرجل في نوع الملابس وفي اختيار الصديقات والزيارات، ظلت لفترة تعتقد أن زوجها وحدها هو المستبد، لكن حين أتيح لها أن تبصر ما وراء الأبواب المغلقة والابتسامات المصطنعة والمظاهر المزيفة بدأت تدرك أنها مأساة الزواج أكثر مما هي مأساة زوجها، مأساة الحقوق المقدسة التي يمنحها المجتمع للزوج في بلادنا.
طلبت الطلاق، توسلت إليه كثيرا حتى تنجو بحريتها، ولم تحصل عليه إلا عندما أراد هو.
شيء ما بداخلها يرفض الهزيمة والاستسلام حتى لو كان ذلك على حساب أمور كثيرة أخرى، لم تستطع أن تعيش حياة مزيفة، لم تستطع أن تغمض عينيها عما هو واضح أمامها، رفضت الاستمرار حتى لا تتغلغل الخديعة داخلها وتحولها إلى تابع مجرد من كل رغبة، رفضت وهي تعلم نوع المعاناة التي ستواجهها بعد الطلاق، وضعها سيحولها إلى وباء تغلق في وجهه الأبواب، شبح امرأة مطلقة يخيف كل زوجة لا تجد إلا جدرانا عالية وأقفالاً ثقيلة تحتمي خلفها.
حذروها كثيراً من الندم، ولكنها تشعر بأنها ستظل تندم لو رفضت فرصة أن تقول " لا " لكل من يصر على أن يزج بها إلى خدعة أخرى، أصرت على أن تتمسك بقرارها الأول النابع من تجربتها هي ومن قناعتها هي لم تكن تريد العودة تحت رحمة أحد ولو كان رجلاً كامل الأوصاف.
ونجحت في مواجهة هذا الموقف بقوة وجرأة، نفذت رفضها وبكل ما تملك من قوة مضت تمارس حياتها، وبتفاؤل كبير تسير إلى الأمام، لا تلتفت وراءها ولا يصم أذنيها صفير القطار الذي يمر بسرعة وقوة كبيرتين.