شمبليون والطهطاوي: ظاهرتان ثقافيتان من تداعيات حملة نابليون

شمبليون والطهطاوي: ظاهرتان ثقافيتان من تداعيات حملة نابليون

لاشك أن الرجلين ليسا معاصرين للحملة الفرنسية التي استمرت في مصر سنوات ثلاثا (1798-1801)، فرفاعة رافع الطهطاوي ولد في العام 1801، أي في العام نفسه الذي انسحبت فيه القوات الفرنسية من مصر، وجان فرانسوا شمبليون ولد في العام 1790، أي لم يكن بعد قد تجاوز السنوات الثماني، إلا أن الاثنين ارتبط تاريخهما الثقافي والعلمي بأحد أهم إنجازات الحملة الفرنسية: مشروع كتاب (وصف مصر) (Description de 1 Egypte)، ومن المعروف أن هذا الكتاب هو مجموعة ما أسهم به علماء الحملة الفرنسية وخبراؤها، وقد بلغوا 167 عالماً وباحثاً وخبيراً وفناناً، غطّوا معظم الحقول: الرياضيات والطبيعيات والإنسانيات والآثار والترجمة والأدب والرسم والموسيقى.

صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في العام 1809 بصيغة 9 مجلدات من النصوص البحثية و14 مجلداً من اللوحات البيانية والرسوم والنقوش والخطوط، وكان من بينها لوحة حجر رشيد الذي نُقل إلى باريس، والذي انكبّ شمبليون على دراسته لفك رموز اللغة المصرية القديمة من خلاله، كما أن الإصدار عاد فاستكمل نشراً وتحقيقاً وتحريراً بإشراف الجغرافي الفرنسي جومار
"Jomard" الذي رافق الحملة، والذي ما لبث أن أصبح أستاذاً للطهطاوي أثناء البعثة الدراسية المصرية التي أوفدها محمد علي باشا في العام 1826.

وتشير المعلومات إلى أن الجغرافي جومار والمستشرق الفرنسي سلفستر ده ساسي (Silvister De Sacy) هما اللذان اكتشفا موهبة الطهطاوي في اللغات والترجمة، فوجّهاه نحو هذا الحقل من التثاقف، فكان امتحانه النهائي في العام 1930 عبارة عن تقديم مجموعة من الترجمات إلى اللغة العربية - شملت دراسات في التاريخ والسياسة والحقوق والأخلاق وعلم المعادن والطب والهندسة - كما شملت مواد امتحانه مخطوطته التي ذاع صيتها لاحقاً، والتي وصف فيها باريس تحت عنوان (تخليص الإبريز في تلخيص باريز).

ولعل المتأمل في مبادرة الطهطاوي لتلخيص باريس، يربط ما بين مشروع (وصف مصر) الكبير من قبل علماء الحملة الفرنسية ومن بينهم أستاذه جومار الذي استكمل إصدار المجموعة في العام 1828، وبين المبادرة (المتواضعة) لدى الطهطاوي في (وصف باريس) ليستخلص ما فيها من إبريز، أي من (حسنات) و (منافع) للنهوض بالمجتمع المصري ودولته الجديدة: دولة محمد علي باشا راعية البعثات المصرية إلى أوربا ولاسيما إلى فرنسا.

إلا أنه بين الوصفين يقوم تفاوت تاريخي ذو دلالات، لا لناحية تفاوت الزمن، بل بشكل أساسي لناحية التفاوت بين الموقعين والنظرتين ووظيفة المعرفة ومنهجها في كل من المشروعين.

مسار تاريخي

تتضمن نصوص (وصف مصر) معرفة استشراقية للمجتمع المصري وتاريخه وآثاره وفنونه وبشره، أي معرفة تتملّك موضوعها وتهيمن عليه بالمعنى الذي يذهب إليه أدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق). بل قد يذهب البعض إلى أبعد، إلى اعتبار هذه المعرفة معرفة استعمارية (مشبوهة)، ينبغي رفضها، لكي لا تشوّه الصورة (النقية) لمجتمعنا وتاريخنا وحضارتنا.

ومهما يكن، فإن المسألة وقد أضحت مسألة تاريخية، ليست هنا، أي ليس في الموقف المعياري الذي ينبغي اتخاذه، ذلك أن الحضارة والحرب، أو المعرفة والعنف، هما وجهان لمسار تاريخي واحد، صحيح أن بعض المفكّرين - المؤرخين اعتبر أن الحرب مدمّرة للحضارة، وكان هذا موقف تويمبي وفي ذهنه الحربان العالميتان الأوربيتان، إلاأن آخرين - وهم كثر - يرون الحضارة والحرب، يكمل الواحد الآخر. كان هيجل يرى في الحروب تجلّيات للتاريخ وللأفكار وللمؤسسات والدول. وكان قبله ليبنتز الفيلسوف الألماني أيضاً، قد اقترح في العام 1672، أي قبل الحملة الفرنسية بحوالي قرن وربع القرن، على ملك فرنسا لويس الرابع عشر أن يرسل حملة لاحتلال "بلاد الفراعنة"، "أم العلوم" والمركز الأمثل "للسيادة على العالم والبحار".

جان فرانسوا شمبليون، مكتشف الحروف الهيروغليفية وقارئ رموزها وواضع قاموس لغتها الذي اعتُبر مفتاح تاريخ الحضارة المصرية القديمة، يقع داخل هذا الإشكال التاريخي، أي داخل هذا الالتباس الذي تتجاذبه الأيديولوجيات الثقافية والسياسية من مرحلة إلى مرحلة، ومن بلد إلى بلد، وبصيغة عناوين ومفردات مختلفة: الثقافة والاستعمار، المعرفة والعنف، العلم والسلطة، الحضارة والحرب، وغير ذلك.. وعليه فإن كتاب "وصف مصر" يُعدّ إنجازاً حضارياً، وإن كتبه علماء قدموا في كنف حملة استعمارية استخدمت العنف المسلح في فتح البلد وإخضاعه، فثمة علماء كانت تُحرّكهم المغامرة العلمية وحدها وحب الاطلاع حتى مكابدة الخطر: إنها متعة المعرفة واكتشاف "الجديد" وفك ألغاز المجهول - إنها ذهنية "أنوار" القرن الثامن عشر، تلك التي كانت لاتزال تهيمن على العديد من علماء الحملة الفرنسية، بمعزل عن أهداف نابليون وحكومة الإدارة، وبمعزل أيضاً عن تصوّرات نابليون في تمثّله لعظمة "الإسكندر" ودوره "الهليني" في الشرق، بل حتى ولو افترضنا علاقة ما بين تلك الذهنية وهذه التصوّرات، فإن ثمة عالمية ثقافية كان يحملها المشروع الرأسمالي الأوربي بالرغم مما يحمله من تناقضات وصراعات ومنافسات استعمارية، ألم يحمل المشروع الإسلامي، إبان ديناميته هذه العالمية في الاقتصاد والثقافة والفتوح أيضاً، فتجلّت عند أدبائه ومؤرخيه وعلمائه ورحالته وجغرافييه الذين كانوا يجوبون البلاد المفتوحة بذهنية المغامرة العلمية نفسها؟

وشمبليون، عاشق التاريخ المصري القديم، واللغات الشرقية القديمة وصاحب الموهبة المبكّرة في إتقان اللغات بشكل خارق، كان قد "أحبّ مصر" بذهنية ابن قرن الأنوار، قرن الدعوة إلى العقل والديمقراطية والمساواة والانفتاح الإنساني على كل الحضارات، وقبل أن تتشكّل أفكار النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أفكار الاستعمار المؤسس على الإمبريالية المالية والثقافية ومفاهيم القومية الشوفينية والعنصرية التوسعية.

وقد يكون هذا الانتقال من ذهنية ثقافية، إلى ذهنية ثقافية أخرى، أي من ذهنية "الأنوار" إلى ذهنية "الإمبريالية" هو ما يفسّر ذلك الفرق في النظر إلى شمبليون بين صورتين: بين شخصية شمبليون الحقيقية - كمكتشف علمي أو كوجه حضاري من وجوه مشروع "وصف مصر"، والتمثال الذي نحته له لاحقاً النحّات الفرنسي بارتولدي (Bartholdi) في العام 1875 "في باريس قرب الكولاج دو فرانس". لقد نحت بارتولدي تمثال شمبليون بصورة رجل منقبض القسمات، متغطرس، وقد أسند ذقنه إلى قبضة يده ووضع رجله على رأس فرعون، إنه يبدو وكما يصفه الكاتب المصري أنور لوقا "مفكّراً متعجرفاً، يمثل دور المصارع الذي ينتصب على قاعدته متعالياً تعالي البرجوازي الغالب".

أما رأس الفرعون، فيبدو في التمثال مغلوباً صريعاً، إنها إذن علاقة اللاتكافؤ في زمن مسقط على زمن آخر، إنه التماثل في غير محله، تاريخياً وجغرافياً، وثقافياً، إنها صورة لعلاقة بين مستعمر يُرى ويُعاش بذهنية أواخر القرن التاسع عشر، ومجتمع يُقهر في حالة ضعفه، فستحضر بسبب هذه الذهنية قوة ذاك المجتمع من التاريخ السحيق لتكون هي أيضاً "أي القوة السابقة" في وضعية المغلوب أيضاً، وكما يظهرها - بوقاحة - رأس الفرعون في التمثال مداساً بقدم شمبليون.

هذا، في حين أن دارسي شمبليون، اليوم، لاسيما الفرنسيين منهم، يكتشفون اليوم أبعاد المفارقة، بل أبعاد الهوة القائمة بين شخصية شمبليون ودوره العظيم في اكتشاف ما كان مجهولاً من تاريخ مصر القديمة، والنظرة الاستعمارية الفرنسية اللاحقة لهذه الشخصية وذلك الدور، إنها إذن مفارقات التاريخ ووعي تحوّلاته على مستوى الذهنيات، وإدراك أن التاريخ لا يسير على خط واحد ووجه واحد.

أما رفاعة رافع الطهطاوي، فتشاء المصادفة ذات المغزى التاريخي، أن يكون في باريس، يدرس وهو في قلب الحركة الثقافية والاجتماعية الفرنسية ذات الاهتمام بذيول حملة نابليون وبما أنجزه علماؤها من مباحث واكتشاف واهتمامات. لقد أضحت، في حينه، موضوعات مصر مثار اهتمام الأوساط الثقافية والعلمية الفرنسية لاسيما في مجال علم المصريات (L Egyptologie)، كما أضحت مثار اهتمام الأوساط البرجوازية الباريسية لاعتماد (الموضة المصرية)
(
L Egyptomanie)، حيث شاعت هواية اقتناء الصورة المصرية والتمثال المصري والزي المصري والأثاث المصري.

هذا، وأن يكون "جومار" محرر كتاب "وصف مصر" أستاذاً وموجّها للطهطاوي، فهذا مؤشر إلى حالة "تثاقف" سيحسن الطهطاوي استيعابها والتعبير عنها، كنموذج لحالة حوار حضاري أولي بعد مرحلة الجمود التي شهدها المجتمع المصري، والتي سبق للجبرتي أن وصف بعض حالاتها على مستوى الأعيان والعلماء والعامة والطرق وعلاقات السلطة والسوق.

المقارنة الأولى

ولنتذكر أن نصوص الجبرتي التي وصفت أحداث الحملة لم تكن معبّراً عن حالة تلق أو تأثّر بعلوم فرنسا وأفكارها كما اعتقد البعض، عدا أن نصوصه ظلت محظورة، كما يقول شارل عيساوي حتى العام 1870. إن نصوص الطهطاوي التي تضمنت وصف مشاهدته لباريس، تحمل - في رأيي - محاولات المقارنة الأولى بين مجتمعين وثقافتين ورؤية ما في المجتمع "الآخر" وثقافة "الآخر" من "إيجابيات"، ولنقل لإدراك النسبية التاريخية في النظر إلى المجتمعات والحضارات في التاريخ العالمي.

لقد اكتشف الطهطاوي في السياق التاريخي والثقافي الذي عاش فيه، صراحة أو ضمناً، أمرين بغاية الأهمية "وهو موضوع يحتاج إلى معالجة مستقلة" الأول، أن تاريخ مصر لا يبدأ مع الإسلام، وأن تاريخ مصر القديمة ليس تاريخ وثنية كما تعلّم في الأزهر، بل هو تاريخ حضارة ومدنية، تاريخ يتواصل مع تواريخ لاحقة، يونانية وعربية وإسلامية وأوربية، والثاني، أن التاريخ الإسلامي الذي اختزل في وعي الأزهريين والفقهاء على أنه تاريخ الدعوة وتاريخ الشريعة وتطبيقاتها في عالم الإسلام، لم يعد هو التاريخ العالمي.

ولعل خيار الطهطاوي للترجمة كباب لمعرفة العالم والتاريخ العالمي والدخول فيه، كان الباب الصحيح والأسلم الذي وجب طرقه آنذاك لاكتشاف العالم قديمه وحديثه.

كان شمبليون، في الوقت نفسه، يكتشف عالم مصر القديمة عبر فك رموز الكتابة الهيروغليفية وتقديم قاموس لها، ليضع العالم بأسره أمام "أم الحضارات".

هكذا وكل من موقعه يكتشف كل واحد منهما وحدة العالم وعلاقة ماضيه بحاضره، ولمزيد من التعلّم ولمزيد من المعرفة، ولمزيد من اكتشاف الغنى والتنوّع في هذا العالم. والمفارقة أن يكون الاثنان نتاج علاقة الالتباس أو التداخل بين الحرب والحضارة، بين الثقافة والاستعمار، وفي الحالة التي ندرس بين الحملة العسكرية التي شملت محاربين ومدافع، و(الجامعة المتنقلة) التي ضمّت 167 عالماً وآلات ومختبرات.

إنها مفارقات التاريخ، بعض الشعوب تعيها فتستفيد منها، كحالة اليابان ربما، وبعض الشعوب لا تعيها، أو قلما تستفيد منها كحالة العرب ربما، فلماذا؟

 

وجيه كوثراني

 
 




نابليون





كتابات هيروغليفية من اللغة المصرية القديمة





نسخة مصورة من حجر رشيد