في الثقافة العربية ـ الفارسية: عطاء مترجم كبير

 في الثقافة العربية ـ الفارسية: عطاء مترجم كبير

في السابع عشر من يوليو الماضي حلت الذكرى السنوية الثانية لوفاة الباحث والمترجم المصري البارز، في مجال تعريف المكتبة العربية بالأدب الفارسي، الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا.. هنا وقفة تحية وتقدير.

يحسن أن نبدأ حديثنا هنا، بإشارة تمهيدية إلى بعض روابط اللغة والأدب بين العربية والفارسية. فعلى الرغم من اختلاف اللغتين في الجذور والقواعد وغير ذلك، فإنهما تبادلا قدراً كبيرا من المفردات والمصطلحات، التي لا تزال قيد الاستعمال والتداول، بل النحت والاشتقاق، لدى الطرفين.

فلا تزال الفارسية المعاصرة، وبشكل واضح، تزخر بكلمات عربية لا تحصى مثل نقصان، ضعيف، متحير، إدراك، رئيس، جمهور، اتمام حجت، بهتان وغيرها. ومن الكلمات العربية ما نراها بالفارسية في صيغة المفرد والجمع معا مثل اشتباه، اشتباهات، تبليغ، تبليغات، اطلاع، اطلاعات.

وفي اللغة العربية كما هو معروف، كلمات كثيرة من أصول فارسية، في العربية الفصحى، مثل الفالوذج والباذنجان والجنزير والدبوس، وفي العامية المصرية والكويتية والشامية مثل بس ـ بمعنى كفى ـ وطازه، وتنبل، وخرده وكهنة، وبخت، وبستان، وطربوش وأصلها سربوش أي غطاء الرأس. (انظر كتاب دراسات في الحضارة الإسلامية لنخبة من الأساتذة المصريين والإيرانيين، القاهرة 1979).

وقد قال البعض إن الأدب الإيراني القديم كان أول أدب أجنبي اتصل به الأدب العربي، وبخاصة في منطقة الحيرة. وظلت اللغة العربية هي اللغة الوحيدة المستخدمة في إيران طوال القرنين الأول والثاني الهجريين حتى نسي الإيرانيون قدراً هائلا من ألفاظ لغتهم البهلوية القديمة وطريقة كتابتها، وأصبحوا لا يعرفون إلا الخط العربي، ولهذا استعان الفرس في إحياء لغتهم باللغة العربية، ودخل المعجم العربي برمته تقريبا في المعجم الفارسي، حتى قال البعض إن نسبة الألفاظ العربية في المعجم الفارسي تزيد على السبعين بالمائة. وإلى جانب الأدباء الإيرانيين الذين ألفوا كل انتاجهم باللغة العربية، وجد آخرون ألفوا باللغتين الفارسية والعربية ويدعون "أصحاب اللسانين" مثل ابن سينا والغزالي وشمس الدين الرازي الذي وضع كتاب "المعجم في معايير أشعار العجم" بالفارسية، و"المعرب في معايير أشعار العرب" بالعربية. كما وجدت جماعة من أصحاب اللسانين من كانوا يصدرون كتبهم باللغتين مثل أبي الريحان البيروني والمؤرخ رشيد الدين فضل الله صاحب "جامع التواريخ".

وفي مجال الشعر نظم بعض الشعراء الفرس بالعربية والفارسية من هؤلاء الشاعر الشهير عمر الخيام، ومنهم سعدي الشيرازي الذي رثى سقوط بغداد بيد المغول بقصيدة عربية وقصيدة فارسية عبارة عن ترجمة لها.

ومما يؤسف له أن حركة الترجمة بين الفارسية والعربية نشاط أدبي قديم ولكنه لايزال محدوداً. وقد ذكر ابن النديم في فهرسته خمسة عشر مترجما من الفارسية إلى العربية مثل ابن المقفع وآل نوبخت والحسن بن سهل واسحق بن يزيد ومحمد بن بهرام وعمر الفرخان. كما تمت ترجمة الكثير من الكتب العربية إلى الفارسية مثل تاريخ الطبري وتفسيره، ورحلة ابن بطوطة والملل والنحل للشهرستاني ومقدمة ابن خلدون ووفيات الأعيان.

وفي العصر الحديث برزت بعض الأسماء العربية في مجال دراسة اللغة الفارسية وترجمة آدابها في مصر والعراق ولبنان وغيرها. (انظر: دراسات في الأدب المقارن، د. بديع محمد جمعة، بيروت: 1980، ص 89 ـ 90).

وقد زاد الاهتمام بالدراسات الفارسية في مصر مع نشأة "الجامعة الأهلية" عام 1908 بالقاهرة، حيث أولت كلية الآداب بها منذ بدء انشائها دراسة اللغة الفارسية والأدب الإيراني عنايتها. وقد ازداد الاهتمام مع انشاء "معهد اللغات الشرقية" عام 1944، الذي يعد من أقدم الأقسام المعنية بالدراسات الشرقية في العالم العربي، ومن بينها الدراسات الفارسية.

وكان د. عبدالوهاب عزام، مترجم الملحمة الشعرية الفارسية المعروفة بالشاهنامة، على رأس المتخصصين في الجامعات المصرية. وممن برز في هذا المجال كذلك د. إبراهيم الشواربي صاحب كتاب حافظ الشيرازي ومترجم ديوانه، وحامد عبدالقادر الذي نشر مختارات من شعر سعدي، ود. محمد الغنيمي هلال ومحمد موسى هنداوي، ود. زكي محمد حسن، ود. محمد عبدالسلام كفافي الذي ترجم مجلدين من أشعار جلال الدين الرومي، ود. يحيى الخشاب مترجم تاريخ البيهقي ود. أحمد الساداتي وعبدالمجيد بدوي، ود. أحمد كمال الدين حلمي.. وغيرهم.

طبع ديوان حافظ مثلا في القاهرة عدة مرات منذ عام 1834 ـ 1250 هـ بمطبعة بولاق. ويقول د. جمعة (إن المطابع المصرية كانت في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين مهتمة بنشر كتب التراث الفارسي، حتى قال البعض إن مجموع ما طبعته مطبعة بولاق من كتب التراث الفارسي أكبر من مجموع ما طبع في جميع مطابع إيران في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي). (من روائع الأدب الفارسي، د. بديع جمعة، بيروت 1983، ص 329).

حياة حافلة

ولد الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا في "بيلا" بمحافظة كفر الشيخ، وكان أبوه أزهريا يعمل بتدريس اللغة العربية بجانب عمله التطوعي إماما للجامع. وقد تخرج د. شتا في كلية الآداب بجامعة القاهرة قسم اللغات الشرقية فرع لغات الأمم الإسلامية في يونيو 1962 بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف وهو لم يتم العشرين عاماً، وعين معيداً في القسم نفسه فنال الماجستير ثم الدكتوراه عام 1972، وحصل على درجة أستاذ عام 1983، ورأس قسم اللغات الشرقية من يناير عام 1990 حتى سبتمبر 1992، ثم من يناير عام 1995 حتى وفاته.

وتولى د. شتا تدريس اللغة الفارسية وآدابها والأدب المقارن واللغة التركية في ليبيا لمدة عامين، واللغة الفارسية في جامعة سعود بالمملكة العربية السعودية لمدة عام دراسي واحد.

ترك د. الدسوقي شتا للمكتبة العربية العديد من الأعمال البارزة في مجال تخصصه. وقد ترجم بين العربية والفارسية ما يزيد على الثلاثين مؤلفا في مجال القصة والأدب والشعر. من بين هذه الكتب "الثورة الإيرانية: الجذور ـ الإيديولوجية"، بيروت .1979 وقد احتوى الكتاب على مقدمة في تاريخ إيران والتشيع، ثم ترجمة لأحد أعمال المفكر الإيراني "علي شريعتي"، بعنوان "بناء الذات الثورية"، ومجموعة من خطب وأقوال آية الله الخميني، مع هوامش مطولة، وأخيرا مختارات من كتاب د. حبيب الله بايدار بعنوان "التفسير الثوري للجانب الاقتصادي في الإسلام".

ترجمة المثنوي

ومن أعماله الأخرى "نصوص فارسية في التاريخ الإسلامي والأدب الفارسي"، "التصوف عند الفرس"، "اللغة الفارسية للمبتدئين"، "مطالعات في الرواية الفارسية المعاصرة"، وترجمة "الفكر السياسي الإسلامي المعاصر" للباحث الإيراني حميد عنايت، .1988

أما أهم انجاز علمي ومؤلف دأب عليه الدكتور شتا سنوات طويلة وقيمته العلمية عظيمة لدارسي اللغات والترجمة فهو "المعجم الفارسي الكبير"، فارسي ـ عربي، ويقع في ثلاثة مجلدات.

عكف د. شتا خلال السنوات العشر الأخيرة على ترجمة أثر خالد، وأحد الأعمال الشرقية العظيمة، وهو "مثنوي جلال الدين الرومي"، الذي يقع في ستة أجزاء كبيرة، يصل حجم الجزء الواحد منها إلى حوالي ستمائة صفحة، مع هوامش غنية يصل حجمها إلى نصف الكتاب الذي يتضمن نحو ثلاثين ألف بيت شعر، ويعود الفضل إلى المجلس الأعلى للثقافة في مصر، وإلى أمينه د. جابر عصفور في ظهور هذا العمل إلى النور. فالمثنوي من أصعب النصوص الصوفية المعقدة، لشيخ صوفي كبير المقام في عالم التصوف والأدب كما سنبين بعد قليل، والنص متعدد المستويات والأعمال، وتكثر به المصطلحات الصوفية، ويعبر عن تجربة دينية صوفية عالية المستوى، وقد ترجم د. شتا المثنوي إلى لغة عربية جميلة رصينة حافظت على المعاني الأصيلة وقدمتها في أسلوب عربي بليغ ستصبح بلاشك أحد الأعمال الكلاسيكية في الترجمة من الفارسية إلى العربية.

والواقع أن ترجمة المثنوي إلى العربية بدأت مع المرحوم د. عبدالسلام كفافي الذي قدم منه مجلدين طبعا في لبنان، وقبل وفاته أوصى تلميذه د. شتا بإتمام الترجمة. وبالفعل أقدم الرجل، فقدم المجلدين الثالث والرابع. وبلغ حرصه وإخلاصه لإستاذه أنه قام بطبعهما على نفقته الخاصة، ثم ظهرت في السنوات الأخيرة طبعة جديدة للمثنوي باللغة الفارسية تستند إلى أصول أقرب إلى زمن "مولانا جلال الدين" صاحب "المثنوي". وهنا بدأ د. شتا ترجمة كاملة للمثنوي مستندا إلى أحدث ما صدر، شارحاً المتن شروحاً مفصلة. وهذه الشروح تضم نصوصاً لمولانا جلال الدين ولشعراء الفرس العظام. وهكذا وفق د. شتا إلى ترجمة هذا النص الذي يرجع إلى القرن السابع الهجري، ولم يكن ممكنا ترجمته إلا بتصدي أستاذ كبير وذي طاقة جبارة وإرادة قوية. فلا غرابة إذ دعا الأستاذ جمال الغيطاني إلى اعتبار ظهور هذه الترجمة حدثاً ثقافياً كبيراً لابد من الاحتفال به حيث يعتبر "المثنوي" أثراً أدبياً إنسانياً رائعاً لا يخلو منه بيت في إيران وتركيا وآسيا الوسطى، وهو معروف كذلك في الغرب بعد أن ترجمه إلى الإنجليزية المستشرق الشهير نيكلسون .

(استقينا المعلومات السابقة عن حياة د. إبراهيم الدسوقي شتا من الملف الشهري الذي نشر في العدد 195 من مجلة "المختار الإسلامي"، الصادر في 2 مارس 1999).

الرومي.. والمولوية

ونختتم مقالنا هذا، تعميماً للفائدة، بشيء من الاستطراد عن جلال الدين الرومي 1207 ـ 1273م الذي ولد في مدينة "بلخ"، والملقب بالرومي لإقامته الطويلة في منطقة الأناضول بتركيا حيث دفن في مدينة "قونية" إلى جوار أبيه، كما اشتهر باسم "مولوي" بعد أن اجتمع حوله خلق كثير من المريدين واختاروا طريقته التي عرفت بالمولوية.

وقد "ظلت الفرقة المولوية تواصل رسومها وتقاليدها في الزي والعبادة حتى بداية القرن العشرين عندما ألغت الحكومة التركية نظام التكايا، ولكن رقصاتهم الشهيرة تعتبر من الفولكلور التركي الشعبي الذي تحرص تركيا الحديثة على الحفاظ عليه، وتقديم نماذج منه في المناسبات الوطنية والاحتفالات العامة". "من روائع الأدب الفارسي، د. بديع جمعة، 305".

ساح جلال الدين مطولاً في العالم الإسلامي، وتنقل بين إيران والحجاز والعراق وغيرها. وسافر إلى حلب ودمشق لكي يلتقي كبار رجال الفكر والدين، "وبخاصة أن معظم علماء المسلمين في شرقي العالم الإسلامي كانوا قد هاجروا إلى الشام خوفاً من حملات المغول. فكانت الشام مكاناً خصباً للعلوم والمعارف.. ويقول البعض إن إقامته في الشام استمرت من أربعة إلى سبعة أعوام، عاد بعدها إلى قونية ليواصل عمله بالتدريس والوعظ والإرشاد" (نفس المرجع، 307).

شمس الدين التبريزي

ظل الحال كذلك إلى أن حدثت حادثة كبرى في حياة جلال الدين أحدثت فيه تغييراً جذرياً. فقد التقى جلال الدين الشيخ شمس الدين التبريزي، وكان هذا اللقاء نقطة التحول في حياته، إذ نقطع بعده عن أصحابه وتلاميذه، وتحول من عالم فقيه إلى متصوف غارق في روحانيات الحب الإلهي، الأمر الذي جعل تلاميذه يثورون على شمس الدين ويتهمونه بالسحر، فرحل إلى دمشق، ولكن جلال الدين لم يقو على فراقه، فقد كان شمس الدين كسقراط في قوة تأثيره على مستمعيه ومريديه، وانقلب الرومي من فقيه له مكانته ويعتد بعلمه ومعرفته في مجال الشريعة إلى متصوف غارق في روحانية الحب الإلهي، ويعبر عن هذه الأحاسيس في أشعار صوفية، دون مراعاة لموقف تلاميذه والعامة منه.

جلال الدين الرومي.. وشعر المتنبي

وتقول د. إسعاد قنديل، إن شمس الدين رجع إلى قونية، وازدادت العلاقة وثوقا، وعكف جلال الدين على الرقص الصوفي والسماع، فثار عليه العامة واتهموه بالخروج على الدين، ودعوه مجنونا وزعموا شيخه ساحراً، ولم يلبث شمس الدين أن اختفى، ويقال إنه قتل بإيعاز من تلاميذ جلال الدين. وقد أثرت حادثة مقتل شمس الدين في نفس جلال الدين تأثيراً كبيراً، وحزن على شيخه حزناً عظيماً، وانقطع للرياضة الروحية والسماع ونظم الشعر بعد تأسيس الجماعة المولوية.يعتبر جلال الدين الرومي أكبر الشعراء الصوفية على الإطلاق في الشعر الفارسي. وكان الرومي يتزود من كل مدينة تنزل فيها أسرته أثناء هجرتها من بلاد ما وراء النهر، بالعلم، ويحضر دروس العلماء. وكان مفتونا باللغة العربية وبأشعار المتنبي بصورة خاصة حيث ضم "المثنوي" عشرات الأبيات التي تكاد تكون ترجمة لبعض هذه الأشعار.

من أبرز آثاره الشعرية "الديوان"، وهو معروف بعنوان "كليات ديوان شمس تبريزي" ويحتوي على 42 ألف بيت شعر، و"المثنوي" المعروف باسم "المثنوي المعنوي"، ويقع في ستة أجزاء، ويشتمل على 26 ألف بيت، تناول فيها الشاعر كثيرا من المسائل الصوفية والدينية والأخلاقية، ويقال إنه أمضى نحو عشر سنوات في كتابة هذا الديوان. (فنون الشعر الفارسي، د. إسعاد قنديل، بيروت، 1981، ص212). وهو نفسه عدد السنوات التي أمضاها د. إبراهيم الدسوقي شتا في ترجمته إلى العربية!

 

خليل حيدر