العرب من منظور غربي: ألم الفشل وأمل الإصلاح محمد الرميحي

العرب من منظور غربي: ألم الفشل وأمل الإصلاح

حديث الشهر

مع دخول العام الجديد يقف المراقب برهة ليستعرض الماضي ويمد بصره ـ إن أمكن ـ للمستقبل. هذه الوقفة ليست يجب ألا تكون - وقفة الرجل الذي يرى الشجرة ولا يرى الغابة، بل من ينظر إلى الشجرة والغابة معا. بعد أشهر قليلة سوف تحتفل الجامعة العربية بعيدها الخمسين، مرور خمسين سنة على هذه المؤسسة العربية السياسية الأولى، وبعد ذلك سوف نستعد نحن في "العربي" للاحتفال بعيدها الأربعين. خمسون سنة وأربعون سنة تلاقت فيها المؤسستان في محاولة لخدمة الإنسان العربي، الأولى من منظور سياسي، والثانية من منظور ثقافي، فهل تكامل هذان المنظوران؟ وهل استطاعا أن يمهدا السبيل أمام العالم العربي إلى مشارف القرن الواحد والعشرين؟. إن العرب يشدهم إلى المستقبل أمل ويعوقهم في الماضي ألم، وبين الأمل والألم يدور حديثنا في مطلع سنتنا هذه.

ولأن الهم العربي قد عولج من داخله من أقلام وكتاب كثر فإن الحاجة تبدو ملحة إلى أن يعالج هذا الهم من خارجه، لقد نظرنا في المرآة كثيرا لأنفسنا وآن لنا اليوم ألا نرى أنفسنا ونعجب بها، بل ننظر كيف يرانا الآخرون.

مايكل فيلد Michael Field صحفي بريطاني يعمل في جريدة الفاينانشيال تايمز وهو مهتم بالشأن العربي وله كتابات سابقة على هذا الكتاب الذي أريد أن أقدمه اليوم، وعنوانه "داخل العالم العربي"، صدر في نهاية العام الماضي 1994- وهو كتاب صريح، يمكن أن يوصف بأنه صورة شبه كاملة لوصفة مفادها "كيف يرانا الآخرون؟". وليس بالضرورة أن نقبل كل ما جاء في هذا الكتاب من تفاصيل، إلا أنه من الخطأ أن نغض بصرنا عنه، وما سأقدمه هنا لا يعني الإحاطة الشاملة بما يريد الكاتب أن يقوله ولا غنى لمن أراد أن يتابع أن يقرأ الكتاب. يقول الناشر منوها إن هذا أول كتاب يصدر بالإنجليزية عن العرب (كجموع) بعد احتلال العراق للكويت وتحريرها. ويسرد لنا الكاتب قائمة طويلة بأسماء الذين قابلهم من العرب وغيرهم لوضع هذا الكتاب كذلك فإنه يشير إلى خبرته ومقابلاته السابقة والدراسات الأخرى عن العرب في سياق كتابه. والكتاب من قسمين سماهما الكاتب: الفشل والإصلاح.

"الفشل" قصير لا يستغرق سوى ثمانية فصول لا غير، ولكن "الإصلاح، عسير يأخذ من حجم الكتاب عشرين فصلا كاملة.

الفشل العربي

لماذا فشل العرب وأين فشلوا؟، هذا هو السؤال الأساسي الذي يطرحه الكاتب في قسمه الأول.

يعتبر الكاتب أن الفشل العربي السياسي والاقتصادي قد امتد لأكثر من خمسة عقود بعد الحرب العالمية الثانية. وهناك شعور بين العرب - من وجهة نظره - بالخيبة وعدم الثقة بالنفس، وهو يقدم من التجربة الجزائرية مثالا لهذا الشعور بالخيبة، وهي خيبة عبر عنها الرئيس الراحل هواري بومدين- قبل المشكلات الأخيرة- قائلا: (لقد عملنا من أجل الاستقلال، ولكن حلاوته سرقت من شفاهنا). ويرى الكاتب أن الخيبة والفشل ظاهرة عامة في الدول العربية ومن مظاهرها الديون المتزايدة لمعظم هذه الدول لمؤسسات مالية أو دول خارجية الأمر الذي يقود في النهاية إلى معادلة طرفها الأول أن الدولة التي لا تستطيع أن تضع ن إيجاد عمل لمواطنيها أو تقديم الخدمات التي عودتهم عليها في السنين الماضية لا بد أن تقدم مقابلا لذلك "الطرف الثاني من المعادلة" أن تقدم تنازلات سياسية. إلا أن المعضلة أن هذه التنازلات السياسية قد تقود ـ في نظر الكاتب ـ إلى فوضى إن هي قدمت بسرعة ودون تخطيط تدريجي، حيث ينقل عن أحد الثقات قوله (إن الديمقراطية العربية كالدواء يمكن أن تقتل إذا أخذت بجرعات كبيرة)!.

ويلاحظ الكاتب أن تعطيل خطوات الديمقراطية الشاملة هو ما سماه التحدي الأصولي فبعض الإسلاميين- كما يقول- رجال دين مثاليون لا شك في ذلك، إلا أن معظمهم يستخدمون الشعار الديني للوصول إلى السلطة ويؤيدهم الكثيرون لا لأسباب خاصة بهم ولكن لأن هؤلاء لهم موقف من الآخرين أو السلطة القائمة.

جذور الفشل العربي

الفشل العربي الذي نرى مظاهره اليوم له جذور تمتد إلى مرحلة الحرب العالمية الأولى، عندما نشط القوميون العرب ضد الهيمنة العثمانية آملين الحصول على الاستقلال، ولكن كل ما حصلوا عليه بعد ذلك هو الوقوع في قبضة الاستعمار الغريب وتكريس الانقسام بين الأفكار المختلفة، وأخيرا قيام إسرائيل برغم أنف الجميع. ويبحر الكاتب في تاريخ العرب الحديث المعروف للكثير منا، ولكنه يحلله بمنظور آخر. فهو يعتقد أنه ليس الفشل والمرارة هما السبب في أن القوميين لم يحصلوا على دولتهم الموحدة، فحتى هذه الدولة لم تكن لتسعدهم بل وقد تفتقر أيضا إلى الاستقرار نظرا للتناقضات التي يمكن أن تحتوي عليها. وما اختلف القوميون عليه في المشرق ليس أن تنشأ دولة عربية موحدة ولكن حول أي مقاطعة من المقاطعات يمكن أن تنضم إلى هذه الدولة مع ما فيهـا من أقليات عرقية أو مذهبية. فكرة الوحدة التي رفعت شعار التخويف أو إرهاب الآخرين لم يكن رافعوها يرضون بها. ويدلل الكاتب على الخلافات العربية من مراحلها المبكرة، ويلاحظ بشيء من الغمز المبطن أن الوحدة العربية مقبولة فقط من تلك الدول- التي تمكنت من السيطرة على الآخرين- لا مشاركتهـم.

ثم يأتي الحديث عن ملابسات الثورة العربية سنة 1916، وهو يرى أن ذلك تم لأن جمال باشا (الذي سماه التاريخ العربي بالسفاح)، قد اكتشف نية الشريف حسين بالانفصال عن الإمبراطورية العثمانية، وكان يجهز جيشا لاحتمالات العصيان. ويرى الكاتب أن أحد أسباب الفشل العربي اللاحق أو أن العرب لم يفهموا ما حدث فيما بين عامي 1914 و 1922 وهي أعوام الحرب العالمية الأولى وما بعدها، فهذه الفترة هي مصدر ظهور معظم الخرافات السياسية والتصور القائل إن خلف كل حدث توجد مؤامرة أو ما يعرف بالتفسير التآمري للتاريخ. مع أنها في نظر الكاتب مصالح للدول الكبرى تغيرت وتبدلت حتى بمرور سنوات الحرب وسنوات المفاوضات التي تلتها. لذلك فإن اتفاقية سايكس- بيكو (فبراير 1916) ووعد بلفور للصهـيونية (نوفمبر 1917) ومراسلات الشريف حسين مع مكماهون، كلهـا كانت ضرورات الحرب والسعي وراء النصر.

ومن الطريف أن الكاتب يفسر الحديث عن الاستقلال في مراسلات الشريف حسين ومكماهون بأنه يعني الاستقلال عن تركيا، ولا يعني أن العرب- تلقائيا- سوف يحكمون أنفسهم!! ويبرر هذا القول بأن الغرب كان على يقين منذ عقود- قبل الحرب العالمية الأولى- من سقوط الإمبراطورية العثمانية، وكان يشار إليهـا دائما (بالرجل المريض، وفي حال سقوطها فإن الدول الأوربية سوف تتسلم مسئولية الإشراف على الأراضي التي كانت تابعة لها. لقد كان الساسة الخربيون وقتها ينظرون إلى العرب في إطار الأفكار التي استقوها من الكتاب المقدس أكثر من فهمهـم للعرب كحقيقة وواقع. ودائما كانت المصالح هي التي تحدد مسار السياسة الغربية، فقد كان هم البريطانيين الأساسي تأمين طريق سكة حديد من موانىء البحر الأبيض إلى شمال الخليج لتسهيل نقل الجيوش من أوربا إلى الهند، جوهرة الإمبراطورية في ذلك الحين وأيضا لإبعاد الروس عن المنطقة. وظلت مشكلة البريطانيين لمائتي عام خلت ألا يكون للروس مواطئ أقدام في موانىء البحر الأبيض، وألا تكون. لهم حاميات عسكرية في أفغانستان وإيران، والتي من خلالها يمكن أن تصل جيوشهم إلى سهول الهند.

والفرنسيون من جهة أخرى كانت مصالحهم تتمحور حول المسيحيين في جبل لبنان، والذين تدخلوا قبل ذلك لحمايتهم في الحرب الأهلية سنة 1860، ومنذ تلك الحرب كان الجبلي اللبناني يحكم من مسيحي مسئول مباشرة من الصدر الأعظم في إسطنبول، ولكن هذا كان يتم بالتشاور الدائم مع القوة الغربية. هذا التدخل السياسي الفرنسي تواكب مع الاهتمام بزيادة التجارة، وكانت السفن التجارية الفرنسية تنقل الحرير من دمشق مرورا ببيروت إلى البرجوازية الفرنسية الناهضة في نهاية القرن الماضي. وقد ارتبط ذلك بذكريات فرنسية قديمة ترجع بلى الدولة المسيحية التي ظهـرت إبان الحروب الصليبية وكانت عاصمتها دمشق. لذا فقد كانت الخطوة الطبيعية، أنه بمجرد إعلان الدولة العثمانية دخولها الحرب أن تحاول فرنسا احتلال الإقليم السوري. من هذه المصالح نبتت فكرة تقسيم ممتلكات الإمبراطورية العثمانية إلى إقليم شمالي يكون بحوزة الفرنسيين، وإقليم جنوبي يحوزه البريطانيون. ذلك كان التخطيط إبان الحرب، أما بعد الحرب فقد اختلفت المصالح. وجد البريطانيون أنفسهم في دوامة وعودهم المتناقضة مع الفرنسيين، ومع الشريف حسين، ومع الصهيونية.

ومع المناورات السياسية التي تلت، فإن هذه الوعود الثلاثية لم تتحقق كما أريد لها، فاكتفى الفرنسيون بسوريا ولبنان بعد مناوشات وحروب وضم البريطانيون إقليم الموصل لمصالحهم في العراق، إلا أن العرب كانوا مختلفين أيضا. ففي المؤتمر السوري العام الذي عقده القوميون في نهاية عام 1919 وبداية 1920، كان هناك اتفاق على أهمية وجود سوريا الكبرى ولكن ليس العراق، فقد أصبر معظم ممثلي ما بين النهرين (العراق لاحقا) على أن يرفضوا فكرة التوحد!.

هذه الجذور في الاختلافات التي يناقشها الكاتب بإسهاب هي التي، في نهاية الأمر، كانت السبب في وجود بعض الدول العربية المعروفة اليوم في بلاد الشام، وظهرت الدولة القطرية التي أخذت استقلالها بعد ذلك تدريجيا من النفوذ البريطاني والنفوذ الفرنسي وتوالت مواقيت الاستقلال وتكون الدولة الحديثة.

سنوات الليبرالية ورد الفعل

سنوات الاستقلال الأولى أوجدت حكومات ليبرالية كانت حريصة على القطاع الخاص والمبادرة الفردية، وحرية التجارة وحرية الانتقال، وحرية القول، وامتد العصر الليبرالي منذ الاستقلال حتى نهاية الأربعينيات بدرجات مختلة، إلا أن هزيمة سنة 1948 وظهور دولة إسرائيل أحدثا العديد من ردود الفعل العربية وكان سببها المباشر أن الجيوش العربية فسرت تلك الهزيمة بتخاذل الحكومات العربية التي أدخلت إلى الحرب جيوشا لم تكن مستعدة ولا مجهزة، وتزامنت الانقلابات العسكرية بتحول العالم إلى حرب باردة ومن أجل تعبئة الجميع ـ كما رأى المسئولون الجدد- صار التحول التدريجي إلى الاشتراكية العربية، وهي محاولة لإيجاد صيغة ما تناسب الثقافة العربية ولا تندمج مع الممارسات الماركسية، فقط الدولة الوحيدة التي أعلنت ماركسيتها هي دولة اليمن الجنوبي، أما بقية التجارب العربية فقد كانت تعبيرا عن الجو العام الذي أخذ يسود العالم الثالث، وكان الهدف هو البحث عن توليفة سياسية لم اقتصادية لتسريع التحديث إلا أن هذا التسريع ومحاولة تعبئة موارد المجتمع لملاقاة التحدي الذي فرضته إسرائيلي سرعان ما وصل إلى مرحلة مخيبة للآمال من جديد، وهي هزيمة 1967، التي تعد بمثابة الكارثة الثالثة للعرب بعد هزيمة عام 1948 قبلهـا، واحتلال العراق للكويت سنة 1990 بعدها.

المراوحة الاقتصادية

جزء كبير من الكتاب، سواء في قسم الفشل أو قسم الإصلاح يخصصه الكاتب لمناقشة الاقتصاد العربي فخلال عشرين عاما بعد تصحيح أسعار النفط 1973، كان دخل العرب من النفط حوالي ترليوني دولار، بعض هذا الدخل استغلته الدول المنتجة، وبعضه (أكثر من 100 بليون دولار) حول إلى الدول العربية الأخرى في شكل هبات أو قروض ميسرة. ولم يحدث هذا المال- في أي مكان كان- معجزة اقتصادية تماثل ما حدث في دول جنوب شرق آسيا مثل كوريا وتايوان أو سنغافورة.

ويفسر الكاتب السبب في فشل هذا المال في تحقيق معجزة اقتصادية بأن المال وحده ليس بالضرورة مسببا جيدا للتنمية. رأس المال تحتاج إليه الدول لبناء الموانىء والطرق وشبكات الاتصال وبعض البني التحتية وكذلك المدارس والمستشفيات، ولكن.، من أجل إقامة صناعة متطورة وخدمات مثمرة فإن الدولة ـ أية دولة ـ تحتاج أكثر من المال، تحتاج إلى الاستقرار السياسي وقوة عمل واعية ومنظمة وملتزمة وسوق قريب نشيط. والعديد من الدول العربية تنقصها هذه العوامل.

لقد افتقدت المنطقة. الاستقرار نتيجة الحروب مع إسرائيل، والحروب الأهلية، والحروب الإقليمية التي لا تكاد تنقطع، الغرب يعرف العرب بالمال النفطي. وكما يقول الصحفي باترك كوكبيرن ـ من الفاينانشيال تايمز ـ (إن مشكلة النفط أنه لا يفعل شيئا غير أن يعلم الناس الاستمتاع بصرف مداخيله). وهذا القانون ـ يؤكد المؤلف ـ ينطبق على الدول العربية الغنية بالنفط والمستفيدة منه بشكل مباشر أو غير مباشر.

وبرغم ذلك ـ يؤكد المؤلف ـ فإن سوء استخدام المال النفطي ليس هو سبب الفشل الاقتصادي. إن الفشل الحقيقي هو سوء إدارة الموارد البشرية، تدريب البشر والاستفادة من طاقاتهم. خارج دول النفط في الخليج ـ يرى المؤلف ـ أن الدول العربية قد سنت قوانين اقتصادية غير مرنة، ففي ضوء التوجه نحو الاشتراكية العربية منذ 1961، كانت الفكرة السائدة في الدول العربية هي توظيف وتعبئة إمكاناتها لصالح الشعب، وليس فقط للطبقة الرأسمالية، وكانت دوافع هذا التفكير مبررة سياسيا وإلى حد ما اقتصاديا وقتها، ولكن الدولة في هذا المضمار كانت تفكر في الإمكانات المادية المعروفة (مصادر الثروة المادية) كالأرض والزراعة المواد الأولية، الطاقة الصناعة، القوة البشرية وفاتها التفكير بالمصادر غير المادية للثروة، وهي المبادرات الإنسانية والحوافز، وكذلك فاتها التفكير بربط المشروعات الصناعية بالعمالة المؤهلة وبالطلب في السوق المحلي واحتمال الربح، هذه الأفكار كانت غريبة عن تفكيرهم. ويضرب الكاتب مثالا بتلك المشروعات الضخمة التي قامت بها الدولة ـ وكانت دوافعهـا سياسية لا اقتصادية ـ فشلت كلهـا في تحقيق الأهداف التي قامت من أجلهـا. الحكومات أممت الشركات الخاصة وأوجدت مشروعات خاصة بها، وتشكلت شركات للدولة تخصصت في نوع معين من الإنتاج، وحددت بعد ذلك حجم المنتج والسعر الذي يباع به، وما إذا كان المنتج للسوق المحلي أو للتصدير. وكانت فكرة الصناعة والإنتاج للإحلال مكان الواردات فكرة جميلة ومغرية على الورق، ولكنها أجبرت الدولة على أن تخصص رأس مال وقوة عمل في قطاعات لا تستطيع المنافسة فيها، وكان الإنتاج للخارج يتم عن طريق التبادل السلعي مع الدول المماثلة (الاشتراكية) دون الحصول على نقد نادر.

كل ذلك جر إلى مجموعة من المشكلات الاقتصادية الداخلية منها تدهور سعر العملة الوطنية وظهور السوق السوداء للعملات الصعبة، وعطل من النتائج الإيجابية المرجوة التشابك البيروقراطي والإهمال الوظيفي والوساطة وكل الأمراض الاجتماعية.

في أماكن أخرى من العالم العربي والتي لم تقيد بمثل هذه القيود نجد هناك معوقات أخرى لها طابع آخر، فرجال الأعمال العرب ـ في معظمهم ـ لا يتوجهون للاستثمار في الصناعة بل يرحبون بالاستيراد، وهذا راجع تاريخيا ـ كما يرى المؤلف ـ إلى تطور طبقة التجار الذين يرحبون بالاستيراد والتوزيع وأخذ الوكالات للسوق المحلي أو العمل بالمقاولات. وفي مجالات ـ في معظمهـا ـ لا تتطلب المخاطرة برأس المال، زاد على ذلك أن المجتمع العربي مجتمع مظاهر، فترى الرجل يستخدم سيارة فارهة ويلبس الملابس الغالية ويزين زوجته بالحلي، وليس لديه في نفس الوقت أي نوع من الادخار.

وحتى لو كان رأس المال متوافرا فإن هناك مقاومة مزاجية لتوظيفه، على عكس ما نجده في الاقتصاديات الصناعية الحديثة. أهم استثمار لصاحب المال العربي أو في العقار، حيث الضمانات كبيرة (فالعقار لا يمرض ولا يموت).

وعلى الرغم من أن العرب استوردوا في بداية التسعينيات من المواد الغذائية بما يساوي تقريبا عشرين مليار دولار، إلا أن اهتمامهم بتطوير الأرض الزراعية هو اهتمام قليل، فالفرات ودجلة يجلبان حجما من الماء بمثل ما يجلبه النيل إلى مصر، إلا أن الاهتمام بالزراعة فيما بين النهرين في حدوده الدنيا ولا يستفاد من الأرض القابلة للزراعة في السودان والتي يعتقد الخبراء أنها سلة الخبز ليس للعرب وحدهم بل لمعظم إفريقيا. أما العناية بالموارد البشرية فإنها المنطقة المهملة كما يرى الكاتب. فالمال يصرف على المباني المدرسية، إلا أن مستويات التدريس والتدريب غير معتنى بها، فهناك مواد جغرافية وتاريخية وسياسية وقانونية لا يسمح بتدريسهـا في الجامعات، ويتكدس الطلاب العرب في صفوف التعليم الأدبي والاجتماعي أما التعليم العلمي المميز أو التطبيقي فإن نسبته قليلة، ولا يترك الكاتب الموضوع الاقتصادي إلا بعد أن يستعرض مجموعة من أشكال الفشل التي انتابت مشروعات الاستثمار العربي/ العربي ـ خاصة تلك المشروعات التي انطلقت من دول الفائض المالي (الخليج في السبعينيات والثمانينيات) إلى بلدان الكثافة السكانية.

البحث عن استجابة

عدد سكان البلاد العربية حوالي 230 مليون نسمة (تقريبا) موزعين في بلدان ثقل عربي وبلدان قليلة الكثافة السكانية، ثلثاهم في إفريقيا والثلث الثالث في آسيا، وعدا المصريين في وادي النيل وسكان الأهوار في العراق (قبل التجفيف الأخير للأهوار) الذين يعيشون بقرب الماء فإن معظم العرب يعيشون على حواف الصحراء، وهذا ما أعطاهم النظر إلى الخارج، ومعظم الاقتصاد السائد في البلدان العربية هو اقتصاد الخدمات وخاصة المتعلقة بالتجارة والتوزيع وإدارة المحلات الصغيرة، والكثير من رجال الأعمال صنعوا ثرواتهم من الاتجار بالعقار، والمقاولات، والاستيراد، والنقل وأخيرا السياحة. ولقد كان دخل مصر من السياحة في بداية التسعينيات يساوي مجموع الدخل من النفط والمعونة الأمريكية وما يرسله المهاجرون المصريون لذويهم.

ولا يوجد بلد عربي لديه قطاع أساسي في الصناعة غير صناعة البتروكيماويات في المملكة العربية السعودية، وصناعة الملابس في تونس والمغرب أما المستثمرون الخواص فلا يستخدمون أموالهم ـ عدا ما يحدث في السعودية ـ لأسباب إما سياسية أو مزاجية مما جعل الاستثمار الرئيسي يقول به القطاع الحكومي ـ غير الكفؤ ـ المقيد بالقيود البيروقراطية.

ويرى معظم العرب هذه الصورة المشوشة من الحروب والهزائم والفشل الاقتصادي، على أنها وضع غير عادل وغير متوقع، وحيث إنه في ذهن كل عربي تاريخ الأجداد العظام وانتصارات السلف الصالح وما سمع وقرأ من مساهمات كبيرة في الحضارة العالمية لهذا كله فإن المسافة بين المأمول والواقع مسافة كبيرة، وهي التي تسبب كل هذا الإحباط هناك قيم مشتركة لدى الطبقات العليا في العالم الثالث منهـا أنها حديثة، متسامحة، مادية، ودولية. ويشارك بعض العرب في هذه القيم، ولكن الجماهير العربية الأعرض لا تنسى جذورها الأكثر قدما والأكثر عمقا ولا تنفك عن ثقافتها التقليدية. لذلك فإن ردة فعل هذه الجماهير ليست قبول الأفكار الجديدة والتكيف معها. بل رفضها والبحث في تاريخهم عن حلول لمشكلاتهم عربية وإسلامية.

هذا التوجه أو الذي يجعل الجماهير العربية رافضة للغرب وهو رفض ليس بجديد. فقد رفض العرب ـ تحت الحكم العثماني ـ الاحتكاك بالغرب، لذا نجد أن معظم من تعاطى التجارة مع الخارج، وبالتالي حصل على شيء من التعليم، كان إما من الأجانب القاطنين في البلاد العربية أو من المسيحيين العرب.

في آخر القرن التاسع عشر نجد النفور من نفوذ الغرب قد ظهر في ردة فعل عرابي باشا ضد حكم الخديوي توفيق وضد الأوربيين الذين تحكموا في ميزانية الدولة وقتها، وكذلك خلال العشرين سنة الماضية ظهرت دعوات الإسلام السياسي.

لقد أضيفت عوامل جديدة إلى العوامل القديمة، فعلاقات الدول العربية البينية تتغير، وكذلك علاقاتها بإسرائيل تتغير، وهي متغيرات جذرية لا بد أن تؤثر في ما كنا نعرفه ونتوقعه من استقرار أو اضطراب، من توجه إلى الأمام أو النكوص إلى الخلف.

ذلك ملخص لما يريد أن يقوله الكاتب في كتابه، وهو بالفعل جولة داخل العالم العربي ـ ماضيه وحاضره ومستقبله ـ وأفضل ما فيه هو الرصد الموضوعي في معظم الأوقات للظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية. وهو يتركنا على مفترق طرق، إما التوجه إلى الأمام عن طريق الإصلاح الاقتصادي والسياسي أو النكوص إلى الخلف لمزيد من الفرقة والتشرذم وربما الحروب.

ولا توجد طرق سهلة للشعوب لاجتياز مشكلاتها، فقط توجد عقول تنير الطريق إلى الأمام. وكل عام والعرب طيبون.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات