بطاقة حمراء للثورة الجينية الخضراء!

 بطاقة حمراء للثورة الجينية الخضراء!

وفي ديسمبر 1999م طلب القضاء الأمريكي مثول عملاق الأغذية معدلة الجينات (مونسانتو MONSANTO) بتهمة التقصير في دراسة أمان منتوجاتها، وكانت إدارة الأغذية والعقاقير (ف.د.آ FDA) قد سبقتها إلى قفص الاتهام بمنح تراخيص لمحاصيل جينية تشكّل خطراً داهماً على البيئة، بعد أن اجتاحت الولايات المتحدة الأمريكية موجة عاتية من الاحتجاجات والتظاهرات الصاخبة أفلحت إحداها في تأخير انعقاد مؤتمر منظمة التجارة العالمية (WTO)، إلى حد شجّع فئة من روابط حماية المستهلكين على التنبؤ بقرب إشهار الشعب الأمريكي للبطاقة الحمراء في وجه الثورة الجينية الخضراء، وطردها من الساحة في بحر سنتين!

فهل تتحقق هذه النبوءة في عقر دار قائدة هذه الثورة، والتي قلنا عنها في عدد مارس 2000 من (العربي) فقط إنها تنطلق كالسهم المارق مخلفة أوربا وراءها في بحر الجدل؟

.. من مستصغر الشرر

هذه (الثورة المضادة) للثورة الجينية الخضراء أشعل فتيلها (مقال) متواضع لباحث في جامعة كورنل، قدم فيه الدليل على أن غبار الطلع المنطلق من أزهار الذرة معدّلة الجينات يودي بحياة فراخ فراشة محبوبة في طول الولايات المتحدة وعرضها، الفراشة الملكية MONARCH.

ومع أن طائفة من الخبراء في أوربا (المتزمتة) حذّر من مغبة تهويل نتائج هذه الدراسة، إلا أن وطأتها في الولايات المتحدة، المشجعة لابتكارات التقانة/التكنولوجيا العالية، كانت أشبه بوقع الصاعقة، تمخضت عن موجة مد إعلامية بسرعة منقطعة النظير.

وزاد الطين بلة، وفجّر حنق الجماهير، الإلحاح الدراماتيكي للشركات الضخمة في (ثقافة الحبوب) على ذهن المواطن الأمريكي بالعبارة المكررة في كل مكان: (وصلت الأغذية الجينية إلى مائدة فطورك)، (60 - 70 بالمائة من غذائك المصنع يعج بالنباتات معدّلة الجينات) - وبالطبع دون أن يرى المواطن ذكر أي إشارة إليها في لائحة المكوّنات.

وهذا (الاستخفاف) بعقل المستهلك الأمريكي قد يكون من الأسباب التي تفسّر تطرّف عنف (معركة سياتل)، التي نسفت مؤتمر التجارة العالمية، من خلال تظاهرات لم تعرف الولايات المتحدة لها نظيراً من قبل، إلى حد دفع فئات من المحتجين إلى إحراق الحقول التجريبية للمحاصيل الجينية، وفي مواجهة هذا السخط الشعبي العارم لم يجد بعض الساسة بدّاً من استرضاء الجماهير الأمريكية وامتصاص نقمتها بالوعد بقانون جديد يلزم الصناعة الغذائية بالإشارة إلى ما تم تعديل جيناته في لائحة المكوّنات على العبوات.

ومما ساعد على ذلك بالطبع غض النظر عن بعض (الشكليات الروتينية)، من قبيل إجراء دراسات طويلة الأمد على الأثر المتوقع على صحة الإنسان، الماشية والبيئة، أو إجراء جلسات استماع HEARINGS للخبراء قبل منح الترخيص النهائي بإنزال البضاعة إلى الأسواق.

عن هذين الشرطين - مثلاً - غضت النظر إدارة الأغذية والزراعة (ف.د.آ. FDA)، الشهيرة بالتزمّت حيال الشركات الصيدلانية عادة، حينما بدأت منذ العام 1992م، بمنح التراخيص والضوء الأخضر لاستزراع المحاصيل الجينية. وفي العام 1996م شرع المزارعون الأمريكيون بنثر الطلائع الأولى من بذار فول الصويا، الذرة والقطن، الموردة إليهم من مختبرات الهندسة الجينية، على مساحة متواضعة قُدّرت وقتها بحوالي 1.5 مليون هكتار، لتقفز خلال 7 سنين فقط (في العام 1999م) إلى حوالي 7،28 مليون هكتار، وهي مساحة مقاربة لسطح ألمانيا.

الآن فقط، وبعد أن حمي وطيس الاحتجاجات الجماهيرية بدأت إدارة الأغذية والزراعة بإجراء جلسات استماع، للتعرّف إلى الحياة الداخلية للبذار الجديدة عالية التقانة.

صح النوم!

معظم هذه البذار تم العبث بمورثاتها / جيناتها على شاكلة تحميه من الآثار الضارّة الناجمة عن رش الكيماويات / الأدوية المستعملة في القضاء على الأعشاب البرية التي تنمو بصورة عشوائية بين صفوف المحصول الزراعي لتنافسه على موارد الماء والغذاء الواردة من التربة أو من الأسمدة / المخصّبات الكيميائية على حد سواء.

وعند إمعان النظر في الحياة الداخلية للأعشاب البرية تبيّن للباحثين أن الدواء الكيميائي يقوم بتعطيل عمل أنزيم / (خميرة) لا غناء عنها لحياة العشب البري، لكنهم وجدوا - لسوء حظهم - أن الأنزيم / الخميرة ذاتها ضرورية لاستمرار حياة المحصول المفيد - فما العمل؟

أجاب عن هذا التساؤل مهندسو الجينات عملياً حينما وجدوا في الطبيعة الحيّة أنزيماً / خميرة شديدة التشابه مع الخميرة الأصلية، وتقوم بدور النماء ذاته، لكنها تختلف عن أختها الأصلية بعدم التضرر بنوع محدد بعينه من دواء الأعشاب "راوند أب من إنتاج مونسانتو غالباً".

إثر ذلك اكتشف مهندسو الجينات المورثة / الجينة الحاملة للأوامر والتعليمات الضرورية لتركيب الخميرة البديلة وتصنيعها، وبقي عليهم زرع الجينة الغريبة هذه في مورثات بذار المحصول الأصلي.

لإيلاج أو إدخال هذه الجينة (الغريبة)، ضئيلة الحجم ضمن جينات / مورثات بذار المحصول، يتم تحميل هذه الجينة الحاملة لتعليمات تصنيع الأنزيم البديل على متن بكتيريا أو فيروس - بصفة تاكسي جينية - يقذفها مدفع جيني على المادة الوراثية العارية في الخلايا المستهدفة.

والآن إذا رشّ المزارع دواءه الكيميائي على حقله تموت الأعشاب البرية خلافاً للمحصول المفيد الذي يتابع نموّه وازدهاره - سواء كان ذرة، فول صويا، قطناً أو غيرها من المحاصيل معدّلة الجينات، مما يزيد غلة الهكتار الواحد، وبالتالي الربح.

هذا على الأقل ما تعد به الشركات الصناعية العاملة في هذا المضمار، وفي طليعتها عملاق الصناعات الأحيائية/البيولوجية (مونسانتو MONSANTO). وتؤكد بعض التخمينات أن قرابة 85 بالمائة من سائر المحاصيل المعدّلة المزروعة في الولايات المتحدة تحمل ما يسمّونه (جينة مونسانتو) سالف الذكر المقاوم لمبيدات الأعشاب.

وربما ينحاز هؤلاء إلى تسمية (جينة مونسانتو)، لأن (مونسانتو) تربح مرتين (مثل المنشار طالع واكل نازل واكل): فبذار (مونسانتو) الجينية لا تتفتّق مواهبها إلا في حال استعمال مبيد الأعشاب الذي تنتجه الشركة ذاتها تحت اسم (راوند أب ROUND UP)، وعليه يصبح المزارع الذي ينثر في حقله بذار فول الصويا المقاومة لمبيد الأعشاب (راوند أب) مضطراً لشراء مبيد الأعشاب من شركة (مونسانتو) عينها.

إضافة إلى موهبة مقاومة مبيدات الأعشاب زوّدت المحاصيل الجينية بسلاح تدافع به عن نفسها ضد ذوات الجناح / الحشرات.

وهنا انطلق مهندسو الجينات من التصوّر التالي:

لماذا لا نتلاعب بمورثات المحاصيل المفيدة على شاكلة تمكّنها من التشبّه ببعض النباتات، التي تدافع عن نفسها بنفسها من خلال إنتاج (سموم كيميائية) تقضي على كل حشرة تحاول إيذاء النبات أو قضمه. ومرة أخرى ربح الرهان، ووجدوا ضالتهم في نوع من البكتيريا التي تعيش في التربة أصلاً، ولديها جينة تحمل التعليمات الضرورية لتركيب سم مميت للحشرات (عُصيّات ب ت BT اختصار باسيلوس تورينغينسيس).

وفي هذه الحالة أيضاً، وُعد المزارعون بتقليل الكمية اللازمة من مبيدات الحشرات، وبالحصول على غلّة أعلى، وبالتالي زيادة الأرباح.

ولعل مما زاد من هياج الجماهير الأمريكية إمعان النظر في (بايبلاين) شركة (مونسانتو) وأقرانها من الغلال معدّلة الجينات، والتي قد يقذف بها (البايبلاين) إلى الأسواق في أي لحظة ودون سابق إنذار.

إذ فضحت بيانات وزارة الزراعة الأمريكية - التي لم تكن تحظى باهتمام الإنسان العادي قبل العاصفة - أنه تم، منذ العام 1995م حتى الآن، فحص وإجراء الاختبارات على قرابة 4.500 من النباتات معدّلة الجينات، إلا أن الترخيص بالزراعة في الحقول المكشوفة اقتصر - حتى الآن - على 50 (فقط) من الأصناف الجينية، تشمل 13 نوعية مختلفة من أصناف البذرة، و 11 من أصناف البندورة/الطماطم، و 4 من فول الصويا، و صنفين من اليقطين/القرع.

وتفضح هذه الأرقام للمواطن الأمريكي جهله المطبق بهذه الاستعدادات الكفيلة بدفع الثورة الجينية الخضراء بالسرعة القصوى، لولا الهبوب غير المتوقع للعاصفة.

أثار هذه العاصفة، التي أقامت أمريكا ولم تقعدها (جون لوزي JOHN LOSEY)، باحث الحشرات في جامعة (كورنل) في (إيثاكا) في ولاية (نيويورك)، بتجربة مخبرية غاية في البساطة، إذ جاء بعدد من فراخ أو فلنقل ديدان الفراشة الملكية - المحبوبة في سائر أنحاء أمريكا - وتركها تقتات على غذائها المفضل (الشوك الإوزي)، فعاشت حياة طبيعية ولم تنفق/تمت أي دودة حتى انتهاء فترة الاختبار.

وجاء بفئة أخرى من الديدان رش على علفها غباراً من حبات الطلع استخلصها (لوزي) من أزهار ذرة معدّلة الجينات، فمات نصفها خلال أربعة أيام فقط!

وتأتي أهمية هذه التجربة من الحقيقة المعروفة بأن الفراشة الملكية تقضي فصل الصيف في الغرب الأوسط الأمريكي، الشهير باسم (حزام الذرة)، مع أن هذه الفراشة وفراخها النهمة لا تقتات بالذرة بل بنبات شوكي (الشوك الإوزي) يحيط بحقول الذرة.

وعلى هذه الشاكلة تتمكن الرياح من حمل غبار حبات الطلع من أزهار الذرة الجينية، المزوّدة أصلاً بسلاح سام كيميائي مضاد للحشرات، وإسقاطها على أوراق النبات الشوكي، المفضل لدى الفراشة الملكية وفراخها.

بيد أن ضخامة سحابة الدخان التي تمخّضت عن شرر مقال (لوزي) لا يجوز أن نسمح لها بأن تحجب عن عيوننا الحقيقة القائلة بأن عالم الطبيعة هذا لم يكن (أشجع الشجعان). إذ استنكر بعض الخبراء محاولة (لوزي) التقليل من أهمية اكتشافه الباهر، بالتحذير من مغبّة التسرّع بتهويل نتائج تجربته المخبرية، حينما أكّد أن الأمر يتطلب المزيد من التمحيص والدراسات لتقديم إجابة شافية عن التساؤل: (إلى أي مدى تشكّل الذرة معدلة الجينات خطراً حقيقياً على الفراشة الملكية وغيرها من الفراشات؟).

(فمن علّمه هذا العدل؟).

(رأس الذئب المقطوع) يذكّرنا به عالم الجينات البريطاني، البروفسور (آرباد بوسزتاي ARPAD PUSZTAI)، والذي تلاعب بجينات أحد أصناف البطاطا / البطاطس على شاكلة تجعلها قادرة على صنع سم مقاوم للحشرات (لكْتينات)، وقدمها علفاً للجرذان، التي تعرضت نتيجة ذلك إلى أضرار في المخ، والكلية، وإضعاف نظام المناعة، ثم نشر البروفسور (بوسزتاي) مقالاً ضمّنه نتائجه العلمية، واختتمه بتوصية تدعو إلى ضرورة تحسين إجراءات الأمان قبل منح التراخيص للبذار معدّلة الجينات، فماذا كانت نتيجة هذه الجرأة؟

سُرّح (بوسزتاي) وفقد منصبه في معهد (رووت ROWETT)، الذي تموّل أبحاثه - بالدرجة الأولى - شركات الكيماويات الزراعية، بحجة صغر عدد الجرذان التي شملتها تجربته!

ومع هذا، حرّضت شجاعة (بوسزتاي) على البدء بجلسات استماع في البرلمان البريطاني، توصلت إلى الاقتناع، بأنه قد اتضح (أن طرق الاختبار القانونية (المفروضة) لمدى تحمّل البشر للأغذية معدّلة الجينات أقل من كافية).

وبعد العاصفة التي أثارها مقال (لوزي) في أمريكا قررت السلطات المختصة في الاتحاد الأوربي إيقاف منح تراخيص البذار الجينية حتى إشعار آخر.

أما وراء المحيط، فقد اكتفى بعض أنصار البيئة وحماة المستهلكين بانتقاد قلة اهتمام الإدارة الأمريكية بدراسة تبعات الغلال الجينية، وبالتذكير بأن وزارة الزراعة الأمريكية لم ترصد إلا مليوني دولار فحسب في العام 1999م لدراسة (أخطار التقانة البيولوجية BIOTECHNOLOGY RISKS).

إلا أن التبعات المستقبلية للثورة الجينية الخضراء واضحة لدى فئات من معارضيها وضوح الشمس، إلى الحد الذي يشعرون معه بضرورة الانتقال من الكلام والتظاهرات الاحتجاجية إلى العمل على كبح جماحها وتقييدها في عالم الواقع.

فمنذ فبراير 1999م تمْثُل إدارة الأغذية والزراعة (ف.د.آ FDA) أمام القضاء. وتطالب الجهة المدّعية، المؤلفة من نحو 70 رابطة وشخصية مستقلة، بسحب التراخيص الممنوحة سابقاً لما لا يقل عن دزينة من الغلال الجينية بسبب خطرها (الداهم) على البيئة.

وفي ديسمبر 1999م رفعت طائفة من أعداء الغلال الجينية دعوى قضائية على شركة (مونسانتو) بتهمة عدم الالتزام بإجراء ما يكفي من الاختبارات لضمان أمان منتوجاتها، وهنا أعرب المعارض الأول للغلال الجينية في أمريكا، (جيريمي ريفكين RIFKIN.J)، عن اعتقاده بأن كل هذا لن يؤدي إلى تلاشي الصناعة البيولوجية، إلا أنها ستتعرض لأضرار.

خلافاً لذلك، خرج الناطق الرسمي باسم رابطة لحماية المستهلكين (روني كامينس من رابطة الديمقراطية البيولوجية) مع بعض زملائه بالنبوءة التالية:

إذا لم يغيّر الشعب الأمريكي رأيه خلال سنتين، فسوف يرفع البطاقة الحمراء في وجه الثورة الجينية الخضراء ويطردها من الحقل.

فهل تتحقق النبوءة؟

آفاق المستقبل

حسب اعتقادي المتواضع دائماً، وحسب ما أميل إلى تسميته (أصول لعبة السيطرة والربح)، لن تمنع هذه العاصفة التاريخ من تكرار ما حدث مع (الثورة الخضراء التقليدية)، التي فرضت في الستينيات البذار المعجزة العقيم، والتي لا تقدم غلتها الوفيرة إلا باستعمال التقانة العالية، من ري، سماد / مخصب، ومبيدات للأعشاب والحشرات (أسوة برامند أب من شركة مونسانتو)، فرغم الإخفاق العملي للثورة الخضراء القديمة، إخفافاً تجلى في أضرار تغلغل السماد في الأغذية، التربة والمياه الجوفية في الدول الصناعية، وإلى تدني غلة الأرض في العديد من الدول المستضعفة، يندر أن يرتفع صوت معارض للثورة الخضراء التقليدية المستمرة منذ نحو 40 سنة.

 

سمير صلاح الدين شعبان