ثورة الجينات

ثورة الجينات

هل انتهى زمن الألغاز؟
حل الشفرة الوراثية ومستقبل البشر

خلال سنوات قليلة، شهد العالم تطوّراً مذهلاً في عدد كبير من مجالات الحياة، وقفز العلم الحديث بالتطوّر البشري إلى مسافات كان الوصول إليها أكبر من القدرة على التخيّل. من هنا، كان اعتبار إعلان اكتشاف الخريطة شبه الكاملة للمخزون الوراثي البشري، واحداً من أهم الإنجازات الطبية وفتحاً جديداً في فتوحات العلم البارزة، ولكنه أثار الكثير من المخاوف والتساؤلات وهذه محاولة لمتابعة تلك الثورة المذهلة التي نعيشها في علم الجينات:

لقد شاء الله أن يضع أكبر سر من أسرار خلق الإنسان ضمن ما يسمى بالمادة الوراثية المـوجودة في كل خلية من خلايا الجسم، وبشكل أدق، فإن هذه المعلومات والأسرار وُضعت في داخل نواة الخلية التي لا يمكن رؤيتها إلا تحت المجهر وبعد أن يتم تكبيرها آلاف المرات. أما المادة الوراثية نفسها، فهي موجودة على شكل خيوط رفيعة متطاولة ومتناثرة ضمن النواة، وهذه الخيوط تسمى بالحمض النووي ( DNA) التي تأخذ شكلا لولبيا أو حلزونيا مضاعفا Double Helix. وقد تأخذ أشكالاً مختلفة وذلك طبقاً للمرحلة الوظيفية للخلية (مراحل الانقسام الخلوي) وهكذا فهي في حالة ديناميكية غير ثابتة الشكل، ففي مرحلة نسمّيها الحمض النووي (DNA)، وفي مرحلة أخرى نسمّيها كروماتين (Chromatin) وأحياناً أخرى ندعوها بالصبغيات (Chromosomes)، أما عدد هذه الخيوط في الخلية الواحدة، فهو يختلف من كائن إلى آخر، فخلية الإنسان فيها ستة وأربعون صبغياً، أما خلية ذبابة الخل (Drosophila)، فهي تحوي ثمانية صبغيات، أما خلايا الخميرة التي تُستخدم في صناعة الخبز، فتحوي اثنين وثلاثين صبغياً، إن المادة الوراثية (DNA) الموجودة في كل خلية من خلايا الإنسان تتكون من 3.2 بليون عنصر كيميائي، كل عنصر يمثل ما يسمى جزىئا، والذي هو عبارة عن أحد العناصر المسمّاة (أدينين، سايتوزين، غوانين، ثايمين)، ويرمز لهذه الجزيئات علمياً بالأحرف T,G,C,A على التوالي، ولو أن هذه البلايين (3.2 بليون) من الجزيئات قد كتبت على شكل خط مستقيم وبالحجم التالي نفسه:

......... TCCTGGTCTTAAGGGCTCAAA ......... فإن هذا الخط سيمتد إلى مسافة خمسة آلاف كيلومتر وهو ما يعادل المسافة بين الكويت ولندن أو بين نيويورك وباريس، ولو أدركنا كتابة المعلومات الوراثية الموجودة في خلية واحدة من خلايا جسمنا لملأت مليوناً وخمسمائة صفحة من الحجم العادي، ويقدّر مجموع طول خيوط الحمض النووي الموجودة في خلية واحدة من خلايا الجسم بحوالي عشرة أمتار، ولو علمنا أن الجسم البشري يحوي حوالي 3110 خلايا، فسيكون الطول الكلي لهذه الخيوط في الجسم ما يقارب (1110 كيلومترات). وللعلم فإن هذه الكتابة الطويلة للمعلومات الوراثية تتميز بأعلى درجات الدقة والإتقان الرائع، وإن كل حرف له محله الخاص، ولنتصوّر أن مجرد تغيّر حرف من مكانه في هذه الكتابة الطويلة (5000كم) قد يسبب موت الطفل الوليد، وهذا ما نسمّيه بأمراض الطفرات الوراثية. وقد اكتشف العلماء الكثير من هذه الطفرات التي تصيب المورثة (DNA) والتي قد يكون سببها خارجياً كالإشعاعات الضارة والمواد الكيميائية أو يكون نتيجة عوامل داخلية تحدث أثناء تضاعف وتجديد المادة الوراثية بعد كل انقسام خلوي.

وقد اتفق العلماء على تسمية هذا الترتيب للعناصر الوراثية بالشيفرة، ومن الجدير بالذكر أن من أصعب الأمور التي تواجه العلماء ليس في قراءة الشيفرة فحسب، بل في الفهم الصحيح لهذه القراءة، إن القراءة الكاملة للذخيرة الوراثية ربما يكون ممكناً خلال الأشهر القادمة، أما موضوع الفهم الصحيح لهذه الكتابة فقد يمتد إلى عشرات أو مئات السنين أو قد لا نصل أبداً إلى الفهم الكامل والتام لكيفية عمل المورثات وكيفية تفاعلها مع بعضها البعض بشكل واضح.

إن المادة الوراثية تتكاثر وتتضاعف في داخل كل خلية بشكل مستمر، فمثلاً قبل كل انقسام خلوي يتضاعف عدد الجزيئات من 3.2 بليون إلى 6.4 بليون جزيء، وعملية التضاعف هذه تتم بسرعة مذهلة (حوالي ساعة واحدة) وبدقة متناهية. إن من أهم ما يميز عملية تضاعف المادة الوراثية (أو ما يسمى بعملية نسخ المادة الوراثية) هو أن المادة المنتجة أو المستنسخة يجب أن تكون مطابقة مائة بالمائة للمادة الأصلية، ويتم ذلك في خلايا أجسامنا ملايين المرات يومياً ويشرف على هذه العملية الصناعية في داخل نواة الخلية مجموعة كبيرة من المهندسين (الأنزيمات)، وفي حالة حصول بعض الأخطاء أثناء عملية النسخ، فإن هناك مهندسين آخرين يتدخلون فقط من أجل تصحيح الأخطاء، وقد تحصل الكارثة إذا كان هذا النوع من المهندسين نائماً أو متأخراً في الوصول إلى مكان عمله في اللحظة المطلوبة، أما إذا كان مريضاً، فعندها قد يطلب من مهندس آخر الحضور إلى مكان العمل، أخطر ما يمكن حصوله هو أن يكون المهندس من ذوي الاختصاص الفريد، عندها قد يؤدي عدم تصليح الخطأ في المادة الوراثية المستنسخة إلى عواقب وخيمة في الخلايا الوليدة، وفي هذه الحالة، يحصل ما يُسمى بالطفرة Mutation، والخطورة في ذلك عندما تكون الطفرة قد أصابت وعطّلت عمل أحد البروتينات الضرورية والتي لها دور مهم في حراسة أحد الأمور المهمة في حياة الخلية كمثل ذلك المهندس المسئول عن تصليح الأخطاء والذي تم وصفه قبل قليل بصاحب الاختصاص النادر!

بالإضافة إلى عملية التضاعف أو النسخ، فإن المادة الوراثية (DNA) تترجم في داخل الخلية لتنتج مجموعة كبيرة من البروتينات بما فيها الأنزيمات (إذا أردت سمّها بالمهندسين ذوي الاختصاصات النادرة)، ويتم ذلك بعملية بالغة التعقيد والدقة يتم فيها في البداية ترجمة DNA المورثة إلى ما يسمى بالحمض النووي الريبي RNA الذي يستخدم كقالب في إنتاج جميع البروتينات الخلوية.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك تنوعاً كبيراً للذخيرة الوراثية بين الكائنات الحية (كما يبين الجدول (1))، وقد أثبتت البحوث العلمية أن المواد الوراثية الفعّالة والنشطة عند الإنسان لا تزيد على الثلاثة بالمائة، أما السبعة والتسعون في المائة الباقية فلم تكتشف وظائفها حتى الآن.

تحوّل كبير

في بداية الألفية الثالثة وبالاقتراب من أعظم إنجاز علمي عرفته الإنسانية في تاريخها الطويل، والمتمثل بحل الشيفرة الوراثية، يبدو واضحاً أن عالم الغد سيكون مختلفاً كل الاختلاف عمّا عرفه الإنسان إلى وقتنا هذا، وأن بداية هذا القرن تبشّر بتحوّل كبير، وتشكّل نقطة مهمة وحسّاسة في التطور البشري. كل ذلك تعود نتيجته للمشروع الضخم المسمّى بمشروع حل الشيفرة الوراثية للجنس البشري، هذا الإنجاز العلمي الرائع الذي لم تعرف له البشرية مثيلاً منذ قرون عدة، والذي يمكن مقارنته باكتشاف آخر كان قد توصل إليه الإنسان في بداية القرن الثامن عشر، وبالتحديد في عام 1800م في مجال علم الكيمياء وهو اكتشاف ما يسمى بالجدول الدوري للعناصر (Periodic Table) والذي ساهم بشكل كبير في فهم طبيعة المادة، وكان له فضل كبير في التطور السريع الذي قفز بعلم الكيمياء إلى مراحل متطورة بما فيها من اكتشافات رائعة ساهمت في تطوّر الحياة البشرية، وكان لها تبعات من أهمها اكتشاف القنبلة الذرية، وهكذا فإن كان القرن الثامن عشر قد كان البداية المحرّكة لفهم خواص المادة، فإن القرن العشرين قد حمل في طياته بداية لفهم المادة الحية والذي تجلى باكتشاف المادة الوراثية (DNA) في عام 1954، وفي الوصول إلى قراءة الشيفرة الوراثية والتي سيتم الانتهاء منها بشكل كامل خلال الأشهر القليلة القادمة، وبهذا فقد يصبح من الممكن قريباً معرفة أدق أسرار الحياة البشرية.

لقد بدأ المشروع أعماله في عام 1993م برئاسة الدكتور فرانسيس كولين من المعهد الوطني للصحة في الولايات المتحدة الأمريكية (NIH) ويضم المشروع ألفاً ومائة باحث يتبعون ست عشرة جامعة موزّعة في ستة بلدان وهي أمريكا، إنجلترا، فرنسا، ألمانيا، سويسرا واليابان. وهناك أيضاً بعض الشركات الخاصة التي تنافس تلك الجامعات والتي تريد أن تحقق أرباحاً كبيرة من وراء حل الشيفرة الوراثية، ولكن من الواضح أن حكومات العالم لن تسمح باحتكار المعلومات الوراثية من قبل الشركات الخاصة، والدليل على ذلك أن جميع النتائج التي يتم الحصول عليها في المختبرات الحكومية يتم نشرها يومياً على شبكة الإنترنت حتى تكون في متناول جميع الباحثين في العالم.

لقد استطاع العلماء منذ فترة قريبة استنساخ وتطوير حيوانات جديدة (معدّلة وراثياً) وهنا نرى أن الفأرة الموجودة على اليسار (الصفحة المقابلة) وهي التي أضيف لها مورثة هرمون النمو أكثر سمناً من أختها الموجودة في يمين الصورة، وهذا يُظهر أننا نستطيع الآن بطريقة اللعب بالمورثات الحصول على أنواع جديدة من الحيوانات، ويُخشى في المستقبل أن تستخدم هذه التقنيات لتعديل الإنسان وراثياً.

قراءة في المورثات

إذا كانت أي لغة في العالم تحتوي على 30 إلى 40 حرفاً يتم منها تشكيل ملايين الكلمات والجمل والعبارات، فإن المادة الوراثية الموجودة في خلية واحدة من خلايا الإنسان تحتوي على 2،3 بليون حرف - كما سبق ذكره - كل منها عبارة عن جزيء من الأحماض النووية المسمّاة (أدينين، سايتوزين، غوانين، ثايمين)، وبإمكان تلك الأحرف أو الجزيئات أن تعطي عدداً غير محدود من الكلمات، والكلمة هنا يمكن أن تعني بروتيناً أو أنزيماً والذي يكون مسئولاً عن وظيفة محددة داخل الخلية، وهكذا فإن هذا الاختلاف والتنوّع الكبير في البروتينات الموجودة في الخلايا هو السبب في أن تكون الخلية متميزة لأداء دور محدد وهو الذي يجعل منها خلية عصبية أو خلية جلدية أو خلية تكاثرية كالبويضة أو النطفة. وهكذا فإن جميع خلايا الجسم تحتوي على المادة الوراثية نفسها، غير أنها تختلف فيما بينها في نوعية المورثات النشطة في داخل كل خلية. ويعتقد الآن أن كل خلية من خلايا الجسم تحتوي على ما يقارب من مائة ألف مورثة، وأن كل مورثة قد تنتج على الأقل بروتيناً واحداً وفي بعض الأحيان قد تنتج أنواعا مختلفة من هذا البروتين، وهكذا فإن عدد البروتينات قد يصل إلى مئات الآلاف من البروتينات، ولكن في واقع الأمر فإن الخلية الواحدة قد تحتوي على أقل من هذا العدد الضخم، ففي الخلية العصبية يوجد أنواع معينة من البروتين التي قد تكون غائبة من الخلية الجلدية، أما في الخلايا التكاثرية، فقد نجد أنواعاً أخرى من البروتينات التي قلما نجدها في الخلية العصبية أو الجلدية. وتجدر الإشارة إلى أن المائة ألف مورثة لا يتم تنشيطها دفعة واحدة، بل إنه يوجد تناسق كبير في عملية تنشيطها في كل خلية، وإن المورثات تعمل بشكل منظم ومبرمج بدقة فائقة، ولهذا فإنه لمجرد خلل بسيط في عمل مورثة واحدة فقط قد يؤدي إلى نتائج وخيمة مؤدية لموت الإنسان وهلاكه، وهذا ما يحدث في معظم الأمراض السرطانية، وكذلك ما يحدث نتيجة للإصابة بالأمراض الوراثية الخطيرة، ومنها أمراض التخلّف العقلي وأمراض العضلات والأعصاب.

المورثات والتطور

من الواضح أن الحياة قد تكون ممكنة التحقيق بوجود عدد قليل من المورثات، فمثلاً نجد أن بعضا من الجراثيم يحتوي على عدد قليل من المورثات والتي لا يتجاوز ألف مورثة، ولكن هناك بعض الكائنات كالإنسان (الذي يعتبر أعلى الكائنات الحية في سلم التطوّر) فهو يحوي في كل خلية من خلاياه ما يقارب مائة ألف مورثة. ومن المدهش أن بعض الزواحف (السلاماندر) يحوي في كل خلية من خلاياه ما يقارب 3 ملايين مورثة، وبالتالي فإن المادة الوراثية في هذه الحيوانات أكثر تعقيداً من المادة الـوراثية للإنسان، وهذا بالطبع لا يتماشى مع نظرية داروين التي تقول إن تطور الكائنات الحية بدأ من البساطة إلى التعقيد، ولكن وحسب المعطيات الوراثية، فإننا نرى أن السلاماندر الذي هو أدنى في سلم التطور من الإنسان، يحوي جهازاً معقّداً من المادة الوراثية، ويبدو أيضاً أن الفأر يحتوي على ذخيرة وراثية أكثر تعقيداً من الذخيرة الوراثية للإنسان.

غموض عميق

فور إتمام مشروع قراءة الشيفرة الوراثية، سيصبح ممكناً الغوص بعيداً في أمور كثيرة كانت خافية علينا. إن اللغة التي كتبت فيها الذخيرة الوراثية لكل كائن حي يبدو فيها الروعة والتناسق، وفي الوقت نفسه تبدو وللوهلة الأولى أنها مكتوبة بطريقة بسيطة، ولكن المختص في هذا النوع من الدراسات يرى أيضاً أن فهم هذه اللغة الوراثية قد لا يكون سهل المنال في الوقت القريب. وبالرجوع إلى المعلومات المتوافرة الآن من هذا المشروع، فإنه سيكون ممكناً العودة إلى الوراء آلافا كثيرة من السنين لقراءة التاريخ البشري، فمثلاً سيكون من الممكن رسم خارطة جديدة لتطوّر البشرية ولحركتها خلال العصور السابقة، فمن المعروف أن العرب وخلال عصر الازدهار الإسلامي في زمن الأمويين فتحوا إسبانيا وأسسوا فيها دولة الأندلس، وبقوا هناك مئات السنين، وقد امتزجوا مع أهل البلاد الأصليين، فإذا أردنا مثلاً معاينة وتحديد الأشخاص الذين يعيشون في إسبانيا الآن، ومحاولة معرفة العائلات الأصلية التي انحدروا منها، والتي تعيش الآن في بلاد الشام، فإن ذلك ممكن بفضل النتائج التي تم الحصول عليها من مشروع حل الشيفرة الوراثية، وهكذا فسيكون ممكناً إثبات أنهم يحملون مورثات من أصل شامي، وكذلك فقد يصبح ممكناً تحديد العائلات الشامية التي انحدروا منها وهم من بني أمية. وكذلك فقد يكون من الممكن تحديد علاقة القربى بين بعض القبائل الإفريقية مع العرب، وذلك بمقارنة مورثاتهم بمـورثات أهل اليمن، وهكذا فإن المدّعين بالانتساب إلى العروبة أو إلى أي جهة أخرى، سيعرفون الجواب الشافي بمجرد تحليل بسيط لمورثاتهم والتي يمكن الحصول عليها من قطرة دم واحدة. وقد تسمح هذه الدراسات بتحديد مكان الإنسان الأول وربما أيضاً الزمن الذي خُلق فيه.

 

موسى محمد العبدالخلف

 
 




ذبابة الخل





خلايا الخميرة (Yeast) تحت المجهر