صناعة الثقافة والاحتكار العالمي الحبيب الإمام

صناعة الثقافة والاحتكار العالمي

تحظى الصناعات الثقافية اليوم، باهتمام كبير لما تتميز به من قدرة عالية على بلورة الرأي وتشكيل العقل، ويدور الحديث في الوقت الراهن عن إمبراطوريات احتكارية عملاقة في صناعة الثقافة ذات قدرة خارقة في التأثير على الثقافة في أبعادها الأخلاقية والفلسفية.

الصناعات الثقافية هي كل الأجهزة المادية والطاقات البشرية التي. تجسم الآثار الفنية والإبداعية والنتاجات الثقافية في صورتها المحسومة فتنسخها أو تنشرها أو توزعها حسب مقاييس صناعية وتجارية لغاية تنمية وتطوير الثقافة.

وتستند هذه الصناعات إلى صناعات تحتية كبيرة، هي التي تحدد درجة تطورها ومدى استقلاليتها وقدرتها على الحضور داخل الحقل الصناعي والاقتصادي العام.

وينبني مصطلح الصناعات الثقافية عل الربط بين موضوعين يتناقضان بالضرورة، ظاهريا. وهما: صناعة من ناحية وثقافة من ناحية أخرى. فالصناعة تشعر بمعنى الإنتاج الاستهلاكي، النفعي كصناعة الأسمنت والمنسوجات. أما الثقافة فإنها تصرف الذهن إلى التذوق الشخصي والمتعة الفردية.

إن هذه المزاوجة بين الثقافة والتقنية أو بين الذاتي والموضوعي هي نتيجة التحولات البنيوية التي طرأت على هيكلة المجتمعات المعاصرة، حيث لم يعد بالإمكان الفصل بين التطور والتكنولوجيا أو بين التنمية والتقنية.

وقد أثار هذا الوضع الذي أصبحت عليه الثقافة جدلا كبيرا بين المثقفين والفلاسفة ورجال الاقتصاد، خصوصا داخل الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا. ويعتبر الفيلسوفان الألمانيان "أدررنو وهركيير" من الأوائل الذين أثاروا مسألة علاقة الثقافة بالصناعة والتقنية والتكنولوجيا داخل المجتمعات المتطورة وذلك ضمن الإشكالية العامة التي وضعاها والمتمثلة في البحث عن أي مصير للثقافة. ويريان أن التطور الذي آلت إليه التكنولوجيا في البلدان المتقدمة أدى إلى ما أسمياه بإفلاس الثقافة وضياعهـا داخل الخضم السلعي الذي لا يفرق بين إنتاج وآخر إلا من خلال قدرته على الحضور داخل السوق وحسب استجابته لمتطلبات القيم الاقتصادية أو التجارية، بقطع النظر عما إذا كان النتاج الثقافي له القدرة على الحفاظ على جوهره الإنساني والأخلاقي والفلسفي، بحيث يتحول الحدث الثقافي والتعبير الفني بلى قيمة تجارية، فاقدا لقدرته النقدية ومقوماته الأصلية.

وقد تبنى هذا الطرح بعض الفلاسفة الإيطاليين والإنجليز، فيما فضل بعض الفلاسفة الإيطاليين مفهوما كثر برجماتية وأكثر شمولية، فوضعوا مفهوم صناعة المعرفة Knowledge industy وذلك بغية الوقوف على مدى مساهمة هذا الفرع من الصناعات في تطوير الناتج القومي.

أما في ألمانيا، فنجد الفيلسوف انزنسبورغ قد وضع سنة 1969 مفهوم صناعة الوعي وذلك لنقد بدايات ظهور تقنيات النشر الجديدة، في حين نجد اقتصادي مدرسة ستاندفورد قد حبذوا مفهوم صناعة الإعلان Information industry ويجمعون داخل هذا الحقل الصناعي كل الوسائل والتقنيات الإعلامية والثقافية كالأدمغة الإلكترونية والأقمار الصناعية وشبكات الاتصال المرئية والمسموعة. لقد أدخلت التطورات التقنية والتكنولوجية على الثقافة تشكيلا جديدا جعل مصير الثقافة رهين القدرات المادية الحديثة التي تنتجها وتروجها.

الثقافة والاحتكار العالمي

تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أضخم مركز لاحتكار الصناعات الثقافية في العالم. وهي القطب المهيمن على إنتاج الصورة والمعلومات حيث تغطي مجموعة من المؤسسات العملاقة والخاصة الجانب الأكبر من الإنتاج العالمي للصورة. وقد أثار هذا الوضع نهم اليابانيين ووجدوا فيه الأرضية المثلى لضمان استثمارات مربحة تقاس فوائدها وعائداتها بمليارات الدولارات. فخلال ثلاث سنوات، قال اليابانيون بتنفيذ استثمارات بقيمة 12 مليار دولار في مشاريع أمريكية عملاقة ذات صلة بالصناعات الثقافية وخصوصا في مجال حدائق الزفير فقد أمكن لمؤسسة مازوشيتا ـ عملاق الإلكترونيك الياباني ـ السيطرة على أكبر مجمع لحدائق الترفيه الأمريكية، مستفيدة في ذلك من السيل العارم من البرامج ووسائل الإنتاج الذي تفرزه الصناعات الثقافية الأمريكية.

إن الصناعات الثقافية بدأت تنعرج نحو مرحلة جديدة تتميز بظهور مجمعات صناعية وتجارية ضخمة يهيمن على دواليبها عالميا عدد ضئيل من أصحاب رءوس الأموال لا يفوق عددهم عدد المجمعات ذاتها، فيما يمتد نفوذهم إلى كامل أرجاء المعمورة، عبر ممثلياتهم الخارجية. فقد قامت مؤسسة سوني ومؤسسة مازوشيتا، اليابانيتان والهيئة العامة للكهرباء بشراء هيئة إذاعة أمريكا Radio Corporation America بقيمة ثلاثين مليار دولار، معولة في ذلك على الانتشار الهائل لدور الإنتاج السينمائي والمصنوعات التلفزية وكوابل الإرسال التلفزي وصانعي الأسطوانات، والتطور الكبير في قطاع النشر.

وتتمتع هذه الشركات العالمية والخاصة بقدرة خيالية على امتصاص القطاعات العتيقة لصناعه الثقافة أو حتى العصرية منها. ولما كانت التلفزة من أهم الصناعات الثقافية الخاضعة لقانون السوق في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن مؤسسات تجارية كبرى تعنى بزويج المعلومات وتصريف شؤون الخدمات هي التي تتولى المراقبة والإشراف عليها خارج رقابة الأجهزة الحكومية.

لئن كان البعد التجاري والطابع الخدماتي هما المهيمنين على مؤسسات الصناعات الثقافية، فإن قطاعات أخرى لا صلة لها بالتجارة لم تفلت من تأثيرات البعد الماركنتني كقطاعي التربية والتثقيف. فقد وضعت هذه المؤسسات الخاصة نظما شبه تربوية، الغاية منها التأثير على المستهلك عبر وسائل البث الجماهيري لاكتساب القدرة على توجيه الرغبات العامة وبلورة العقلية الاستهلاكية. ويوجد في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من ثلاثين مركزا تجاريا مخصصا لصناعة المعلومات والبرامج والمنوعات تعمل على تدعيم الاتجاه الاستهلاكي في المجتمع الأمريكي. وتعتبر مؤسسة "سيرس Sears" نموذجا حيا على مدى ما وصلت إليه مؤسسات صناعة الثقافة والإعلام من قدرة على تكريس نمط المجتمع الاستهلاكي، برغم بعدها المعلوماتي، في الظاهر. فهي عبارة عن بنك معلومات يعد من أكبر مؤسسات التوزيع في العالم، برقم أعمال يصل إلى خمسين مليار دولار في السنة. وهي تدمج داخل حقل اهتماماتها إلى جانب الخدمات المعلوماتية العامة، الخدمات المعلوماتية ذات الطابع العائلي والمنزلي. حيث تجمع ما لا يقل عن 3. 68 مليون ملف شخصي وعائلي تخزنها داخل وحدات إلكترونية يصل عددها إلى 2500 عقل إلكتروني وبرقم عمليات تسجيل وخزن تحسب بالمليارات، وهو ما يمكن هذه المؤسسة من معرفة كل ما يتعلق بعملائها من مكاسب وكيفية الحصول عليها وكذلك مجالات استثماراتهم. فهي تعرف نوع السيارة التي يقودها العميل، وعدد الأعطاب التي تحدث لها. كما أنه بإمكانها تحديد ما يود المشترك شراءه، ولأي غرض يفعل ذلك

أما شركة أي. تي. تي، وفي المتخصصة أيضا في قطاع الخدمات والمعلومات في مجالي الإقراض والهاتف فقد استطاعت أن تشد إليها اهتمام ملايين المشتركين، حيث تضع على ذمتهم بطاقات مزدوجة الصلاحية، بين خدمات عائلية واجتماعية من ناحية وخدمات أخرى ذات طابع معاملاتي تجاري. كما تمكن هذه المؤسسة عملاءها من نوع آخر من بطاقات اشتراك تسمى "سيتي كوبس citi cops" للاستفادة من بنوك المعلومات حول المبادلات التجارية وعمليات البيع والشراء المسجلة أو الممكنة.

ويحصى عدد هذا النوع من البطاقات بعشرات الملايين - وفي تقريرها عن هذه الظاهرة تورد مؤسسة النشر والإعلان الأمريكي السريع -L'american ex Press publishing ما يلي: "نحن نتربع على حقل هن الذهب، فبنك المعلومات الذي يجمع 1، 34 مليون مشترك موزعين على كاهل أرجاء المعمورة أنفقوا ما قيمته 99. 9 مليار دولار سنة 1989، قادر على معرفة ما يبتغيه حامل البطاقة، وما يود القيام بما وأين يفعل ذلك".

تسويق المعرفة

إن توظيف صناعة الإعلام والمعلومات لم يقتصر على المستوى الاقتصادي فحسب، بل وظفت كذلك في مجالات السياسة والمجتمع. ويورد أحد الباحثين تقويما لهذه الظاهرة فيقول: إن سلسلة المعلومات المبرمجة داخل القواعد المعلوماتية هي في حد ذاتها مادة أساسية. وهي منظمة لغايات تجارية بالأساس. إذ تمكن من ضبط التوقعات والقيام بالأبحاث لمراقبة جودة مردود الإدارة العمومية والخاصة، ومع ذلك فهي لا تمثل إلا جزءا ضئيلا من حجم المعلومات المعروضة على السوق الوطنية والعالمية فملايين القواعد المعلوماتية المتخصصة هي مصوغة أو مبيعة، ومئات منها محتكرة من طرف حفنة من كبار التجار.

إن مركز "ميد داتا Mead Data" يقول ببيع صنفين من الخدمات عن طريق بنكين للمعلومات. أما البنك الأول ويسمى "لكسيس LEXIS " فهو متخصص في بيع المعلومات القانونية. أما البنك الثاني فيسمى (نكسيس NEXIS" وهو متخصص في بيع المعلومات الصحفية كالمقالات والتقارير. ويضم هذا المركز 240 ألف مشترك، من ضمنهم أكبر المؤسسات الأمريكية. وهناك مؤسسة أخرى لا تقل عن التي سبق ذكرها وتسمى مؤسسة "ديالوغ ـ Di alogu" وهي تجمع ما لا يقل عن أربعمائة من القواعد المعلوماتية وتقوم ببيع النصوص الكاملة للمنشورات الاقتصادية.

ويعد قطاع المكتبات الجامعية والإعلام الرسمي من أكثر القطاعات تأثرا بهذا التطور الجديد داخل الولايات المتحدة الأمريكية. فعهد الفهرسة العمومية قد ولى وانتهى، ولم يعد بالإمكان الاستفادة من المعلومات المجمعة إلا بواسطة امتلاك موصل نهائي "Terminal" يكون متصلا بالقواعد المعلوماتية. وهو ما يجعل الحصول على المعطيات دون مقابل أمرا مستحيلا. فما كان بالأمس في متناول عامة الناس أصبح اليوم بضاعة تباع وتشترى. أما فيما يتعلق بالإعلام الرسمي فإن الحكومة الأمريكية - وهي أكبر منتج للمعلومات في العالم - تضع كامل إنتاجها على ذمة شركات خاصة لتتولى إعادة توضيبه وبيعة. كما أن التقارير العلمية والتقنية أصبحت اليوم محل احتكار العديد من الشركات.

حرية الخطاب التجاري

من المفارقات الغريبة التي بدأت تتبلور في المجتمعات الأكثر تقدما في العالم الحديث أن تقول مؤسسات الإعلان والدعاية بحملات إعلانية موازية تدافع من خلالها عن حرية التعبير، ضمن حملاتها التي تقوم بها لحماية العمل الإعلاني. ففليب موريس ـ أكبر دعائي في العالم ـ يوظف بعض أعماله الدعائية لضمان دستورية الحرية الفردية للمرادفة بينها وبين دستورية العمل الإعلاني والدعائي، كما يقوم أحد أكبر المجمعات الإشهارية بالعمل على وضع هذه القيمة الجديدة على رأس قائمة اهـتمامات. وفي هذا السياق يقول مدير الجمعية العالمية لإعلان: "سنكون المنظمة العالمية التي تساعد الحكومات والأشخاص العاملين في مجال الاتصال على حماية الخطاب التجاري". وفعلا، فقد استطاعت المؤسسات الإعلامية والإعلانية تحقيق حمايتها القضائية بمثل ما تحظى به حرية التعبير الفردية بل أصبحت منذ سنة 1980 تتمتع بالشخصية القانونية والقضائية وامتدت هذه الحماية لتغطي حرية التعبير لهذه المؤسسات، ومكنت هذه الامتيازات العديد منها من حرية في التعبير لا تحت ومن صلاحيات مطلقة لتمرير وظائفها التجارية حتى عبر القنوات العمومية.

ثمن اجتماعي باهظ

إن الثمن الاجتماعي للمعالجة التجارية الحرة لصناعات الثقافة والاتصال باهظ للغاية: إنه يؤدي إلى اختلال خطير داخل الأسس الديمقراطية نتيجة انقسام المجتمع بين فئتين متناقضتين بالضرورة: فئة تملك القدرة على شراء المعلومات والنتاجات الثقافية وتستفيد منها، وفئة محرومة لا حول لها ولا قوة مما يؤدي إلى تمركز السلطة في أيدي مالكي المعلومات ومحتكريها. ونمو عدم المساواة هذا، من شأنه أن يزيد في دعم التباين الاجتماعي ويزيد في ترهل روح التبادل والتعاون في المجتمع.

إن مفارقة غريبة بصدد التبلور والتشكل في هذا العالم الجديد. فمن جهة هناك زخم معلوماتي إلى حد التخمة، إنتاجا وبثا، لا يلبي حاجة الراغبن فيه. ومن جهـة أخرى هناك سيل عارم من المعطيات الجديدة المهيأة بصفة مسبقة لمقتضيات السوق والقوانين التجارية لا تتناولها إلا الطبقة المحظوظة.

إن هذا الوضع أثار حفيظة علماء الاقتصاد الذين أصبحوا ينظرون إلى المستقبل نظرة تشاؤم وحيرة، خاصة وأن الحكومات قد تنازلت عن الكثير من وظائفها الاجتماعية إلى القطاع الخاص. مثلما هو الشأن بالنسبة إلى الخدمات الإحصائية الفيدرالية. فالشركات المعلوماتية الكبرى التي تحتكر التصرف والترويج والإنتاج والبث في شؤون المعلومات، لا تولي أي اهتمام إلى المعطيات ذات الصلة بميدان الصحة أو السكن أو العمل أو التعليم أو التفرقة العنصرية أو البطالة أو الهجرة وغيرها من الميادين المشابهة وهو ما من شأنه أن يجعل مثل هذه المعطيات بأيدي محتكرين آخرين من أصحاب رأس المال.

وحتى الباحثون والعلماء هم بدورهم قد لحقهم أذى الحضور الجديد للصناعات الثقافية. إنهم في لهث دائم للبحث عمن يتبنى كشوفاتهم وأبحاثهم داخل النطاق العمومي أو الجامعي. فخارج هذه الأطر أصبح من العسير إيجاد من يتولى أمرهم، فميدان تحركهم تعتريه الكثير من الصعوبات، خاصة وهم ينشدون قيم التبادل العلمي والتعاون الحر في مجال المعلومات، وهي قيم يصعب استساغتها من طرف أصحاب الصناعات الدقيقة كصناعة الأدوية والهندسة البيولوجية والإلكترونيك. وقد أصدرت إحدى الصحف الأمريكية نقدا لهذه الظاهرة نورد منه ما يلي: إن الضغوطات التجارية والمنافسة تضع ما يقال حول ضرورة التبادل الواسع للمعلومات والوثائق العلمية محل تساؤل، ومع ذلك فان هذه الضغوطات لا تزال في اطراد مستمر، ذلك أن الشركات الكبرى ما فتئت تلهث وراء مزيد من الاستغلال للبحوث في ميادين عديدة مثل البيوتكنولوجيا والميكرو إلكترونيك والأدوية والفضاء.

إن ارتباط صناعة الثقافة والاتصال بالنظام التجاري الخاص والحر قد سحب السيطرة من الحكومات والأنظمة الرسمية على أهم أجهزة ومؤسسات صناعة المعلومات والمعلوماتية مما أدى إلى ظهور مراكز للاحتكار والهيمنة يمتد نفوذها إلى أقاصي الدنيا وتمسك بزمام المبادرة في صنع وتحديد الإنتاج الثقافي الذي لا يستجيب إلا لمقتضيات رأس المال ومنطق الربح وذلك على حساب الطبقات والمجتمعات غير المحظوظة وأيضا على حساب الثقافة والقيم السائدة، وكذلك على حساب العلماء والباحثين أنفسهم وعلى حساب الحرية والديمقراطية باسم الحرية والديمقراطية ذاتها. إن مجتمعا جديدا بدأ يظهر في متاهات تأكيد المجتمع الحديث، إن أربعين مليون عامل أمريكي سيكونون عند نهاية القرن تحت حراسة أنظمة الفيديو وإن سبعة ملايين آخرين هم الآن يشكلون ما يمكن تسميته بمجتمع الحراس يعملون أسرى ملامس أجهزة الكمبيوتر، ومما سيزيده في استفحال هذه الظواهر وتفشيها هو هشاشة واقع الصناعات الثقافية في المجتمعات الأقل تقدما.

 

الحبيب الإمام

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات