برنامج اليابان النووي ومخاوف آسيا حسين قطبي

برنامج اليابان النووي ومخاوف آسيا

اليابان تستعد بقوة للدخول في العصر النووي.. هل تبحث حقا عن بديل لطاقة البترول؟ أن أنها تسعى إلى الحصول على مخالب نووية تحول هذا العملاق اقتصاديا والقزم عسكريا إلى حالة أخرى؟.

تقدمت اليابان إلى مؤتمر قمة الدول الصناعية السبع الماضي الذي عقد في نابولي بإيطاليا في يوليو 1994 م بخطة توفر اليابان بموجبها سقفاً للتأمين على وارداتها من دولة جنوب إفريقيا معظمها من المنجنيز والبلوتونيوم بعد أول اتفاق تجاري يعقد بين الدولتين ـ وهو ما أوضح ـ في حينه ـ تلهف اليابان على سرعة استقرار الأوضاع السياسية داخل جنوب إفريقيا لعودة العلاقات التجارية بين الدولتين في أقرب فرصة. والاهتمام الياباني يعود ـ ولو جزئياً ـ إلى حرص اليابان على المضي قدما لاستكمال برنامجها النووي، برغم التكلفة الباهظة التي ينطوي عليها البرنامج الذي تصفه اليابان بأنه برنامج للأغراض السلمية وتوليد الطاقة، مع ارتفاع تكلفة هذه الطاقة إذا ما قورنت بالطاقة المتولدة عن البترول. وعلى الرغم من الضرائب التي تجبيها الحكومة اليابانية سنوياً من مبيعات البترول ومشتقاته في سوقها المحلى، ناهيك عن مقارنة التلوث الذي سيسفر عن استخدام البترول أو الغاز الطبيعي بالكوارث النووية التي قد تنتج عن النفايات النووية الخاصة إذا ما أخذ في الاعتبار أن البلوتونيوم 239 بعد مرور 24 ألف عام يظل مشعاً بنصف طاقته الإشعاعية الأصلية بينما يتطلب اليورانيوم 235 مرور 700 ألف عام حتى تنخفض قدرته الإشعاعية إلى نصف طاقته. وأن على اليابان أن توالي عمليات المسح والرصد الدوري على مواقع دفن النفايات النووية لمدة 300 عام لضمان عدم وجود تسرب إشعاعي منها. وتبدو الصورة أكثر قتامة إذا ذكرنا أن باليابان حتى الآن 15 مفاعلاً نووياً تنتشر في كل أنحاء الجزر اليابانية ويتم دفن نفاياتها النووية في قرية "روكاه ـ شوه" في شمال شرق اليابان والتي لم تحظ هي أو غيرها من المواقع النووية الخمسة عشر الأخرى بعد بشهرة عالمية ـ مثل تشيرنوبيل في الاتحاد السوفييتي السابق ـ نظراً لعدم وقوع كارثة نووية "معلنة" حتى الآن.

إزاء هذه الاعتبارات المذكورة سابقاً قد يبدو المضي قدماً في تنفيذ البرنامج النووي الياباني أمراً غير رشيد من الناحيتين الاقتصادية والبيئية على السواء. وهو ما يثير التساؤل والمخاوف أيضاً ـ على الأقل ـ على المستوى الآسيوي. لذا فإنه يبدو للعديد من المراقبين حالياً أن سياسة تخطيط الطاقة في اليابان تستند إلى منطق يقوم على "السياسة" و "الاستراتيجية" أكثر من اعتماده على اعتبارات "الاقتصاد" مثل "النفقات والإيرادات" وهي عصب المنطق الاقتصادي الذي طالما التزمت اليابان بأبجدياته الأساسية. لذا فإنه من الأهمية بمكان استقراء ملامح سياسة إنتاج الطاقة النووية في اليابان للتعرف على التكلفة الحقيقية ـ البيئية والسياسية والاقتصادية ـ التي ينطوي عليها "البديل النووي" في اليابان.

فلا يزال من الراسخ في عقلية التخطيط الاقتصادي اليابانية أن الابتعاد عن بديل "البترول" سيضمن ـ في الأمد الطويل ـ حرية القرار الياباني الاقتصادي والسياسي. فاليابان تشعر بأن البترول سيظل بديلاً خارج سيطرتها "إنتاجاً ومحزوناً" بينما المطلوب هو التحول تدريجياً إلى بديل تحت كامل سيطرة اليابان.. بديل يتم إنتاجه وتخزينه وتوجيهه محلياً مثل البديل النووي لإنتاج الطاقة عصب الاقتصاد الياباني.. ثاني أكبر اقتصاد في العالم حالياً.

البرنامج الياباني للطاقة النووية

تشجع اليابان منذ فترة إنتاج الطاقة باستخدام المفاعلات النووية التي تعتمد على البلوتونيو ويشتد العالم ـ حتى الآن ـ بسمتين مهمتين يتسم بهما البرنامج النووي الياباني. أولاهما قدرة اليابان على إنتاج مفاعلات نووية متقدمة على درجة عالية من السلامة النووية، فحتى الآن لم تشهد اليابان كارثة نووية كما شهد الاتحاد السوفييتي السابق من جراء مفاعل "تشرنوبيل".

ثانية هذه السمات هي "جرأة" البرنامج الياباني فاليابان تسعى للاعتماد أساساً على نوعين من المفاعلات النووية هما المفاعلات التي تعمل بالماء الخفيف والمفاعلات سريعة التوليد، وهذه الأخيرة قد توقفت فرنسا ذاتها ـ وقد كانت وراء تطوير هذه التقنية ـ عن الاعتماد عليها لمخاطر الإشعاع التي قد تنتج عنها.

وكلا النوعين من المفاعلات يتطلب من اليابان لاعتبارات فنية واقتصادية أن تتبنى سياسة "تكديس" محزون هائل من البلوتونيوم داخل اليابان وهي سياسة ثبتت صعوبتها خاصة طوال الفترة التي دام فيها تأجيل افتتاح أول مفاعل ـ سمي مفاعل "مونجو" من جيل المفاعلات اليابانية الحديثة سريعة التوليد للاعتبارات الفنية.

مفاعلات بالماء الخفيف

وتخفيفاً من حدة المشكلة وضع معهد بحوث الطاقة الذرية الياباني خطة طموحاً لإنشاء مفاعلات تعمل بالماء الخفيف يمكنها تخزين رصيد البلوتونيوم المتراكم في اليابان داخل تلك المفاعلات لحين استكمال بناء وتجربة المفاعلات سريعة التوليد.. وهي خطة تسمح باستغلال المخزون في إنتاج الطاقة ـ طوال عملية تكديسه وجلبه من الخارج ـ لحين الانتهاء من بناء تلك المفاعلات الضخمة سريعة التوليد التي جلب الوقود النووي أصلاً من أجلها. ويطلق المعهد على هذه الخطة اسماً "التخزين الفعال Active". وتتميز مفاعلات "الماء الخفيف" بأنها تحول اليورانيوم 238 المشع على بلوتونيو، في الوقت الذي يتم فيه الاحتفاظ باليورانيوم داخلها فيما يشبه عملية التخزين. إلا أن مفاعلات الماء الحفيف هذه تختلف عن المفاعلات سريعة التوليد ـ وهي مفاعلات يمكنها تخصيب كميات إضافية من البلوتونيو ـ بأنها تنتج أقل من 80 وحدة من البلوتونيوم لكل 100 وحدة وقود تضاف إلى المفاعل، كما أنه يمكن للوقود المستخدم أن يعاد استخدامه مع قيامه بإنتاج بلوتونيوم من نفس الدرجة أو الرتبة التي تنتجها المفاعلات سريعة التوليد.

كذلك يمكن إعادة استخدام الوقود المستخدم من مفاعلات الماء الخفيف لاستخلاص البلوتونيوم ثم استخدامه في المفاعل ثانية كما يمكن ـ طوال الوقت ـ تخزين خمسة أطنان من البلوتونيوم في كل مفاعل يعمل بالماء الخفيف.

عوائق فنية وسياسية

نظراً لأن استراتيجية إنتاج الطاقة في اليابان ترى في المفاعلات التي تعمل بالماء الخفيف مفاعلات مساعدة لإنتاج الطاقة أثناء القيام بتخزين ما تستورده اليابان من الوقود النووي من جنوب إفريقيا لحين تراكم المخزون الاستراتيجي اللازم لثشغيل المفاعلات سريعة التوليد وحتى يتم استكمال بنائهـا ودخولها إلى نطاق الخدمة أيضا، فإن مفاعلات الماء الخفيف هي بطبيعتها ليست بديلاً عن الفاعلات سريعه التوليد وهو توقيت يصعب تحديده بدقة نتيجة عوامل متباينة من العوائق الفنية والسياسية الخارجية. ومع هذا فخطة اليابان المبدئية هي اعتبار عام 2030 م ـ على أقرب تقديرـ بداية تعميم المفاعلات سريعة التوليد على نطاق تجاري في كل أنحاء اليابان.

وكل هذا مرهون بالطبع بمدى قدرة اليابان على تقديم حلول فنية للمشكلة الرئيسية التي يواجهها المفاعل التجريبي سريع التوليد "مونجو" الذي أقيم بالفعل لمواصلة البحوث في هذا المجال. وهذه المشكلة خاصة باعتماد المفاعل التجريبي "دمونجو" على استخدام الصوديوم السائل في نظم التبريد الأولية والتابعة في المفاعل ولم يتم بعد التوصل إلى ردود شافيه للمخاوف التي تكتنف هذه التقنية قبل البدء في تعميم هذه المفاعلات سريعة التوليد في اليابان.

مخاوف آسيوية

وسط غياب المعارضة الداخلية الحقيقية من جانب المواطن الياباني للاعتماد على الطاقة النووية كبديل للبترول، فإن هنالك معارضة آسيوية تتصاعد في وجه برنامج التطوير النووي الياباني.

فدول الجوار الآسيوية التي عانت من مرارة الاستعمار والمذابح التي ارتكبها الجيش الياباني وراح ضحيتها ما يزيد على مليون آسيوي لا تزال تذكر الفظائع التي ارتكبها الجيش الياباني برغم وقوعها في حقبة الثلاثينيات من هذا القرن حين أحكم العسكريون اليابانيون قبضتهم على السلطة في اليابان تماماً ـ أي منذ ما يقرب من ستين عاماً مضت ـ والعديد من الكوريين والصينيين وغيرهم لم ينسوا بعد تلك المآسي التي يثيرها اسم "اليابان" في مشاعر كل منهم. والدول الآسيوية التي تبدي معارضتهـا المتزايدة لبرنامج التطوير النووي الياباني تنظر إلى التحركات اليابانية على عدة أصعدة بارتياب وحذر. فهذه الدول خاصة الصين وكوريا الجنوبية وأندونيسيا وماليزيا والفلبين "تستقرئ" التحرك الياباني في إطار السعي لعضوية مجلس الأمن الدائمة وإعلان رئيس وزراء اليابان ـ تومئ إيتشي موراياما ـ أمام البرلمان الياباني أن وجود قوات الدفاع الذاتي اليابانية لا يتعارض مع الدستور. والتزامه بتجديد معاهدة الأمن الموقعة مع الولايات المتحدة. وهما نقطتان كانتا محل خلاف رئيسي على مدى أربعين عاماً بين شريكي الائتلاف الحاكم في اليابان، الحزب الاشتراكي الديمقراطي ـ بزعامة رئيس الوزراء نفسه ـ وزعيم الحزب الديمقراطي الحر وزير الخارجية الحالي يوهيه كونوه.

أضف إلى ذلك قيام الحكومة اليابانية- منذ أيام قلائل - بنشر تقرير سنوي عن شؤون الدفاع حيث نص فيه - لأول مرة في تاريخ اليابان الحديث - على أن الخطر الأول الذي بات يهدد أمن اليابان يعد روسيا - كما ظل الأمر عليه منذ فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى حتى العام الماضي - بل أصبحت هناك قوى "إقليمية" أخرى أشد خطورة على أمن واستقرار اليابان وذلك في إشارة واضحة لكوريا الشمالية. ونظراً لأن برنامج كوريا الشمالية النووي مشتبه فيه من ناحية قدراته وأهدافه، فإن الدول الآسيوية هي الأخرى "تستنبط" أن ما أعلنته اليابان من أهداف لبرنامجها النووي هو- على الأقل - حقيقة غير كاملة.. فالدول الآسيوية حتى الآن لا تتقبل بسهولة فكرة أن تفضل اليابان - بكل ثقلها في عملية "الترشيد الاقتصادي وتخفيض التكلفة" على المستوى الدولي - إنتاج الكهرباء اللازمة للتصنيع مثلا من بديل "خطرا" و"مكلف" هو بديل الطاقة النووية التي تبلغ تكلفتها مالا يقل عن خمسة أمثال تكلفة إنتاج الطاقة من البترول على الرغم من ضآلة الآثار البيئية السلبية التي تنجم عن استخدام البترول. وهو ما يؤكد للدول الآسيوية المعنية أن البرنامج ينطوي على أهداف عسكرية بالإضافة إلى أغراض إنتاج الطاقة المعلنة.

وهذه المخاوف تستوجب على اليابان ـ بين الحين والآخر ـ القيام ببذل المزيد من الجهود الدبلوماسية للتخفيف من حدة مخاوف دول آسيا. وفي هذا الإطار تولي اليابان اهتماماً خاصا بتوثيق علاقاتها مع قادة اتحاد دول جنوب شرق آسيا - المعروفة اختصاراً باسم آسيان - ولتخفيف مخاوفهم على اعتبار أن اتحاد آسيان بات يتمتع بثقل سياسي واقتصادي ملحوظ خاصة منذ عقد الثمانينيات بعد أن أصبحت بعض دوله تدرك أهمية الحفاظ على استقرار الأوضاع في شبه القارة الكورية وقد ظهر ذلك واضحاً أثناء انعقاد المنتدى الإقليمي لاتحاد آسيان اعتباراً من 1994/7/25 م وهذه السياسة اليابانية ذات هدفين أولهما تهيئة دول اتحاد آسيان الست (تايلاند وأندونيسيا وماليزيا وسنغافورة والفلبين وبروناي) للاهتمام بالخطر النووي الكوري الشمالي "المحتمل وجوده" وثانيهما أن هذه التهيئة قد تصلح ـ ولو مستقبلاً ـ مبرراً للأغراض العسكرية التي "قد" ينطوي عليها البرنامج النووي الياباني. فهل تقتنع الدول الآسيوية بذلك؟!

 

حسين قطبي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات