رؤية إسلامية لقضية السكان والتنمية محمد سليم العوا

رؤية إسلامية لقضية السكان والتنمية

كان أهم ما أثار حفيظة المعارضين لمؤتمر القاهرة خلو وثيقته المعدة من أية إشارة إلى قضيتي الالتزام الديني والخلقي باعتبارهما محددين عامين لكل ما يصدر عن المؤتمر من قرارات. فهل أفلح مؤتمر القاهرة في تجاوز هذا الأمر وأعطى الفرصة لكل ما تمثله القيم الدينية النبيلة في التعبير عن نفسها؟!.

لعل حدثا دوليا سلميا آخر لم يثر ما أثاره مؤتمر القاهرة للسكان من اهتمام عالمي، ومن ضجة عربية وإسلامية، ومن صراع عنيف في الرأي بين المختلفين حول قضاياه المتعددة، بل وحول أصل ملاءمة انعقاده على أرض مصر بأزهرها العريق وكنيستها العتيدة.

ولم تكن المعارضة والدفاع وليدين حديثي عهد بالدنيا عشية انعقاد المؤتمر، بل كان كل منهما قد بلغ أشده واستوى على عوده قبل ذلك بكثير. فقد بدأت المعارضة من أوربا من الكنيسة الكاثوليكية وتبعتها دول عديدة في موقفها الرافض لبعض ما تضمنه مشروع الوثيقة الذي أعدته لجان الأمم المتحدة، لاسيما حول موضوع الإجهاض. وانضمت فورا إلى هذه المعارضة عشرات الجمعيات ا لأوربية والأمريكية والعربية والإسلامية ليتسع نطاق المعارضة من الموقف الخاص بإدراج موضوع الإجهاض ضمن الوثيقة- المشروع، إلى مسائل عديدة أخرى تضمنتها الوثيقة. وكيلت تهم بالتحيز والعنصرية والانتهازية السياسية إلى جهات ودول متعددة من جانب المعارضين.

وكان واجب الدفاع عن المؤتمر ووثيقته واقعاً أساسا على عاتق المسئولين الرسميين في لجان الأمم المتحدة، وفي أمانة المؤتمر، وعلى عاتق الذين كانوا عرضة للهجوم من لمعارضين دولا وجمعيات وأفرادا. وعشية انعقاد المؤتمر شانت جميع المواقف قد تحددت، وجميع الأسلحة قد استخدمت، وبقي النزال الأخير في ساحة القاعة لرئيسية الذي حاول المعارضون فيه تحقيق النمر على واضعي الوثيقة بتحالفات كثيرة كان من أكثرها لفتا لمنظر التحالف الذي وقع بين بعض الوفود الكاثوليكية لمتشددة، وبين بعض الوفود الإسلامية التي توصف عادة بأنها تعبر عن أكثر الأفكار الإسلامية تشددا..!!.

البعد الديني والخلقي

وكان من توفيق الله أن يعقد المؤتمر في القاهرة حيث أتيحت لأهل الخلق والإيمان على اختلاف أديانهم ومذاهبهم- كما يقول المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية الدكتور حسين الجزائري- فرصة عرض الصورة الناصعة للقيم النبيلة التي ينادي بها ويدافع عنها المؤمنون. وقد ترتب على هذا الجهد الذي قام به "زعماء سياسيون وروحيون من أهل الإيمان والخلق " أن جاءت الوثيقة يتصدرها أصل عام يحكم جميع فصولها وأفكارها وتنفيذ توصياتها هو أن (برنامج العمل يتطلب توفير أرضية مشتركة مع الاحترام الكامل لمختلف القيم الدينية والخلقية والثوابت الثقافية!. (الفقرة 1/ 15).

وإيراد هذا الأصل في ديباجة الوثيقة، ليسري مضمونه على كل ما يرد بعده من أفكار وتوصيات، يمكن الدول والشعوب من أن تسهم في التطور العالمي المنشود في موضوعات اهتمام الوثيقة مع الالتزام الكامل بقيمها الدينية والخلقية. وبذلك جردت الوثيقة خصوم أفكارها من أهم الأسلحة التي شرعت في وجه المؤتمر وتوجهاته. وبقدر ما يعني الدول العربية فإن هذا الأصل يجعل التزام الأحكام القانونية المستمدة من الشريعة الإسلامية في مجا لات الأسرة والمرأة والطفل وغيرها من المجالات- كما هو الحاد في هذه الدول- غير متعارض من أي وجه مع توجهات المجتمع الدولي كما عبرت عنها وثيقة المؤتمر. ويصبح التزام هذه الدود بمقررات المؤتمر غير محتاج إلى محفظ تفصيلي على كل فقرة يظن أنها تخالف الشريعة الإسلامية أو الثوابت الخلقية، إذ يغني الأصل الحاكم للوثيقة كلها عن هذا التحفظ، الذي كثيرا ما استخدم سلاحا في الإساءة إلى الدول التي تعلنه. ثم أكد هذا الأصل تصدير الفصل الثاني المعنون "المبادئ" حيث تضمن النص على أن "تنفيذ التوصيات الواردة في برنامج العمل هو حق سيادي تتمتع به كل الدول، وينبغي أن يكون متماشيا مع قوانينها الوطنية، وأولوياتها التنموية، مع الاحترام الكامل لشتى القيم الدينية والخلقية والخلفيات الثقافية لشعب كل دولة، وأن يتفق مع حقوق الإنسان الدولية المعترف بها عالميا". (ص 6).

وقد أضيف هذا النص إلى المشروع الأصلي باقتراح من الوفد المصري إلى المؤتمر أيدته وفود إسلامية عدة. وجاءت هذه الإضافة لتفرغ الوثيقة من أية شبهة إلزام للدول التي تقوم نظمها السياسية على احترام العقيدة الدينية- أو العقائد- السائدة في شعوبها بما يخالف هذه العقائد أو يتعارض مع الأحكام المستمدة منها.

العلاقة بين الرجال والنساء

تضمن الفصل الثاني من الوثيقة عددا من التوصيات التي أثارت قبل الإقرار النهائي لمشروع الوثيقة جدلا كبيرا، ودعت إلى تحفظ بعض الدول الإسلامية على بعض نصوصها.

وتدور أهم هذه التوصيات حول تعزيز المساواة والعدالة بين الرجال والنساء، وتقوية وضع المرأة، ومنع كل صور العنف ضدها. (المبدأ 4).

ويقرر المبدأ التاسع من مبادئ هذا الفصل أن الأسرة هي الوحدة الأساسية في المجتمع ويجب تقويتها، وأن الزواج يجب أن يتم بالرضا الحر للطرفين مع إقرار المساواة بين الزوجين.

والمساواة بين الرجال والنساء، بل بين الناس جميعا، أصل مقرر بنص القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير(الحجرات: 13). وفي القرآن الكريم التصريح بمساواة الرجل للمرأة في قوله تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء(النساء: ا). ومقرر بنصوص نبوية صحيحة عديدة من أشهرها قوله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس كلكم لآدم وآدم من تراب .

ولم يسبق الإسلام دين ولم تفقه حضارة في تقرير حقوق للنساء مساوية لحقوق الرجال فنزل الوحي مقررا أنهن ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف (البقرة: 228).

ولا تتمتع المرأة في أماكن كثيرة من العالم بوضع مساو أو مماثل لوضع الرجل اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، ومن هنا كانت دعوة الوثيقة إلى "تقوية وضع المرأة" وهي العبارات التي أثارت كثيرا من الاعتراض من جانب عدد من المعارضين للمؤتمر قبل انعقاده. والحق أن وضع المرأة في ظل التشريع الإسلامي لا يحتاج إلى تقوية، وإنما الذي يحتاج إليه هو أن نصحح معاملة الرجال للنساء مستلهمين توجيهات الدين الإسلامي وملتزمين أحكام شريعته. فالقرآن الكريم ناطق بأن وضع المرأة كوضع الرجل سواء بسواء وأن هذه التسوية شانها في أمر الدين هو شأنها في أمر الدنيا: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (النحل:97). وفي قبول العمل الصالح يقول الله تعالى: فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض (آل عمران: 195).

وفي تقديرنا أن ما جاءت به الوثيقة في فصل "المبادئ" عن تقوية وضع المرأة وعن المساواة بينها وبين الرجل ليس إلا ترديدا لبعض المبادئ التي قررها الإسلام منذ نزل بكتابه الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن إعمال نصوص الوثيقة التفصيلية في هذا الشأن ما دام محكوما بالقيم الدينية والخلقية والثقافية السائدة لدى الشعوب، وفي إطار الحق السيادي لكل دولة فإنه لم يكن على الدول الإسلامية من تثريب إن هي قبلت الانضمام إلى هذه الوثيقة والمشاركة في إصدارها. وليس في التحفظ الذي أبدته بعض الدول على بعض النصوص أكثر من تأكيد المبدأ العام الذي تصدر الوثيقة وتكرر في مواضع منها أنها تطبق في حدود القيم السائدة في كل دولة في إطار السيادة الوطنية لها.

إجراءات لكفالة حقوق المرأة

وقد تضمن الفصل الرابع الخاص بالمساواة بين الجنسين والعدالة وتقوية وضع المرأة عددا من الإجراءات التي تقترح الوثيقة اتخاذها في كل دولة لوضع المبادئ المقررة في الوثيقة موضع التنفيذ، ومن بين هذه الوسائل إنشاء الآليات اللازمة لتحقيق المشاركة المتساوية والتمثيل العادل للنساء في جميع مستويات العمل السياسي والحياة العامة، والعناية بتمكين المرأة من الإفادة من إمكاناتها من خلال التعليم وتنمية المهارات وتوفير فرص العمل مع إيلاء أهمية قصوى للقضاء على الفقر والجهل والمرض بين النساء، وعلى التمييز في الوظائف بين الرجال والنساء على أساس الجنس. (الفقرة 4/ 4 وفقراتها الفرعية).

وجميع هذه الإجراءات وغيرها مما تتخذه الدول والمجتمعات لبلوغ الأهداف الخاصة بتحقيق المساواة بين النساء والرجال يعد من الوسائل اللازمة لوضع المبادئ التي قررها الإسلام في هذا الشأن موضع التنفيذ.

ولا شك أن حاجتنا- في المجتمعات العربية والإسلامية- إلى النظر بعين الاعتبار إلى هذا الأمر الحيوي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية أشد من حاجة مجتمعات كثيرة أخرى. وإذا كان لمؤتمر القاهرة فضل تذكيرنا- من خلال وثيقته- بواجبنا نحو إيلاء حقوق النساء العناية الواجبة- دينا- لهن، فإنه فضل ينبغي أن يذكر للمؤتمر ووثيقته، ويشكر لهما، وهي عناية واجبة ينبغي أن تؤدى.

حق المرأة في الإرث

وقد جاءت الفقرة (4/ 6) من هذا الفصل تخاطب الحكومات بضرورة تأكيد الأهلية القانونية للمرأة، وهو مبدأ قرره الإسلام منذ عصر الرسالة. والفقه الإسلامي بجميع مذاهبه يجعل المرأة كالرجل سواء بسواء من حيث أهليتهما القانونية. (مصطفى السباعي، المرأة، ص 30).

وقد تخوف كثير من المعارضين للوثيقة من النص الوارد في الفقرة (4/ 17) عن الحقوق الخاصة بالميراث بالنسبة للنساء، وأنه قد يكون مؤديا إلى مواقف سلبية من تنظيم القرآن الكريم للميراث. والحق أن هذا التخوف في غير محله، لأن تطبيق الوثيقة بكل تفصيلات المبادئ والإجراءات الواردة فيها محكوم بالقيم السائدة في كل دولة، ولأن الذي يدعو إليه هذا النص، وغيره من النصوص، أمران: أولهما ضمان حصول النساء على حقهن في الإرث، وثانيهما ضمان حقوق متساوية أو متوازنة للنساء في شأن الإرث.

وتوهم بعض الناس أن القرآن- أو الإسلام- لم يقرر حقوقا متساوية أو متوازنة للرجال والنساء في شأن الميراث غير صحيح، إذ إن نقص نصيب المرأة عن نصيب الرجل في بعض أحوال الميراث مترتب على أحكام توزيع الأعباء المالية التي يلتزم بها كل منهما وهو توزيع يقوم على العدالة التي تعبر عنها القاعدة الفقهية "الغرم بالغنم". وليست نصيب المرأة أقل من نصيب الرجل في الميراث في جميع الأحوال، بل هو أحيانا يساويه مع اتحادهما في درجة القرابة للمورث كما في شأن الأبوين فإن فرض كل منهما هو السدس، وكما في الإخوة لأم فإن الذكر منهم مثل الأنثى- عند الانفراد- نصيبه السدس، وقد يزيد نصيب الأنثى على نصيب الذكر فإن البنت إذا انفردت أخذت النصف من التركة واقتسم باقي الورثة النصف الآخر، والبنتين أو البنات يأخذن الثلثين ويبقى ثلث للورثة تعصيبا. وهكذا تختلف أحكام الميراث باختلاف الحالات، ويكون النقص حين تستوي درجة الأنثى والذكر وتختلف تكاليفهما المالية والاجتماعية كما في الزوجين وفي البنات والأبناء. وهذا الاختلاف تابع لقاعدة مسلمة في النظم القانونية كافة مؤداها أنه لا مساواة حيث تختلف المراكز القانونية للأفراد، ولم يخرج تشريع الميراث في الإسلام عن هذه القاعدة في أية جزئية من جزئياته.

وعلى ذلك فنصوص الوثيقة سواء في فقرتها رقم (4/ 17) أو في غيرها من الفقرات لا تقرأ ولا تفسر بأية صورة من الصور على أنها دعوة إلى التحلل من بعض أحكام الميراث التي قررها الإسلام، وإنما تفهم وتفسر على أنها دعوة للمجتمعات التي لا تقرر للمرأة حقوقا عادلة في الميراث إلى تقرير هذه الحقوق، وللمجتمعات التي تحرم المرأة من بعض حقوقها المقررة لها إلى أن تكف عن ممارسة هذا الحرمان. وكلا الأمرين واجب إسلامي بنص القرآن الكريم.

واجب الرعاية الأسرية

أوصت الوثيقة في فقرتها (4/ 11) بتأكيد مسئولية الرجال في الرعاية الأسرية ورعاية الأطفال. والاعتراض على هذه التوصية لا يتفق مع الثابت في السنة النبوية الصحيحة من كون الإسلام قرر واجب الرعاية على جميع المكلفين: كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها ..... . (رواه أحمد وأبوداود والترمذي وغيرهم بألفاظ متقاربة). ولا يتفق مع الثابت في السنة الصحيحة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخصف نعله (أي يصلحه) ويرقع ثوبه، ويكون في مهنة أهله .

ومشاركة الرجالي في تحمل العبء المنزلي لاسيما ما يتصل منه بتربية الأولاد واجب من واجبات الأزواج التي قررتها الشريعة ولم تبتدعها "الوثيقة"!! فلا وجه للمعارضة التي لقيها هذا النص ونظائره، بل هو جدير بالتأييد والتأكيد.

تعديل الموقف من الإجهاض

كان من أكثر المسائل إثارة للجدل قبل انعقاد مؤتمر القاهرة للسكان موضوع الإجهاض ومعالجة مشروع الوثيقة له.

وقد أدت المعارضة القوية لهذه المعالجة، وعلى الأخص التحالف بين مصر وإيران وباكستان وماليزيا وإندونيسيا من جهة، وبين وفد الفاتيكان وممثلي منظمة الصحة العالمية، ووفود بعض الدول الكاثوليكية من جهة أخرى إلى تعديل التعبير عن رؤية الوثيقة لمسألة الإجهاض، فنص المشروع النهائي في فقرته (24/7) على أن "الحكومات د- يجب أن تتخذ الخطوات المناسبة لمساعدة النساء على تجنب الإجهاض، الذي لا يجوز في أية حالة تشجيعه باعتباره وسيلة لتنظيم الأسرة ويجب في جميع الحالات توفير العلاج والتوجيه للنساء اللاتي تعرضن ير للإجهاض)،.

وهذا النص لا مخالفة فيه للقيم الدينية ولا للأحكام الإسلامية المتعلقة بحفظ النسل والنفس وحماية الجنين، ولذلك لم تسجل وقائع الجلسة الأخيرة للمؤتمر اعتراضا أو تحفظا على هذا النص (الأهرام، 14/ 9/ 1994 وقائع جلسة التصديق على الوثيقة الختامية).

سلبيات الوثيقة الختامية

لم تخل الوثيقة الختامية للمؤتمر من عدد من الأمور التي تعد غير مقبولة من وجهة النظر الإسلامية، التي يعبر عنها هذا المقال، وإذا كان الإنصاف يقتضينا أن نذكر الإيجابيات أو الحسنات التي تضمنتها هذه الوثيقة، فإن واجب البيان يمنعنا من إغفال الإشارة إلى ما لا يمكن قبوله- إسلاميا- من نصوص توصياتها. ولسنا في هذا نحاول أن نفرض قيمنا أو تقاليدنا الثقافية- فضلا عن شريعتنا - على غيرنا، بل نعلن بوضوح وقوفنا في صف الرافضين للهيمنة الثقافية لمجموعة معينة من دول العالم بأسره. ونكرر- بإيمان ويقين- ما سبق أن أعلنه المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية من رفضه "إصرار حفنة من الدول الصناعية على فرض قيمها التي يرفضها بلايين البشر، معرضة بذلك سائر شعوب الأرض إلى ما تعرضت إليه شعوبها هي، من تزعزع السكينة والمودة والرقة، من اضمحلال ا لأسرة، وانتشار ا لانتحار والكروب والجرائم، ومن تقويض ذلك المحضن الذي كان يضمن لأبنائهم نشأة سوية، بدل أن يقعوا فريسة العنف والمخدرات والفحشاء. (خطابه في اللجنة الإقليمية لشرق المتوسط المنعقدة بالبحرين في 2 / 10 / 1994).

ولعل أهم نقاط الاعتراض الباقية في الوثيقة الختامية للمؤتمر هي تكرار الإشارة في مواضع من الوثيقة (الفصل السابع مثلا) إلى الأزواج والأفراد، وقد طلب الوفد المصري- وتمسك بذلك في الجلسة الختامية- حذف كلمة الأفراد وأيدت دول عديدة منها الجزائر وإندونيسيا وأفغانستان والكويت وا لأردن وماليزيا وسوريا هذا المطلب. ومع ذلك بقي النص على "الأفراد" إلى جانب النص على الأزواج أو الأسرة. وفي التعامل مع الوثيقة وما يترتب عليها من تعديلات تشريعية في الدول العربية والإسلامية يجب أن يكون واضحا دائما ما قرره وزير الخارجية المصري في الجلسة الختامية من أن "جميع المسائل التي تضمنها برنامج العمل في هذا الخصوص (الصحة والحقوق الإنجابية) تتعلق بعلاقات سورية بين أزواج مرتبطون برابطة الزواج في إطار مفهوم الأسرة باعتبارها الخلية الأولى للمجتمع لما. ما قرره رئيسا وفد غانا من أن "جميع التوصيات واردة لن تنفذ خارج إطار القيم الأخلاقية لكل دولة".

وقد عبر عن هذه المعاني أجمل تعبير خطاب في ير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في البحرين 2/ 10/ 1994) حين قرر أن الأسرة تعني "زوجا وزوجة يجمع بينهما رباط شرعي، وتظللهما سكينة والمودة والرحمة، ويحتضنان من أصولهما فروعهما الأقربين رجالا كثيرا ونساء، ويضمهما ت تكون فيه النساء شقائق الرجال.. وتكون 15 المرأة فيه هي الراعية تتولى الرعاية الصحية والنفسية والتربوية لأفراد أسرتها.. ".

الزواج المبكر نعمة لا نقمة

حملت الوثيقة الختامية في مواضع منها على الزواج المبكر، وطالبت الدول في رقم (4/ 21) برفع سن الزواج، وهذا الموقف يؤدي إلى تشجيع وقوع ما أسمته الوثيقة "العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج " و"النشاط الجندي المبكر".. و 9 حمل المراهقات " و"الحمل غير المرغوب فيه ".. وغيرها من العبارات التي اعترضت عليها دول عديدة منها إيران وليبيا واليمن وباكستان وكولومبيا وغيرها.

ولا بأس أن نستعير ـ مرة أخرى ـ استخدمها المدير الإقليمي للصحة العالمية في شأن هذا الأمر: "نغني بالزواج" المبكر ذلك الذي يتم في أوانه الصحيح أي عند نضج الفتى والفتاة.. لا نعني به الزواج المبتسر الذي يتم في بعض المجتمعات المتخلفة حتى قبل البلوغ، ولا نعني به تأجيل الزواج الذي يرهق الفتى والفتاة من أمرهما عسرا، ويدفعهما في طريق الفحشاء دفعا. ومن عجب أنك ترى تلك المجتمعات التي يدعونها المتقدمة، تصمت صمت القبور عن العلاقات الجنسية المبكرة إذا كانت إباحية، ولكنها ترفع عقيرتها بالاحتجاج إذا تمت هذه العلاقة الجنسية بين نفس الأشخاص في إطار شرعي.. " والدعوة إلى الزواج المبكر مقترنة عند منظمة الصحة العالمية بالدعوة إلى تنظيم الأسرة "من أجل الصحة". وقد أصدرت منظمة الصحة العالمية منذ عام 1984 قرارا بأن "يؤخذ في الاعتبار البعد الروحي للاستراتيجية العالمية لتوفير الصحة للجميع بحلول عام 2000 ". ولا شك أن هذا القرار يجب أن ينفذ جنبا إلى جنب مع توصيات الوثيقة الختامية لمؤتمر السكان التي تنفذ هي الأخرى، في حدود القيم الدينية والخلقية والثقافية.

الوثيقة ليست خاصة بأهل دين أو ثقافة معينة

في القراءة العربية/ الإسلامية لوثيقة مؤتمر السكان ينبغي أن نذكر أن هذه الوثيقة لا تعكس ثقافتنا ولا تعبر عن قيمنا ولا تلتزم- في كل المواضع - أحكام الأديان السائدة في وطننا العربي.

إن هذه الوثيقة بما لها من طبيعة عالمية تعبر عن المفاهيم والقيم السائدة في شتى بقاع الأرض، وبعضها، بغير شك يتعارض صراحة مع القيم الدينية. وإذا كان لأهل الأديان أن يصنعوا شيئا في هذا الشأن فهو أن يستمسكوا بعقائدهم ويدافعوا عن ثقافتهم، وأن يقفوا موقف الإنصاف من هذه الوثائق الدولية فيطبقوا منها ما لا يصدم المعتقدات والقيم التي يؤمنون بها، ويدعوا الباقي لأصحابه، وحسبهم أنهم برفضه والتحفظ عليه، قد أبلغوا كلمة الحق وأسمعوها لغيرهم من الخلق ثم إن كلا "ميسر لما خلق له ".

لا تحسبوه شرا لكم

في غمرة الحماس الذي صاحب حملتي الاعتراض والتأييد لمؤتمر السكان ساد في عديد من الأوساط انطباع أن مجرد عقد هذا المؤتمر في القاهرة يشكل عملا غير مقبول، أو بالأقل غير ودي، في نظر التيار الإسلامي وفي نظر تيار التدين بشكل عام، وهو التيار الغالب في وطننا العربي. فهل كان هذا الانطباع صحيحا، أو هل بقي صحيحا بعد انفضاض المؤتمر؟. في تقديرنا أن هذا الانطباع كان خاطئا، وقد ثبت الآن، بعد أن استكملت أعمال المؤتمر وصدرت وثيقته الختامية، هذا الخطأ.

لقد أدى عقد المؤتمر في القاهرة، عاصمة الأزهر ومحضن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بما تمثله من ثقل ديني تاريخي ومعاصر لا يفوقه إلا ثقل الحرمين الشريفين، أدى هذا إلى تضافر القوى الخيرة من أهل الإيمان، ودعاة الأخلاق الرفيعة، وعلماء الإسلام ودعاته، وكهنة الكنيسة وأبنائها.. تضافرت هذه القوى جميعا لبيان مواضع الاعتراض والرفض من مشروع الوثيقة التي ناقشها المؤتمر.

وبرزت داخل الجلسات- منذ اللحظة الأولى- عوامل جامعة بين دول وتجمعات وجمعيات أهلية، كان المظنون أنها لا تجتمع على شيء في ظل أوضاعها المحلية، والأوضاع العالمية الحاضرة.

وبرز في المناقشات منذ الجلسة الأولى حتى الجلسة الأخيرة استمساك حقيقي بقيم الإسلام ومثله، وتراث الأحيان والأخلاق عبر عنه رؤساء وزارات ووزراء ورؤساء وفود من دول شتى، وأدى في النهاية إلى تعديلات جوهرية، في مشروع الوثيقة التي أصبحت صيغتها الختامية أقرب كثيرا من أصلها إلى تحقيق المصالح، وأحرص كثيرا من أصلها على مراعاة الكرامة الإنسانية.

واستطاعت الوفود الإسلامية والعربية أن تعبر للعالم أجمع عن عدم سماح شعوبها باتخاذ المؤتمر ذريعة للاعتراف "ببعض السلوكيات اللا أخلاقية والتحركات الموهنة للقيم الدينية والمعنوية"، وأن تنبه إلى ضرورة انسجام أي تخطيط للإنسان "مع فطرته وموقعه من الكون، وألا يغفل العقائد الدينية والقيم الخلقية" (من ورقة آية الله محمد على تسخيري رئيس وفد إيران إلى المؤتمر).

واكتشفت القوى العربية والإسلامية التي اهتمت بالمؤتمر وشاركت في أعماله أن هناك "غربا" آخر غير الغرب الذي لا يفتأ العرب والمسلمون يهاجمونه ويحفلونه أوزار تخلفهم في مختلف المجالات، "فهناك الغرب الذي جاء إلى القاهرة معارضا للإجهاض والإباحية ومدافعا عن الأسرة والقيم والدين والثقافة. ومن واجبات الوقت وأولويات الحركة السعي إلى تحالف بين كل المؤمنين بالمطلق والدين والإنسان في مواجهة تيار المادية الصراعية والعلمانية الكاسح، وأنه في ظل التمايز الذي حدث (في المؤتمر) لا بد من إدراك جوهر الصراع على أنه ليس بين الإسلام والغرب المسيحي، بل بين الإسلام والمسيحية من ناحية ومعهما كل أصحاب المبادئ والأخلاق المطلقة، وبين النسبية المتطرفة والعلمانية المطلقة والمادية اللا إنسانية".

لذلك، ولغيره مما يضيق المقام عن ذكره، قلت: لا تحسبوه شرا لكم، بل هو خير لكم.

 

محمد سليم العوا

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات