المعتقدات الشعبية الشائعة حول أسباب الأمراض وتعليلها

معرفة المعتقدات الشعبية الشائعة حول أسباب الأمراض تستحق الاهتمام ، وذلك لما لهذه المعتقدات من تأثير على سلوك الناس وحياتهم الاجتماعية.

لا شك أن الطب من أقدم العلوم إن لم يكن أقدمها على الإطلاق. إذ إن الله على ما يظهر قد خلق الضعف والمرض منذ خلق القوة والصحة ، وها هو أبو الأنبياء يقول : " وإذا مرضت فهو يشفين ".

ولقد ذهب المتطببون في القديم في تعليل المرض والظواهر المرضية مذاهب شتى مبنية في معظم الأحيان على الحدس والظن والتخمين ، لا على العلم والتجربة واليقين . ولم يستطع العالم البدء بمعرفة أسباب المرض الحقيقية إلا من حوالي قرنين فقط من عمره الطويل ، وذلك بعد تطور العلوم الطبية ، وتطور العلوم الأخرى المساعدة لها ، كعلم البصريات الذي أدى إلى اكتشاف المجاهر وبالتالي إلى اكتشاف الجراثيم الممرضة للإنسان ، وعلم الكيمياء بفروعه المختلفة الذي أدى إلى اكتشاف أسباب أمراض الاستقلابية التي أصبحت تعد بالمئات ، وغيرها من علوم الكهرباء والضوء والأشعة والوراثة والعلوم الأخرى الكثيرة التي ساعدت في فهم أسباب المرض بشكل أصح وأدق .

البيئة والمرض

هذا بالنسبة لأهل المهنة . أما بالنسبة لعامة الناس ، فالأمر جد مختلف . فهم يذهبون في تعليل حدوث الأمراض في أكثر الأحيان إلى ما توارثوه من معلومات وما يتناقله الناس دون طلب أي دليل أو توثيق علمي . فكل منا لا بد أن يكون قد سمع الناس يعللون الأمراض ، أو ينسبون حدوثها غلى التقلبات الجوية وما يصاحبها من تغيرات مفاجئة بدرجات الحرارة والرطوبة واتجاهات الرياح وشدتها ، أو لتناول مآكل معينة ، أو للجمع ما بين أطعمة متنافرة ، أو بالتعرض لنوع معين من الانفعالات النفسية الشديدة كالرعب أو الخوف أو الهم أو القلق وغير ذلك كثير . ومهما طالت ممارسة الطبيب فلا بد أن يسمع بين الحين والآخر تعليلات جديدة طريفة .

ولا شك أن لك بيئة معتقداتها الخاصة بها وسنتعرض لبعض المظاهر المرضية عند الوليد من وجهة نظر عامة الناس ، وسنذكر وجهة النظر العلمية كما يراها الأطباء اليوم ، وسنعلق قليلا على نشأتها وتأثيراتها الاجتماعية راجين أن يكون في ذلك شيء من المتعة والفائدة .

الوحمات

الوحمة - أو الشهوة - هي ما يظهر على جلد الوليد من بقع صباغية - مشعرة أو مشعرة - وتظاهرات وعائية دموية غير طبيعية ( توسعات أو كهوف وعائية ) . وهي ترجمة للكلمة الغربية Nevus التي تعني العلامة الولادية ، لأن الطفل يعلم بها - وإن كان الكثير من أنواعها يزول مع الزمن في واقع الحال - .

إن هذه التسمية الفنية العربية أخذت عن العامية . وهي تدل على ما يعتقده الناس في سبب نشأتها . فالوحمة مشتقة من الوحام الذي ينتاب الحامل ، والذي يؤدي إلى تغير في بعض أمزجتها ، وخاصة فيما يتعلق بالطعام والشراب كما هو معروف . فإما أن تزداد الشهية إلى بعض الأصناف ، وإما أن تكره وتضرر من أصناف أخرى . وتقول العامة بوجوب تلبية شهوة الحامل وإلا ظهرت على جسم الوليد الوحمة التي تعكس بشكلها الطبيعي المادة المشتهاة . والعادة أن ينظر الناس إلى الوحمة ، فإن كانت بقعة صباغية مدورة قاتمة اللون مائل إلى السواد ، فهي تمثل البن المحمص ، والحامل اشتهت القهوة بعد أن شمت رائحتها أو رائحة تحميض البن دون أن يتسنى لها شربها . وإن كانت البقعة الصباغية مسودة قليلا وغير منتظمة فالطعام المشتهي كان لحما مشويا . وإن كانت البقعة مسودة قائمة وغير منتظمة فالطعام المشتهى كان الكبد . وهكذا قل إن كانت الوحمة فيها صفة من صفات التوت أو الفراولة.

إن الوحمات من الناحية الطبية تمثل اضطرابا موضعيا في بناء أنسجة الجلد وخلاياه - خلاياه الصباغية وعروقه الدموية وغيرها - وإن منها الذي لا قيمة له أولا خطر منه ، ولكن منها ما يكون جزءا من مرض خطير ورائي أو غير وراثي ولا بد فيها من إجراء الاستشارات والتحريات اللازمة لمعرفة طبيعتها وأسبابها ومدى خطورتها . كما هو الحال في البقع الصباغية الكبيرة مثلا.

ولكن ما منشأ هذا التعليل وما هي قيمته الاجتماعية؟

لعل أول من قال به طبيب يحب النكتة والدعابة ، أو امرأة ذكية ظريفة من قريبات أو صديقات أم الطفل ، فأخذ الناس يتناقلونه ويرددونه دون نقاش . ومن الواضح أن هذا التعليل يكرس ضرورة الاعتناء بالأم الحامل بل الإفراط في إكرامها وتدليلها لأنها تحمل في بطنها أمل المستقبل ، وهو سلاح ناجح قد تستعمله الحماة في أوقات الحاجة كما لا يخفى .

الاندفاعات الجلدية المفاجئة عند الوليد

" هل هذه هزة أو تنفيس يا دكتورة ؟ هذا هو السؤال الذي تسأله أم المرضع عادة ، عندما تأتينا حاملة وليدا في أسابيعه الأولى ، وقد ظهر على وجنتيه طفح إكزمائي على الأغلب نسميه نحن إكزيما الرضيع ، أو طفح أو اندفاعات جلدية من طبيعة أخرى.

ومعنى الهزة أو التنفيس الانفعال الشديد والغضب إثر توبيخ أو شجار أو إغاظة شديدة . والمقصود من السؤال - الذي يسأل عادة بلهجة تقرير الحقيقة وطلبا للتأكيد والموافقة - أليست هذه الآفة الجلدية ناشئة عن إرضاع الوليد من أمه بعد تعرضها للانفعال الشديد .. والتفسير المعقول لهذا الاعتقاد الشائع هو أن الإنسان عندما ينتابه الانفعال الشديد يضطرب اضطرابا شديدا كما هو معروف . وهذا الاضطراب لا بد أن ينتقل مع حليب الأم إلى الرضيع حسب زعمهم . وبما أن جسم الرضيع لا يزال غضا ضعيفا لا يستطيع تحمل مثل هذا الاضطراب ، فإن الاندفاعات الجلدية تظهر عنده نتيجة لذلك ، وكأنها تنفيس عن الكرب الذي ألم بالجسم.

ماذا يقول الطب في إكزيما الرضيع؟

إنه يقول أنها آفة تحسسية لمادة لم يأتلف الجسم معها ، آتية عن طريق جهاز الهضم أو البيئة ، ولذلك فإنها تكثر في الإرضاع الصناعي وتقل في الإرضاع الطبيعي . بل يذهب البعض إلى أن سبب الحالات المشاهدة في الإرضاع الطبيعي الوالدي هو تناول الأم المرضع لحليب الأبقار وانتقال بعض أجزاء بروتين البقر المحسسة سالمة من جهاز هضم الأم إلى دمها فحليبها . وهذا أيضا لا مجال للتفكير بأن الشدة النفسية التي قد تتعرض لها الأم تؤدي إلى ظهور مواد محسسة للرضيع ، تظهر في جسمها وتنتقل إلى حليبها .

ما منشأ هذا التعليل ؟

قد يكون أحد الأطباء المشاهير القدامى ، وقد يكون شخصا من المحيطين بالأم - ومن أهلها بالطبع - قال به كسلاح يدافع به عن الأم ، وذلك لكيلا تتعرض ثانية لانفعال من قبل الزوج أو أهله ، ولكي تبقى معززة ومكرمة مادامت ترضع كما كانت كذلك في أثناء حملها.

حليب الأم يغير من لون الطفل

جاءني أناس مرة ، يحملون وليدا في ساعاته الأولى ، لأصف له حليبا اصطناعيا لأنهم لا يريدون أن ترضعه أمه ، فتعجبت لذلك بالطبع . وبعد الاستجواب المتأني عرفت القصة التي لم تزدني إلا تعجبا ، وخاصة أني كنت جديد عهد بممارسة المهنة . خلاصة القصة أن الأم خلاسية قائمة اللون والأب أبيض أشقر . ولون بشرة الوليد أبيض يبشر بالخير ، إذ الطفل لأبيه . والخوف كل الخوف أن يصبح لون الطفل خلاسيا مسودا كأمه إن هي أخذت في إرضاعه ، كما حدث لأخيه من قبل ، حسب زعمهم غير المصدق من قبلنا بالطبع .

إن القائلين بهذه الدعوى هنا هم أهل الزوج بكل تأكيد خلافا للحالتين السابقتين.

فما هو جواب الطب الحديث؟

لا شك أن الإنسان المثقف إذا تبصر في هذا الموضوع ، عرف الجواب الصحيح . إذ أصبح من المعروف أن لون الجلد كغيره من الصفات الجسمية ينتقل بالوراثة من ساعة الإلقاح . والوراثة هي التي تحدد كمية الصباغ الأسود المسمى بالملانين Melanine الموجود في بشرة الجلد وهذا الصباغ مادي بروتينية تتولد في الخلايا الصباغية الموجودة في البشرة . وهذا كله ليس له علاقة بالحليب المتناول . بل لا توجد هناك مادة معروفة إذا تناولها الإنسان أو الوليد أدت إلى اسوداد بشرته . ولحبيبات الملانين السوداء وظيفة هامة وهي وقاية الجلد وأنسجته من إشعاعات الشمس المؤذية ، لذا كان سكان المناطق الاستوائية والحارة من السود غالبا ، بعكس المناطق الباردة . كما أن التعرض للشمس يزيد في تكون هذه المادة الصباغية . هذا بالإضافة إلى الوظيفة الجمالية العظيمة .

حليب الأم الصماء يؤدي إلى صمم الرضيع!!

هنا يحمل إلينا الوليد لوصف الحليب الصناعي له عندما تكون الأم صماء . فالأهل يظنون أن حليب الأم الصماء هو الذي يؤدي إلى صمم ابنها إن هي أرضعته .

فهل هذا صحيح أو فيه شيء من الصحة ؟

بالطبع لا .. ولو كان للحليب أن يؤثر في نقل الصفات والأمراض ، لأدى ذلك بالأحرى أن يتأثر الجنين بدم أمه الذي يتغذى منه طيلة حياته الوحمية . والحليب يصنع في الثدي من دم الأم .

ولا بد من التنويه هنا بأن الصمم وإن كان يبدو في كثير من الأحيان وراثيا ، فليس الأمر كذلك دائما . هناك نوع وراثي حقا يورث بطرق مختلفة - قاهرة ومقهورة وجنسية - لكن هناك نوعين أو صنفين آخرين قد يبدوان وراثيين وهما ليس كذلك . الأول نتيجة أمراض أو أزمات رحمية ، أي تحدث في أثناء الحياة الرحمية ، فهنا الصمم ولادي ولكنه ليس وراثيا . والثاني نتيجة أزمات للجملة العصبية في أثناء الولادة أو بعده ، بسبب خداج أو اختناق جزئي أو يرقان شديد أو ما شابه ذلك فهنا الصمم كسبي حدث في أثناء الولادة أو بعدها . وهنا قد يظن أيضا بأن الصمم وراثي مع أنه كسبي .

وهذا كله يعني أنه لا يوجد أي مبرر لمنع الوليد من الإرضاع الوالدي في حال كون أمه صماء مهما كان سبب الصمم لديها.

إن حليب الأم لا يكون مؤذيا إلا في حال إصابة الأم بإنتان يحتمل انتقال عاملة المسبب إلى حليبها ، أو تناولها لأدوية تنتقل بكثافة عالية إلى الحليب بحيث تصبح مؤذية للرضيع . وما عدا ذلك فهو غذاء وشفاء ووقاية.