سماء زرقاء وبحر من لازورد إبراهيم عبدالمجيد

سماء زرقاء وبحر من لازورد

(1)
صيد العمر

يحب الفضاء الأبيض، للسبب الذي من أجله يحبه الناس جميعا. الاتساع، وراحة النفس، وجلاء النظر. فإذا التحم الفضاء الأبيض بالسماء الزرقاء وهي خالية من السحب السود، وبالبحر اللازوردي وهو هادئ الموج، ورقت الشمس وانتشرت في البياض أشعتها الحنون، إذا تحقق ذلك، وهو غالبا ما يتحقق في الخريف والشتاء، شملته النشوة العجيبة، التي تجعله ريشة تلتحق بالأثير. لقد أعلن الحب على الإسكندرية منذ طفولته، لكنه غادرها في شبابه وراء الفتاة القاهرية التي أحبها على الشاطئ، ولم يعد إلى الإسكندرية إلا في الصيف، غير مستمتع بها، مدهوشا من قدرة أولاده الصغار، على الاستمتاع بالصخب والزحام، والتلوث الذي شمل الماء والأرض والهواء، فانفرد لنفسه بفضاء الصباح الباكر قبل أن تزدحم المدينة بأنفاس الحركة الصخابة للمصطافين الغرباء وأبناء المدينة الذين ازدادوا كثيرا. في الصباح الباكر، على الشاطئ، يستطيع أن يمسك بالفضاء الأبيض وسماء اللازورد. وهكذا عاد إلى حرفة الصيد التي هجرها منذ استقر في القاهرة.

البحر دائما، أو في معظم الأيام، يستيقظ عفيا في غبش الفجر، وهو يجلس عادة مع عدد قليل من هواة الصيد صامتين. الشمس تصعد خلفهم بتؤدة. بعد ساعة ستصعد بقوة. هو يعرف ذلك أكثر من 126 غيره. عادة يجلس كبار السن قريبا منه. رجل أو اثنان. الشباب الأكثر عددا يتباعدون. كبار السن يتحركون بصعوبة على الصخور الحشفية. أجسادهم ضامرة. سيقانهم رفيعة يتهدل لحم ربلة الساق كشيء زائد علق بالقصبة. الرجل المسن الذي تعود الجلوس جواره يرفع دائما سنارته فتخرج خالية. حتى عندما يغيب أو يختفي، يجلس جواره رجل مسن آخر يلقي بسنارته ويرفعها بلا صيد. لا تفارق الابتسامة الرجال المسنين كأنما جاءوا للهو لا للصيد. فكر مرة في المصادفة الغريبة التي تجعل كبار السن يقتربون لا جلوسهم منه. ربما لابتعاده عن سني الشباب، ربما للمشيب الذي ضرب شعره بقوة. على أي حال لم يجد تفسيرا مناسبا فاكتفى بالابتسام. لكن م ينقطع عن التفكير في إخفاق المسنين في اصطياد الأسماك في أكثر الأوقات.

"سمك صغير صعب أن يمسك بالسنارة". يقول أغلبهم وهم ينظرون إليه مبتسمين. لا يعلق، لأنه يصطاد السمك الصغير والكبير، وكذلك يفعل الشباب. يعود إلى البيت مع بداية ازدحام الشاطئ. أول ما يقابله المرآة الموضوعة في الصالة فينظر فيها تلقائيا. يبتسم لا يجد إجابة لسؤاله عن اقتراب المسنين في جلوسهم منه. أو يجدها ويتغافل عنها، لكنه لم يجد أبدا إجابة عن سبب إخفاقهم معظم الوقت في الصيد، وإصرارهم، واحدا وراء الآخر، على الصيد في الصباح الباكر. ذلك يحدث طوال إقامته الصيفية في المدينة التي أحبها قديما، ويبعث الروح في هذا الحب بخروجه الصباحي المبكر، برغم أن البحر عادة لا يكون هادئا، والأمواج لا تكون رقيقة عند الفجر، وصوتها غالبا مخيف. هل هناك موعظة ما وراء إصرار المسنين على الاقتراب منه، وإصرارهم على الصيد بلا صيد؟ هل يختزلون له الدنيا في عمل جميل؟.

(2)
الفتاة الصباحية

الفضاء الأبيض يحمله إلى طبقات من الأثير دائما. يحدث ذلك بسرعة في الصباح، وبلطف عند الظهر أيام الشتاء، برغم أن الفضاء الأبيض في الصباح يختلط بالريح الطرية وزبد الموج، وفي الظهيرة يمتزج بالصمت. لكن في الصباح يمازجه شعور آخر. أجل إذا أنت استيقظت مبكرا في الإسكندرية، ووقفت على شاطئ البحر وأحاطتك برودة الليل اللذيذة وهي تنسحب، لشعرت بالزوال الرابض في سقف العالم أكثر مما تشعر به عند الغروب، ولشعرت بأن الضوء يرمح في رأسك. لقد تم انتزاع المخ منه وصار خلاء، لنسيت أن خلفك شارعا وعمارات عالية لعل بيتك بينها، أو أن حولك عددا من الناس خلقهم الله منذ سنين مثلك ولم ينزلوا من السماء الآن!. باختصار تنقطع الصلة بينك وبين الماضي والمستقبل. تبدو كما لو أنك تستقبل الحياة لأول مرة ولا تدري كيف تنقل قدمك على أرضها.. لذلك كله تراوده الرغبة كثيرا في الهروب. الصيد وحده لا يكفي، لذلك يصطاد يوما ويأخذ سيارته يرمح بها على طريق الكورنيش معظم الأيام، وفي الصباح الباكر أيضا. تبدو السيارة وكأنها تمشي داخل الزمن. آلة زمن تتوغل به في المستقبل الخالي حتى الآن. السرعة الفائقة التي يرمح بها تجعله في المستقبل مغلفا بالهواء ورذاذ الماء ولا يرده إلى الحاضر إلا منحنيات الطريق الحادة، وفتاة وحيدة تنتظر أن يلتقطها أحد بسيارة ملاكي أو تاكسي. دائما يفاجأ بها قريبة منه فلا يستطيع الوقوف بالسيارة إلا بعيدا فلا يقف. في أكثر من صباح يقرر أن يقود السيارة على مهل حتى يلتقط الفتاة الجميلة الصغيرة، لكنه ما يكاد يتحرك بالسيارة حتى ينسى كل شيء إلا أن ينطلق بها في جنون، داخلا في أثير المستقبل الخالي، ولا يدرك الفتاة الوحيدة إلا وقد صارت خلفه بمسافة كبيرة فلا يعود إليها. إنها لا تقف في مكان واحد. تتنقل بطول الكورنيش. تتغير. لكنها دائما جميلة وهي تقطع كل هذا الفضاء الأبيض تحت السماء العريضة الزرقاء، وأمام البحر الواسع اللازوردي الذي يستيقظ عفيا، ينتهي الصيف كل عام ولا ينجح في الوقوف أمامها مرة، ويظل يطويه ا لأثير.

(3)
قيامة الماضي

ابنه يحب الصيد بجنون لكن في المساء يذهب دائما وحده، دونه، أو مع أصحابه، ويعودون قبل الفجر، ولذلك لم يفكر مرة في اصطحابه معه لأنه يكون قد نام منذ قليل. يذكر قبل زواجه أنه كان يحلم بأن يكون له ولد يخرج معه في رحلات خلوية يعلمه صيد الطير وصيد السمك، ويمرحان ويلهوان معا. ربما كان ذلك من أحد أسباب زواجه، ولعله كان السبب الرئيسي. لكن الولد منذ استطاع الخروج إلى الشارع وحده، ابتعد عنه وارتبط بأصحابه.

فاجأه الولد برغبته في الاستيقاظ مبكرا. سأله:\

- تريد أن تصطاد معي؟.

- لا سأذهب مع أصحابي. قررنا أن نغير المكان والوقت. يتحدثون عن لسان في الماء قبل كازينو الشاطئ يحوي أنواعا وكميات كبيرة من السمك حوله. سنجرب. هل تحب أن تأتي معنا؟.

خرج معهم عند الفجر، ابنه وصديقان له.. لا يعرف الخشوع من لا يستيقظ ويتطلع إلى الدنيا عند الفجر. لا يعرف الرحمة أيضا.

وضعوا أدوات الصيد في حقيبة السيارة. أدار الموتور فارتفع صوته يشق السكون النائم كان الأولاد يتبادلون الابتسام في خجل، والكلام همسا. لقد تحركوا بعض الوقت حول السيارة في انتظارهم لأوامره بالصعود إليها. سوف يرتفع صوتهم بعد قليل ويشقون جلال الصباح القادم. تحرك بالسيارة على مهل. لم يكن يليق أن يرمح بها والأولاد الصغار معه، لا بد من وقار يليق بالأب، ولا مانع أن يحدثهم عن أخطار السرعة المجنونة. في الطريق لم يقابل إلا أعداد الصيادين الهواة القليلة متفرقة في المناطق الصخرية المتباعدة. لم ير المسنين الذين يقتربون منه دائما في المكان الذي يصطاد فيه بشاطئ المندرة. لم يقابل الفتاة الوحيدة في الطريق برغم أنه يمشي بالسيارة على مهل. لعل ذلك هو السبب أيضا. الأدق هو أن وقار الأب الذي يلبسه جعله لا يرى ما كان يرى! لكن على اليسار كانت العمارات قائمة في أماكنها. مع التقدم في الطريق بدأت تظهر بعض المقاهي الساهرة. عندما اقتربوا من "الشاطئ" كانت "قهوة والي " لا تزال ممتلئة بالرواد الذين يلعبون الطاولة ويشربون الشيشة طوال الليل.

- ها هو اللسان.

قال ابنه ففكر هو في مكان يقف به بالسيارة، دخل بها إلى شارع جانبي أفضى به إلى الشارع الخلفي الموازي لشارع الكورنيش، وأمام أول بيت توقف. نزلوا من السيارة. فتح حقيبتها فأخذ الأولاد أدوات صيدهم وانطلقوا يسبقونه إلى البحر. هو لم يستطع أن يتحرك. طعم الهواء ورائحته يبعثان في روحه حنينا عريضا.

البيت الذي توقف أمامه يرتفع إلى ثلاثة طوابق. الطابق الأول المواجه له مهدم الجدران بطريقة تشي بأن صاحبه سيحوله إلى محلات. الطابقان العلويان خاليان مغلقا النوافذ. إلى اليمين باب البيت الصغير الحديدي خلفه السلم الضيق الحديدي الدائري الذي يفضي إلى أبواب الشقق من الخلف. كل شيء قديم حائل.. حتى شجرة المانجو التي لاتزال عالية كما هي لا يبدو أن ثمة ثمارا عالقة بها. شاخت الشجرة من الإهمال. هو يعرف البيت ويعرف طعم الهواء ورائحة الأرض والجدران حائلة البياض. لكن قريبا منه مقهى صغير لم يكن موجودا من قبل. يستطيع أن يجلس به. يحتاج حقا للجلوس أكثر مما يحتاج إلى شاي الصباح.

بالمقهى لم تنزل عيناه عن البيت. شرفة الدور الثاني الواسعة كما هي، وكذلك شرفة الدور الأخير حيث كان يسكن مع زملائه طلاب الأرياف. لكن الدور الثاني وشرفته هو الذي يشد عينيه أكثر. هو يعرف أن زملاءه تخرجوا معه في الجامعة منذ عشرين سنة وانتشروا في البلاد، أحيانا يلتقي واحدا منهم أو يسمع خبرا عنه. لكن لا يعرف شيئا عن سكان الدور الثاني. الفتيات الصغيرات الجميلات والنساء الضائعات اللاتي كن يعدن مع الصباح ليجلسن في الشرفة ينشرن شعورهن تحت الشمس الفضية. كان من السهل أن ينزل هو أو أي من زملائه لطلب فتاة أو امرأة من بينهن، لكنهم لم يفعلوا أبدا. والنساء أيضا لم يصعدن إليهم. كن يخرجن مع المساء ويعدن مع الصباح متعبات يجلسن تحت الشمس قليلا بعد الحمام والاغتسال ثم يدخلن إلى الغرف ويغلقن الأبواب والنوافذ. هذا شارع طيبة الضيق ذو البيوت الواطئة، لا يرتفع أكثرها على ثلاثة أو أربعة طوابق، هذا الشارع الذي كان يمتلئ بحركة الطلاب والنساء الضائعات والفتيات يبدو له خاليا ساكنا في الصباح، لا يبدو أن أحدا يسكنه الآن لا في الصيف ولا في الشتاء. لا يصدق، لكن هذا هو ما يراه كان هو وزملاؤه مثل كل الطلاب ساكني الشارع يفتحون شققهم للنساء الضائعات، لكن لا هو ولا أحد من زملائه فكر في واحدة من الدور الأسفل. كان هو أو أي من زملائه ينزل إلى الطريق ليصعد بأول من يقابلها وتقابله. وكانت نساء الدور الثاني يرينه فيبتسمن ولا يعرضن أنفسهن عليه أو على زملائه.

شرب الشاي ونهض لا ليلحق بابنه وصاحبيه لكن ليمشي قليلا فوق أرض الشارع يشرب من الهواء القديم الأليف المشبع بالرطوبة المنعشة ويترك أمواه الذكريات تشق لها قنوات في قلبه.

ارتفع حوله صخب زملائه، وضوضاء النساء والفتيات العائدات في الصباح وتصعد إليه روائح عطورهن الرخيصة وضحكاتهن المحلولة من تعب الليل. ويمشي باسما يسأل نفسه لماذا حقا قام كل منهم بدور الساكن المحترم الأعوام الأربعة التي عاشها في هذا المنزل، هو وأصحابه أو النساء الضائعات الكبيرات والصغيرات؟. وهل لو لم يقم كل منهم بهذا الدور أمام الآخر، كانت الحياة قد أخذت طريقا آخر وطعما آخر؟. !

 

إبراهيم عبدالمجيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات