عندما تتكاثر الأسر الكبيرة وتتحول إلى مجموعة من الأسر الصغيرة

منذ بداية السبعينيات، ومع دخول الأقطار العربية مرحلة تصحيح أسعار النفط وتحقيق فوائض عالية، تعرضت الأسرة العربية لتغييرات جذرية في ترتيبها وتكوينها، وهي تغييرات نتجت عن قدر التحديث الذي طرأ على المجتمع العربي ككل نتيجة لتحقيق سيولة مالية لم يسبق لها مثيل في هذه المنطقة.

في هذه السطور، سنركز على واحد من وجوه هذه التغييرات التي ظهرت بوضوح في كلتا المجموعتين من الأقطار العربية، مجموعة الأقطار المسماة بأقطار منابع النفط، والمجموعة الأخرى البعيدة نسبيا عن منابع النفط ولكنها عاشت لسنوات طويلة متأثرة بأموال النفط وفوائضه الغزيرة.

وعندما نلقي الضوء على هذا الوجه من المتغيرات فإننا نسعى إلى لفت الأنظار إليه كمحاولة للتعرف على وسائل الاحتفاظ بهذا القدر من التحديث ونتائجه ثم تطويره بحيث لا نعود مرة أخرى إلى أوضاع قديمة لم تكن تسمح لأسرة بالتبلور كوحدة مستقلة لها كيانها أو تمتلك مقومات انطلاقها.

هذا الوجه الذي نطرحه اليوم هو انشطار الأسرة الممتدة إلى مجموعة من الأسر النووية، وبعبارة بسيطة انفصال الأبناء بزواجهم عن أسر آبائهم وتكوينهم لأسر كيانها مستقل، تسكن الأسرة الجديدة والحديثة بعيدا عن أسر الآباء بحيث تحقق وحدتها ويصبح لها دخل وإنفاق مستقلان وتمارس أسلوب حياة يختلف عن ذلك الأسلوب القديم الذي ساد المجتمع العربي خلال مراحل ما قبل التحديث.

ملامح الأسرة الممتدة

كلنا يتذكر تلك الأسرة الكبيرة التي عاشت في ريف الأقطار العربية ومناطقها البدوية والتي كانت تضم أسر الأجداد وأسر الآباء ثم أسر الأبناء، كانت هذه الأسر تعيش في محيط واحد ومن مصادر مالية واحدة ثم نتعايش على إنفاق واحد، في هذه الحالات كانت تختلط القيم وتتزاوج أساليب الممارسة، وكان العامل الاقتصادي هو العامل الدافع والمكون لمثل هذه الأسرة الممتدة وخاصة في حالة عدم تنوع الأنشطة الاقتصادية الممولة لإنفاق الأفراد.

وكان الاقتصاد الزراعي أوضح النماذج والعوامل لاستمرار هذه الأسر ، وفي مراحل سيادة الاقتصاد الزراعي كانت السيادة لهذه الأسر واضحة وظاهرة.

كما أننا كنا نلاحظ أن امتداد هذا النمط من الأسر يتوقف بدرجة أو بأخرى كلما نما الحضر بحياته وأساليبه الاقتصادية المتنوعة. كلما سعينا إلى الحضر ظهرت نوعية أخرى من الأسر، وهي تلك المكونة من زوج وزوجة وأبنائهما، أي الأسرة النووية الحديثة.

ولا شك أن المجتمع العربي شهد نموا لعدد من الأسر النووية على حساب عدد الأسر الممتدة منذ أن بدأ التحديث يدخل إليه من خلال قيام الصناعة وتطور الخدمات ونمو جهاز الدولة، إلا أن الطفرة الحقيقية في التحول حدثت خلال العقدين الأخيرين: السبعيني والثمانيني.

ولا شك كذلك أن هذه الطفرة تعود في المقام الأول إلى الطفرة المالية التي صاحبت العقدين وهي الطفرة التي نطلق عليها فترة الانتعاش الاقتصادي الطويلة الناتجة عن الطفرة البترولية وما صاحبها من تحولات اقتصادية ووفرة هائلة في السيولة في القطاعين الرسمي وغير الرسمي.

حقيقة الذي حدث

أولا: في أقطار النفط حدث التطور في هذه الأقطار مع تدفق النفط، وقد لحق التطور بالحياة الاقتصادية في البلاد.

شد التطور الحادث الأفراد والجماعات إلى الأنشطة الاقتصادية المختلفة، فلم يعد الكل يعتمد على مصدر واحد للدخل، ومن هنا ومن تعدد الأنشطة، تعددت الاهتمامات والتوجهات وبدأ كل فرد يشكل مسار حياته، وبالتالي مستقبله الأسري، فنشأت الأسرة النووية المرتبطة بالتحديث وأساليب الحياة الجديدة بالنسبة لتربية الأبناء وتعليمهم وتوجيه مستقبلهم.

ساعد على ذلك الاحتكاك الثقافي الخارجي، وما صحبه من تعليم جامعي سواء في داخل الأقطار أو خارجها، فتزايد انشطار الأسرة الممتدة وتكاثرها.

ثانيا: في الأقطار غير النفطية تأثرت هذه المجموعة من الأقطار بمرحلة النفط من خلال هجرة ملايين الأيدي العاملة للعمل إلى حيث السيولة المالية، وقد شدت هذه السيولة ملايين الأفراد الريفيين الذين كانوا بالفعل يعيشون في أسر ممتدة في قراهم، يعملون مع آبائهم في الزراعة، يرتزقون منها ويتقاسمون رزقها.

الملاحظة الأساسية أن هؤلاء الأفراد الذين خرجوا من الأسر الممتدة إلى أقطار منابع النفط لم يعودوا إليها مرة أخرى، وإنما استغلوا دخولهم الجديدة في تكوين أسر مستقلة جديدة، وبذلك تم توجيه استخدام الدخول الجديدة في تطوير الأسر ككيان عائلي أكثر تطوراً.

إيجابية الخطوة

من المتوقع أن تنقسم الآراء حول هذه الخطوة التحديثية في المجتمع العربي، قد ينظر إليها الآباء والأمهات على أنها تفكك للعائلة وتلاشٍ لقيمها التي نمت عليها، وهو متوقف طبيعي من هؤلاء الآباء والأمهات الذين عاشوا عمرهم في أسر كبيرة يتولى أمرها عائلٍ يمثل محورها الاقتصادي ويرعى أمورها الصغيرة والكبيرة، ومن المتوقع أن ينظر إليها الأبناء على أنها التحرر الكامل من نسق القيم القديم الذي ساد الأعراف والتقاليد والذي كان لا يعطي الحريات الكافية لنمو شخصية الابن أو الابنة وينشئهما في إطار ضيق من العلاقات الخاصة وكذلك العامة.

الذي لا شك فيه أن تكاثر الأسرة الممتدة وانشطارها إلى أسر نووية يمثل خطوة تحديثية ليس فقط للأسرة وإنما للمجتمع ذاته، فهو تعبير عن تقدم المجتمع ذاته وتنوع نشاطاته الاقتصادية التي ترسي بقوتها وقوة تفاعلها نسقاً جديداً للقيم الملائمة للعصر الذي يحدث فيه التقدم.

تعطي هذه الخطوة التحديثية مجموعة قيم جديدة للأسرة العربية.

تأتي أولى القيم في شكل تحقيق الخصوصية للزوج والزوجة، مجرد وجودهما في إطار أو قالب منفصل وصغير يعطي لهما خصوصية في العلاقة تساعد على دعم حركتهما وإرادتهما المشتركة، لأنهما يصبحان صاحبي الأمر والقرار، وخاصة في أمور الأبناء.

ثم تساعدهما هذه الخطوة التحديثية على أن يبلورا ويشكلا اقتصاداً أسرياً حديثاً وملائما لدخليهما، تختلف اقتصادياتهما، وتحديداً في جانب إنفاقهما، عن اقتصاديات الأسرة النووية، في أن الأولى لا تمتلك مقومات محددة، تحديداً لإنفاقها، فالإنفاق الذي يقوم به ولي أمرها لا يمكن اعتباره الإنفاق الوحيد، بل يمكن أن يتعايش مع أشكال أخرى من الإنفاقات الجانبية التي تحدث هنا أو هناك أو على يد هذا الفرد أو ذاك، أما في حالة الأسرة النووية الصغيرة فإن جوانب الاقتصاديات تصبح محددة من وجهيها: الدخل ثم الإنفاق.

كما أنه من أهم نتائج تكاثر الأسرة الممتدة القديمة والكبيرة خلل الانضباط في تنشئة الأبناء، إن تربية الأبناء في إطار من وجود الآباء ثم الأجداد ثم الخالات والعمات إلى آخر أفراد السرة الممتدة تعطي الأطفال فرصة واسعة لانعدام الانضباط ثم التأرجح بين أسلوب الجد في تناول الأمور وبين نهج الآباء في تناول نفس الأمور ، في حالات الأسرة النووية يجد الأبناء أنفسهم أمام سياسة واحدة هي السياسة التي يضعها الأب والأم معا.

توجه مستقبلي

من المهم الاحتفاظ بالأسرة الصغيرة المسماة التي تلائم التحديث الذي تم خلال العقدين الماضيين، ولكن علينا، ونحن ندعم نسقها القيمي الجديد، ألا نتجاهل كل ما كان إيجابيا في نظامنا الأسري القديد من قيم التكاتف والتضامن، ولكن في إطار الفهم العصري لها.