جائزة نوبل في الأدب لعام 1994: كينزا بورو أويه والحنين إلى الماضي محمود قاسم

جائزة نوبل في الأدب لعام 1994: كينزا بورو أويه والحنين إلى الماضي

إن أهمية توزيع جائزة نوبل جغرافياً، أنها لعبت دوراً في إسقاط القليل من الضوء على آداب شعوب لم نكن ننتبه إليها لولا حصول واحد من أبنائها على الجائزة مثلما حدث في أستراليا عام 1973، في مصر عام 1988، في الدول الأسكندنافية التي حصلت على الجائزة العديد من المرات وأخيراً في اليابان التي عادت إليها الجائزة للمرة الثانية.

عندما أعلن عن فوز "كينزا بورو أويه" في مساء الثالث عشر من أكتوبر الماضي، بدا الاسم مجهولاً، وظهر وجهه الذي أذاعت صورته بعض المحطات الفضائية غير مألوف. وقد دفع هذا بي للبحث عنه في كل ما كتب عن الأدب الياباني المعاصر، فاكتشفت أن هناك جيلا كبير العدد كثير العطاء، يمثل فيه "أويه" وريقة من شجرة ضخمة، أكثر هؤلاء متشابهو الأسماء، تلك الأسماء الصعبة النطق والتي لها ترتيب خاص في التلفظ بها، تختلف تماماً عن مثيلتها في الغرب. فاسم "أويه" على سبيل المثال يكتب "أويه كانزا بورو" باعتبار أن لقب العائلة يسبق اسم الشخص. وبمراجعة الحركة الأدبية اليابانية، التي ألقت عليها جائزة نوبل الأخيرة الضوء يمكن التعرف على بعض سمات هذا الجيل الذي ينتهي إليه الكاتب المولود في قرية "أوز" في جزيرة شيكوكو الواقعة جنوب غرب الجزر اليابانية في 31 يناير عام 1935، من هذه السمات مثلاً:

- أبناء هذا الجيل الذين يسبقونه في المولد، أو جاءوا بعده بسنوات قليلة يمكن تسميتهم بجيل الحرب، فقد شهدت طفولتهم وقائع الحرب، وذهب الكثير من الآباء خارج الجزر من أجل الاشتراك في العمليات العسكرية. وبرغم أن الحرب! تقع فوق ارض اليابان فإن قنابل نجازاكي وهيروشيما قد جاء صداها على جميع اليابانيين. سواء من ناحية الدمار الذي حدث عقب إلقاء تلك القنابل، أو آثارها الوراثية، ولذا، فقد وجد الأطفال أنفسهم يشاركون في عمليات التعمير لفترة طويلة، كما شاهدوا الاحتلال العسكري الأمريكي لبلادهم، والوصاية الدولية عليهم. وكان لا بد لهذا هن أن ينعكس على كتاباتهم. ولعل أبرز مثال على هذا هو الكاتب أكيوكى نوساكا (مولود عام 1930) الذي فقد والديه قبل الحرب، ثم هات والد 51 بالتبني في الرب نفسها من أثر إلقاء القنابل على "كوبو". وعاش حياته متشرداً وبدت تجربته المريرة في روايته "عصابة الأقذار" عام 1968.

- كما أن أبناء هذا الجيل يمثلون ما يسمى بجيل الغابات في مواجهة التقنيات حيث تربى الكثير من أبنائه في أحضان الطبيعة والغابات. وصنعوا ما يسمى بأدب الريف، الذي يعتبر (أويه، من أعمدته. وقد وقع هؤلاء الأدباء في صدام مروع مع التطور السريع، والهائل للتقنيات، فلم يستطع أغلبه م التعامل مع هذه السرعة وبرغم أنهم قد عاشوا في مبان تحرسها تلك التقنيات، فإن إبداع أغلبهم قد وصف الطبيعة والحياة اليابانية الريفية، ولعل في روايات كاواباتا، وميشيما (وهما من جيل سابق على أويه) خير دليل على هذا، ثم هناك شيشيرو فوكازاوا مؤلف رواية "أنشودة ناراياما"

ولعل في هذا تفسيرا واضحا لعذر بروز أديب ياباني يهتم بالخيال العلمي، مثلما حدث في الكثير من الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، حيث تعامل الأدباء اليابانيون مع العلم باعتبار أنه أفسد الكثير من الثقافة التقليدية.

- كان هناك اتجاه واضح من أبناء هذا الجيل للاتصال بالثقافة الأوربية، خاصة الفرنسية، كنوع من مقاطعة الثقافة الأمريكية. وقد أكد ذلك العدد الخاص عن الرواية اليابانية الحديثة من مجلة "Lire" الصادر في يناير 1989. فتحت عنوان "هؤلاء اليابانيون مجانين بفرنسا"، تم إلقاء الأضواء على أشهر الأدباء الذين تأثروا بفرنسا بشكل وأضح في أدبهم، ودراستهم، ومنهم فوساكا أكيوكى، وشينوده كيوشيرو، وايندا ندا، وأيضا كينزا بورو أويه الذي أعد رسالة ماجستير عن "التخيل في أدب سارتر" عام 1959.

وبرغم هذا، فإن الأمريكيين هم أول من ترجم هذه الآداب وتبعهم الفرنسيون أنفسهـم، ومن خلال هذه الروايات المترجمة باللغتين الإنجليزية والفرنسية تعرفنا على كاواباتا، و ميشيما، و اينوه، وتانيزاكى، وأيضا "أويه" قبل حصوله على الجائزة.

الفتى الذي وصل متأخراً

ولأنه لا يمكن فصل إبداع "أويه" عن بيئته، وعن إبداع جيله، فقد آثرنا هذه المقدمة قبل التعرف على الكاتب، أن نعرف موضعه من خريطة الأدب الياباني، خاصة في القرن العشرين، فهناك "ثلاثة أجيال يمثل الجيل الأول ريونسوك أكوتاجوا (1892- 1927) مؤلف رواية "راشومون" الشهيرة وفيميكو هياشي مؤلف رواية "وقائع تشردي " والذي عاش بين عامي 1953- 1951، أما أشهر أبناء الجيل الثاني وأكثرهم أهمية فهو كوبوآبى المولود عام 1924، وياسوشى أينوه، وماتسوموتو. والغريب أن أكثر الأدباء اليابانيين لمعاصرين من هذا الجيل من مواليد طوكيو.

أما الجيل الثالث فقد لمع فيه هاروكي موركاي (المولود، عام 1949) وآمى تان (1965). وهناك سمة جمعت كل هذه الأجيال، هي أن مبدعيها قد نشروا أعمالهم الأولى في سن مبكرة. ومنهم بالطبع كينزا بورو أويه، والذي اعتبر أديب جامعة طوكيو في منتصف الخمسينيات. وبرغم أن الشاب قد انتقل إلى المدينة ليلحق بالجامعة، فإن حياة الريف القادم منه ظلت كامنة في داخله، حيث إنه سليل أسرة ظلت تعمل في الغابات طوال خمسة قرون كاملة. وليس صحيحاً أن هذه الأسرة تنتمي إلى الساموراي. فمن المعروف أن الساموراى هم الأشخاص الذين يتم استئجارهم للقتل.

ولقد درس أويه الأدب الفرنسي في الجامعة في الفترة بين عامي 1954 و 1959. وفي هذه الفترة لم ينقطع عن تأليف المسرحيات المخصصة للطلاب. كما لم ينقطع عن قراءة أعمال "جان بول سارتر". وقد خصص رسالته الجامعية عن "التخيل في روايات سارتر"، ونشر قصته "عمل غريب " عام 1957. وفي عام 1958 صدرت له رواية قصيرة تحت عنوان "كبرياء الموتى". وفي نفس السنة فاز بجائزة تحمل اسم الأديب الياباني "أكوتاجاوا" عن قصته "صيد الدواجن" كما تتابعت قصصه مثل "عالمنا" عام 1959، والتي ما لبثت أن تحولت إلى فيلم سينمائي أخرجه في نفس السنة كوريوشي كورهانا. وفي عام 1960 سافر لأول مرة في حياته خارج أرض اليابان، وكانت هذه الزيارة موجهة إلى الصين الشعبية. وتحولت أقصوصة "التلميذ المزيف " المنشورة في كتابه "لحظة الاختبار الكاذب " إلى فيلم من إخراج يا سوزو موسومورا.

وتعتبر السنوات الأولى من الستينيات هي الأكثر غزارة في حياة الكاتب. ففي عام 1962 نشر "الفتى الذي وصل متأخراً" وفي العام التالي نشر "الرجل الفاسق". وفيا نفس السنة ولد ابنه المعاق هيكاري، وقد أثرت هذه الولادة كثيراً في الكاتب الذي اعتبر أن ما أصاب الابن بمثابة أحد آثار التلوث النووي الذي أصاب أبناء جيله، وكان ذلك الحدث البشع في حياته سببا لتحوله إلى النضال العام ضد التسلح النووي.

النساء يستمعن إلى شجرة المطر

في عام 1964، كتب "أويه" روايته" أمور شخصية" حول ميلاد ابنه، فقال: "أصابتني الشجاعة وأنا أمني نفسي بأن يكون لي طفل لكن هذه الأمنية لم تلبث أن أصبحت مأساة، وفي هذه الرواية حكى الكاتب عن أحزان أب يتردد بين أن يتحمل مسئولية الابن المعاق، وبين أن يقوم بخنقه كي يريحه من العذابات التي تنتظره.

ومنذ تلك الآونة وكل أعمال الكاتب مخصصة للحديث عن هذا الابن، تطوره، وتفاعله مع الحياة. "فالشيء الأكثر أهمية في هذا العالم هو ابني هيكاري. إنه يعيش الآن في مؤسسة لرعاية المرضى العقليين. إنه يعزف على البيانو، وهذا يدفعني دوماً إلى أن أتكلم عن نفس الشيء: ماذا أفعل من أجل ابني، إنني عاجز عن فعل شيء له، في الوقت الذي نستطيع فيه أن نغزو الفضاء، ولهذا فقد كرست أدبي كي يجيب عن مثل هذه التساؤلات". وفي الستينيات راح يكتب المقالات والكتب من أجل مناهضة التسلح النووي مثل "ملاحظات على هيروشيما" 1968، و"ملاحظات على أوكيناوا" عام 1970، ونشر روايته الكبرى" لعبة القرن" عام 1967.

أما في السبعينيات فقد نشر مجموعة من الكتب، من روايات وأقاصيص طويلة ومن أبرزها " الطوفان غمر نفسي، عام 1973، و"محاكمة كلامية للمتمردين" عام 1978، وفي الثمانينيات راح يحصد الجوائز الأدبية عن إبداعه، ففاز عام 1979 بجائزة أدبية كبرى تمنحها دول الوحدة الأوربية، ونشر روايات جديدة مثل "النساء يستمعن إلى شجرة المطر" عام 1982، ثم أ كيف تقتل ضجرا) عام 984 1. وفي عام 1989 نشر ثلاثيته "قصة أعاجيب الغابة، والتي تدور حول الحنين إلى الماضي" إلى قريته "أوز".

يهمنا هنا التركيز على الرواية التي جاء ذكرها في حيثيات منحه جائزة نوبل، وقالت عنها اللجنة الخاصة بمنح الجائزة: "إنها رواية مليئة بالشاعرية تصور عالما خيالياً عن الواقع والأسطورة؟، وتكثف ابينهما في صورة غيرت موقف الإنسان في العالم المعاصر".

وقد تباينت ترجمات عنوان هذه الرواية حسب اللغة التي ترجمت إليها، ففي الولايات المتحدة عرفت تحت عنوان "البكاء الصامت". وفي فرنسا ترجمت إلى "رهان العصر". الترجمة الأنسب لها هي "رهان قرن من الزمان، لكن العنوان الأدبي للرواية حسب ترجمته من اللغة اليابانية يعني "فريق كرة القدر في التقويم الأول". والمقصود بهذا التقويم هو عام " 1860. أو ما يقال إنه عام الأجداد الذين عاشوا آخر سنوات الطبيعة، قبل أن تدخل التقنيات إلى اليابان.

ويمكن اعتبار هذه الرواية بمثابة حالة من الكوابيس، كوابيس في العلاقات، والأفكار. وبطل هذه الرواية يدعي "ميتسو". إنه يروي مجموعة من الأحداث التي شهدتها قرية يابانية، وخاصة عقب عودة أخيه "تاكاسي" الذي يصغره سناً من السفر. فقد صدم هذا الأخ المعجون بالتقنيات الحديثة بحال القرية. فوصف الطبيعة بأنها حالة من التخلف، وراى التلقائية التي يتعامل بها الناصر نوعا من البله، والخنوع الزائد على الحد.

وفي حياة الراوية ميتسو هناك نوعان من الهم. الأول يتعلق بصديقه الحميم الذي انتحر بشكل مأساوي، كما أنه مهموم بمرضى الغباء الذي أصاب ابنه الصغير، هذا المرض الذي أطلق عليه الأطباء اسم "البله المغولي"، حيث يبدو صاحبه أبله منذ لحظة ولادته، فتنحرف عيناه بشكل ملحوظ، وتتسطح جمجمته.

لذا، فإن عودة الأخ لا تعتبر بمثابة تخفيف من حدة هذه الهموم، بل هي تجسيد لها. فباعتبار أن الراوية من رجال الفكر، فإنه يتوصل إلى أن الحياة تتساوى مما تعددت النهايات. وعندما يتقابل الأخوان بعد سنوات البعاد، فإن الحديث لا يكون عن مشاريع المستقبل فقط، بل أيضاً عن الماضي، فالأخ العائد يود أن يطور القرية على طريقته، أما ميتسو فيحدث أخاه عن أسرته العريقة، التي لم تتقن شيئاً سوى فنون الزراعة، وأعمال الغابات. ويحدث ميتسو أخاه عن عام التحول في اليابان الحديثة، عام 1860.

وسرعان ما نفهم أن "تاكاشى" لا يود العودة إلى الماضي، فماضيه مظلم، لأنه قبل سفره اشترك في قمع انتفاضة قام بها سكان القرية ضد السلطات التي أرادت قطع الغابة. كما أنه اشترك في تدمير أحد محلات السوبر ماركت. لذا فهو يشعر بأنه حبيس هذا الماضي، لا يفخر بة مثلما يفعل أخوه، ولكنه يجلب له العار.

الحنين يجمعنا

لذا، فإن الأخ العائد من السفر يقرر أن يتغير، وأن يتفهم ما حدث، فيسترجع مع "ميتسو" كل الذكريات التي عاشتها القرية خلال قرن من الزمن، ويكتشفان أن اليابان قد تم مسخها بعد الحرب، مثل ذلك الابن المعتوه، وأن شعبها قد دفع الكثير ثمنا لهذه الحرب. ولذا فإن الشقيقين يقرران إعادة إحياء هذا الماضي، وأن يسمع كل منهما صداه على طريقته الخاصة. وتتحول كل الأشياء الخارجية إلى أوتار تعزف في داخل النفوس ما يجعل الإنسان يخلد إلى السكينة.

وإذا كان "أوبه" قد نشر هذه الرواية وهو في الثانية والثلاثين من العمر، فإنه بعد أن تجاوز الخمسين قد آثر أن يعيش بذكرياته في الماضي، وكتب روايات وكتباً مليئة كلها بالحنين مثل ثلاثيته "قصة أعاجيب الغابة، وكتابه الأخير "رسائل إلى سنوات الحنين" المنشور في عام 1993 وجودنا يعود إلى سنوات التقاليد الاجتماعية الراسخة في القرية اليابانية ويعلق قائلاً: "لو قمنا بتنقية روحنا، فإننا بلا شك نستطيع العودة إلى زمن العجائب التي تعرفها الغابة، والتي يحملها كل شخص منا في حياته، ونحس بها تجمعنا معاً في شيء واحد يسمى الحنين".

ويعني "أويه،- بذلك، كما يقول جيرار مودال "في جريدة ليبراسيون 14 أكتوبر 1994، أنه لا يركز فقط على قيم الماضي، بل يبحث عن وضع أسس حقيقية لثقافة قديمة كادت أن تتوه. وهو لا يعني هنا ثقافة اليابان، بل ثقافة العالم بأسره، التي يجب أن توظف نفسها من أجل درء ميكروبات التحضر الكاذب: "عندما أجد نفسي في طوكيو، فان أسرتي تعتبر هذا نزوة طفل عاق. وذات يوم أرسلت لأمي شريط كاسيت سجلت عليه موسيقى قام ابني بتأليفها فقالت لي: لقد سمعت هذه الأنغام تتردد حولي عندما كنت صغيرة. إنها موسيقى الغابة".

إنها أيضا نفس الموسيقى التي حاول الروائي كينزا بورو أويه أن يعزفها بطريقته الخاصة في سطور رواياته، وقد نجح في عزف سيمفونيات هده الروايات، فاستحق بذلك جائزة نوبل لعام 1994.

 

محمود قاسم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




كينزا بورو أويه





ياسوشي اينوه





ناجيزا أوشيما





لقطة من فيلم لإحدى روايات بورو أويه