مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة

إيقاع على أوتار الزمن
(1)

والزمن الذي أتحدث عنه هو فترة تمتد إحدى وتسعين سنة وبضعة أشهر، تبدأ في الثاني من ديسمبر 1907، وتمتد إلى اليوم.

فأنا أبواي من الناصرة (فلسطين)، ولكن والدي كان موظفاً في قسم الهندسة في الإدارة العامة لسكة حديد الحجاز التي كان مركزها دمشق، ولذلك فأنا مولود في الميدان التحتاني بدمشق في التاريخ المذكور.

كانت طفولتي حلوة هنيئة في حمى أب رءوف، وأم رءوم، وصحبة أخت وأخوين أصغر مني سنّاً.

كانت للأسرة رحلات وسيرانات في أنحاء الغوطة، الفيحاء ودمر الغناء والهامة موحية الشعر والشعراء وفرة المغناء. وإذا اكتفينا بالمدينة نفسها، فهناك (جنينة الحليب) الضاحكة التي كانت تقع عند طرف شارع حلب الآن.

وأدخلت إلى مدرسة الفرير في الميدان التحتاني، فكان أول معلمي فئة من الرهبان لا تفارقهم "الطبشة" "وهي أداة العقاب"، التي لم ينلني منها نصيب. ثم بدّلنا بيتنا، فنُقلت إلى مدرسة إنجيلية كان حصتي فيها معلمات لطيفات أنيسات. وفي هاتين المدرستين، مع عناية والدي بي، تعلمت مبادئ القراءة، الأمر الذي كان له في حياتي المبكـّرة أثر كبير.

لكن هذه الفترة من الطفولة الهنيئة، انتهت فجأة لما أعلنت الحرب العالمية الأولى ودخلت "الدولة العلية" الحرب إلى جانب ألمانيا "1914"، فقد جُنّد والدي كما جنّد الآلاف من الشباب العثمانيين، وحُشروا في مواقع مختلفة في دمشق تمهيداً لإرسالهم مع الحملة التي كان يعدها جمال باشا "الحاكم العام لبلاد الشام والقائد العام للفيلق الرابع التركي" إلى الترعة "قناة السويس". وقد أطلق عليهم اسم "السوقيات". ولكن بدل أن يُدرّبوا على القتال، حُشروا في شبه معتقلات منتظرين الأمر بـ"السَّوق".

كان أبي مع الذين حُشروا في جامع المعلقة، ولأنه كان جامعاً لم تسمح السلطات لأمي بزيارته، فكنت أقوم أنا "وأنا في الثامنة من عمري" بزيارته، مرة في الأسبوع.

في أحد الأيام، ذهبت لزيارته، فقيل لي إنه مرض ونُقل إلى المستشفى، ولكن أيّ مستشفى? لم يكن أحد يعرف. وإذن، فقد ترتّب علينا، أنا وأمي، أن نزور المستشفيات المختلفة بحثاً عنه. كنا نقوم بالزيارة متناوبين، فأخي الأصغر "جورج" كان في أوائل الثالثة من عمره، فلم يكن من الجائز أن يُترك وحيداً.

إن الذي عاينته في المستشفيات التي زرتها، والمرضى الذين شاهدتهم، وما كانوا يتألمون منه من أمراض وجروح فضلاً عن الإهمال والقذارة أمور لاتزال ماثلة في نفسي بعد مرور ما يزيد على ثمانية عقود من السنين.

في مساء أحد الأيام، عادت أمي إلى البيت ومعها كيس ألقت به إلى الأرض وقالت "نقولا أبوك مات، وهذه ثيابه".

وكان كل ما نملك يومها ليرة عثمانية ذهبية واحدة.

كان أول مَن أعاننا، إلى أن يأتي الفرج من الناصرة، غبطة البطريرك جريجوريوس حداد، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس. فقد كان خالي إيليا مطراناً لأبرشية صور وصيدا وتوابعهما التابعة للبطريركية، فكانت لنا بغبطة البطريرك صلة خاصة. "ولكن خالي المطران كان يومها غائباً في أمريكا الجنوبية". وأخيراً جاء خالي سامي من الناصرة ليحملنا إلى بلدنا الأصلي، إلا أن أمي كانت قد أصيبت بالتيفوس "من جراء زيارتها للمستشفيات"، فكانت ضعيفة، فتأجلت عودتنا بعض الوقت.

لما عدنا إلى بيت جدي لأمي في الناصرة، تعهد خالي (سامي) وخالتي (صوفيا)، وكان الاثنان يعملان في وظيفتين لهما راتب محترم، بأن يكونا عوناً لأمي، إلا أن الحظ السيئ كان بانتظارنا، فقد توفي الاثنان خلال بعض الوقت، ووقع على أمي عبء العناية بأسرة كبيرة.

(2)

انتقلنا إلى جنين (في شمال فلسطين) لأن أمي وجدت عملاً مريحاً، ولكن جابهتني، أنا شخصياً، مشكلة جديدة، كان بناء المدرسة الحكومية في جنين قد أعطي لصف ضباط الطيران الألماني (لأن جنين كان فيها مركز لهذا السلاح)، وأقفلت المدرسة، وقضيت نحو سنتين دون مدرسة، كنت، مع الكثيرين من الأولاد الذين في عمري، من أولاد الأزقّة والدوران في البساتين المحيطة بالبلدة الصغيرة، كنت قد أصبحت أستطيع القراءة (فقد أضفت في الناصرة إلى ما كنت قد تعلمته في دمشق) وأحبّها، لكن من أين الكتب؟ كانت جنين بلدة لا يتجاوز سكانها الأربعة آلاف. وفيها جميع أنواع الحوانيت - إلا ما يخص القراءة والكتابة. لكن يبدو أن الدنيا لم تتم قسوتها عليّ، فقد كان هناك جار قريب لنا عنده كتب، تكرّم علي بإعارتي ما عنده، فكان أن قرأت (ألف ليلة وليلة) و (تغريبة بني هلال) وقصة (الملك سيف بن ذي يزن) وبعض أعداد من مجلات قديمة كان يحتفظ بها.

وأخيراً في سبتمبر 1918، دخل الجيش البريطاني جنين والناصرة وسار (وفي مقابله في الجهة الشرقية من نهر الأردن، كان الجيش العربي بقيادة فيصل) إلى دمشق.

الذي يهمّني من هذا الأمر، أنه في مطلع سنة 1919، فتحت مدرسة الحكومة في جنين أبوابها ودخلنا كلنا صفوفها التي كان توزيعها نتيجة امتحان في القراءة والحساب، فكنت أنا، ابن الحادية عشرة، أجلس في الصف إلى جانب طالب في السادسة عشرة!

المهم أنه أصبحت هناك مدرسة وثمة معلمون يعلم الله ماذا كانت درجة بعضهم من التحصيل، وكنا نتعلم، ولست أكتم القارئ أنني خلال الفترة التي قضيتها في المدرسة، إلى صيف 1921، جرّبت مرتين أن أحصل على عمل لأعين أمي، لأن العمل الذي كان قد حصل لها فيه الخير، انتهى بانتهاء الحرب.

في سنة 1921 تبدلت حياتي بالكلية، فقد نجحت في امتحان الدخول لدار المعلمين الابتدائية في القدس، وبعد ثلاث سنوات، حصلت على شهادتها (وعمري تماما 16 سنة وسبعة أشهر) وأصبحت معلماً ولي عمل مضمون. وقبضت المرتّب الأول لعملي في آخر شهر سبتمبر 1924، وكان عن نصف شهر هو عملي الأول في التعليم - الذي ظللت فيه، أي في التعليم، إلى سنة 1991: معلماً في مدرسة قرية في ترشيحا (قضاء عكا) ومدرّساً في مدرسة عكا الثانوية ( 1925 - 1935) وأستاذاً في الكلية العربية في القدس (1939 - 1947) وأستاذاً في الجامعة الأمريكية في بيروت ( 1949 - 1973) وفي جامعة القديس والجامعة اللبنانية في بيروت والجامعة الأردنية في عمّان، وفي كلية اللاهوت للشرق الأدنى في بيروت (1973 - 1991).

في دار المعلمين في القدس، تعاقب على تدريسنا أكثر من عشرة مدرّسين كانوا متخرّجين من جامعات أمريكية (في الولايات المتحدة) ومن دار الفنون (في استانبول) ومن الجامعة الأمريكية في بيروت، ومن مدرسة القضاء الشرعي في القاهرة. وكانت إفادتهم لنا واستفادتنا منهم متباينة إلى درجة كبيرة. وهذا أمر طبيعي، لاسيّما أن (الدار) كانت في دور التأسيس والتنظيم.

وأشهد أنني أفدت من كل مَن كان باستطاعته أن يفيد أو ينصح أو يساعد، وأقول الآن، وأنا صادق فيما أقول، إن الكثير من صفات (الطالب) ظلت ملازمة لي طول عمري، ولذلك فقد كنت، في جميع المناصب التعليمية التي توليتها معلّماً وأستاذاً - ومن ثم باحثاً - ناجحاً.

(3)

لمّا نُقلت إلى مدرسة عكا الثانوية سنة 1925، عهد إلي بتدريس مواد لم أكن أعرفها. فكنت أعدّ في المساء الدرس أو الدروس التي سأعلمها في اليوم التالي. وشر ما في الأمر أنني كُلّفت (إجبارياً) تدريس التاريخ والجغرافيا، وأنا لم أكن أحبّ الأول، كان ميلي إلى الرياضيات أقوى، وكنت آمل أن أتمّ دراستي الجامعية في هذا الموضوع.

لكنني بعد نحو ثلاث سنوات من تدريس التاريخ، أحببت الموضوع ثم هويته ثم عشقته، ولم أندم.

لكن المشكلة كانت تعليم نفسي التاريخ، وتثقيف نفسي في نواح أخرى، فعكا لم تكن فيها يومها دكان، ولو صغيرا، لبيع الكتب، الشيء الوحيد المطبوع الذي كان يصل إلى أيدينا هو الجريدة، بما في ذلك الصحف المصرية كـ(الأهرام والمقطم والسياسة الأسبوعية وهذه لمن يطلبها خاصة). ولم تكن حالة حيفا، أقرب مدينة كبيرة إلى عكا، أفضل بكثير بالنسبة للكتب العربية. فكنت أطلب كتبي من مصر مباشرة، أما الكتب الإنجليزية، فكنت أحصل عليها من مكتبة فلسطين العلمية بالقدس.

ولكن ما الذي أفعله بالنسبة إلى الثقافة العامة إلى جانب قراءتي الكتب التاريخية؟ كانت مطبعة جامعة أوكسفورد بإنجلترا تنشر سلسلة كتب منسّقة متساوية الحجم تقريباً باسم (مكتبة البيت الجامعية) (Home University Library) وكان كل كتاب فيها يضعه أحد كبار المختصين في حقله. كانت تشمل كتباً في الاقتصاد والاجتماع وقضايا علمية وفلسفية وسياسية، ومع أن المؤلفين كانوا أصحاب اختصاص دقيق، فقد كُلّفوا أن يكتبوا للقارئ المثقف لا للمتخصص. وأشهد أنهم - جميعهم - نجحوا في ذلك.

كان أن اهتديت بالمصادفة إلى إعلان عن هذه المكتبة، فطلبت ثلاثة مما أصدرته، وأخذت بقراءتها، ولم يكن الأمر هيّناً عليّ، فمعرفتي باللغة الإنجليزية كانت محدودة، لكنني أعجبت بها، ولما تركت عكا سنة 1935 كان قد توافر لي نحو مائة وخمسين من هذه الكتب، لعلني قرأت منها القسم الأكبر، وكانت عشرة مجلدات تنتظر دورها الذي لم يأت، فقد تبدّلت الأمور.

وكنت أجاري ما يصدر من مصر ولبنان من كتب وصحافة رصينة. فالمقتطف والهلال كانا رفيقي منذ أن دخلت دار المعلمين. ولن أثقل على القارئ فأعدد حتى أسماء المؤلفين الذين قرأت لهم، لكن يكفي أن أقول إن هذه الأيام شهدت (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبدالرزاق وفي (الشعر الجاهلي) لطه حسين و (مستقبل الثقافة في مصر) له أيضاً.

ومما كان له في نفسي أثر كبير جريدة (السياسة الأسبوعية) التي كان رئيس تحريرها محمد حسين هيكل، فقد نشرت خلال السنوات التي ظهرت فيها، والتي قرأتها كلها، مقالات لرجال العلم والفكر والأدب في مصر، وكانت نافذة المشرق العربي على الفكر الأوربي - الغربي - المعاصر.

لكن الأمر الذي كان يقض مضجعي في تلك السنوات أنني كنت أقرأ وحيداً، وأفكر وحيداً، وأستشف الأمور وحيداً، فلا الزملاء يقرأون ليناقشوا، ولا هم مستعدون حتى للسماع.

(4)

لما استقر في نفسي حبّ التاريخ، بدأت به من أولّه، فكانت مكتبتي فيها نحو أربعة أخماسها في تاريخ الشرق القديم - من العصور الحجرية حتى نهاية الإمبراطورية الرومانية - مع التركيز على الحضارات الأولى وتنقلها وانتشارها أسطورياً وتجارياً ورحلة. وكم نعمت بذلك.

واهتممت إلى جانب ذلك بالآثار، فزرت، أثناء عملي في عكا ( 1925 - 1935)، معظم الأماكن التي تمّ فيها حفر أو كان الحفر قائماً فيها، في فلسطين ولبنان. وكانت تجربتي مفيدة جداً، ففي سنة 1925 زرت مع درويش المقدادي، جبيل، وكان الأستاذ مونته الفرنسي قد بدأ الحفر هناك، وبدل أن نقف وننظر إلى الآثار، أخذ مونته نفسه يقودنا من مكان إلى آخر ويشرح لنا ما عثر عليه ودلالته، على الأقل حتى يثبت غير ذلك على ما قال. ومثل ذلك حدث لي في بيسان (فلسطين). إذ زرتها لما كان آثاريون من جامعة بنسلفانيا يقومون بالحفر هناك، فاستضافوني ليلة وتحدّثوا إليّ عن أعمالهم وعمل مَن سبقهم.

في سنة 1930 زرت تل مجدو (تل المتسلم) الواقع بين حيفا وجنين، أهمية هذا التل تعود إلى أنه كان أحد المواقع الحصينة للدفاع عن مرج ابن عامر أمام مهاجميه، سواء جاءوا من الشمال أو الجنوب، في سنة 1457 ق.م حدثت فيه معركة كبيرة بين فرعون مصر تحتُمس الثالث والأمراء الشاميين الذين اجتمعوا هناك لصدّ الفرعون المهاجم، لكن هذا انتصر عليهم، وكانت النتيجة أن تابع حملته دون صعوبات تُذكر حتى بلغ حمص وحماة. كنت قد قرأت النصوص القديمة (مترجمة إلى الإنجليزية) عن المعركة، لكنني أردت أن أتعرّف إلى أرض المعركة، فذهبت إلى المكان وصرفت يومين في قرية تل المتسلم، ودرت بالمكان من جهاته المختلفة، وكانت بعثة المعهد الشرقي في شيكاغو تقوم بأعمال التنقيب هناك، فزرت المكان وتحدثت إلى القائمين بالعمل، وقرأت تقريراً عن أعمالهم، ثم سرت من مجدو عبر وادي عارا (باتجاه غربي جنوبي) إلى الساحل الفلسطيني لأتأكد من الطريق الذي عبره المصريون في طريقهم إلى القلعة الحصينة (بحيث فاجأوا الأمراء الشاميين).

عندئذ، كتبت مقالاً في الموضوع نشر في المقتطف سنة 1930، يومها حسبت نفسي (أنني أصبحت مؤرخاً تحت التدريب) - والذي ينقصني هو التدريب الدقيق! هل إلى ذلك من سبيل?

كنت قد عرفت القدس ودمشق وحلب وبيروت، كانت هذه بالنسبة لي أمراً مهماً بعد الناصرة وجنين وعكا، لكن في سنتي 1933 و 1934 زرت القاهرة.

عندها تعرفت إلى المدينة بمعناها العمراني والاجتماعي والفني والمتحفي والمؤسسات العلمية والثقافية، القاهرة فتحت لي آفاقاً واسعة بعيدة، لا يتسع المقام لذكر كل ما خبرته في تينك الزيارتين. أود قبل كل شيء أن أقول إنني لأول مرة أدخل مدينة عدد سكانها كان يزيد قليلاً على المليون (وسكان فلسطين جميعهم حسب إحصاء 1932 كانوا دون المليون). الحركة - التنقل - الأسواق - شارع الفن عماد الدين - المسارح المتنوعة - المطاعم الأنيقة. زرت كلية الآداب في جامعة القاهرة (كان اسمها يومها جامعة فؤاد). حضرت محاضرة للشيخ مصطفى عبدالرزاق. شهدت مناقشة رسالة ماجستير في الأدب العربي كان أحد الفاحصين فيها طه حسين، زرت المتحف المصري، وكانت آثار قبر توت عنخ أمون الذهبية اللمّاعة قد نقلت إليه ورتبت فيه. زرت المتحف الإسلامي ودار الكتب المصرية، تسلقت إلى قمة هرم خوفو في الجيزة.

زرت (في كل زيارة) لجنة التأليف والترجمة والنشر (في شارع الكرداسة) وتعرّفت إلى رئيسها أحمد أمين وبعض أعضائها - عوض محمد عوض ومصطفى زيادة وأحمد حسن الزيات وسواهم. وتوطدت بين بعضهم وبيني صداقة ظلت قائمة حتى توفوا. زرت مجلة المقتطف ورئيس تحريرها فؤاد صروف (الذي كان قد نشر لي مقالين من قبل).

أذكر هذه الأشياء لأقول إن هاتين الزيارتين فتحتا أمامي آفاقاً جديدة كان لها تأثير كبير في نفسي - أصبحت أشعر أن حياتي اتسعت!

فضلاً عمّا ذكرت، زرت ثلاثة وثمانين مسجداً في القاهرة، وسرت جنوباً إلى الأقصر، وركبت قارباً في النيل.

هل استطعت أن أنقل إلى القارئ الانطباع الذي أفدته من هذه الزيارة! لا أظن، لكن لعلي لفتّ نظره إلى ذلك.

(5)

كنت طموحاً، وكنت دوماً أتأمل، (ولعلي كنت أحلم)، بأن تُتاح لي فرصة للدراسة الجامعية، جرّبت غير مرة، ولكن كانت ثمة ظروف تحول دون تحقيق هذا الأمل!

وأخيراً، تحقق حلمي، ففي وقت لم أكن أنتظره، دعاني نائب مدير المعارف (فارل) إلى مكتبه في القدس وعرض عليّ بعثة لدراسة التاريخ القديم في جامعة لندن، قبلت طبعاً.

وفي خريف سنة 1935 وجدتني أبحر من بورسعيد إلى إنجلترا للالتحاق بكلية الجامعة (جامعة لندن).

قضيت أربع سنوات متتالية في أوربا، كانت أطول مدة، بطبيعة الحال، في لندن. لكنني درست نصف سنة في جامعة ميونخ بألمانيا، وكان علي، أثناء دراستي للتاريخ الكلاسيكي، أن أتعلم اليونانية واللاتينية، فضلاً عن أن قانون الجامعة كان يقضي يومهاً على الطالب أن يتمكن من القراءة في لغتين أوربيتين (سوى الإنجليزية)، فاخترت الألمانية والفرنسية القديمة (لقربها من اللاتينية)، وخرجت بعد ذلك بشهادة البكالوريوس (الليسانس) وأنا في سن الثانية والثلاثين (1939).

لن أحدّث القارئ عن هذه السنوات الأربع، لكنني لابد أن أشير إلى بضعة أمور، ولأسرع إلى القول بأنني لم أصب بصدمة ثقافية - لعلني كنت قد هيأت نفسي لذلك من قبل، لكنني أصبت بصدمة اجتماعية، بعد نحو شهر من وصولي إلى لندن والتحاقي بالجامعة، وكنت أعدّ نفسي لامتحان الدخول، أردت أن أستريح في إحدى الأمسيات، وكانت للسيدة التي تدير البانسيون الذي كنت أقيم فيه ابنة صبية جميلة، خطر لي أن أصطحبها إلى حفلة، وفي إحدى الأمسيات، تفردت بالأم، وسألتها فيما إذا كانت تسمح لجين بأن ترافقني إلى حفلة? نظرت إليّ السيدة مستغربة وقالت لي: (لماذا تسألني، اسأل جين!).

هذا ما حدث لشاب قضى عشر سنوات من شبابه في عكا، المدينة الصغيرة المحافظة، ثم يجد نفسه في لندن أم الستة أو السبعة ملايين يومها!

أما الصدمة الثانية، فقد كانت سياسية، كانت بريطانيا على وشك إجراء انتخابات برلمانية لما وصلت لندن، خرجت مرّات إلى الشوارع وحضرت اجتماعات انتخابية، حيث كان ممثلو الأحزاب الثلاثة الرئيسية يعرضون برامجهم السياسية بمنتهى الحرية، إن حكومة الانتداب في فلسطين لم تعطنا حتى مجلساً تشريعياً، ولو اسمياً، على نحو ما فعلت الحكومة الفرنسية في لبنان. لذلك لم يكن لنا عهد بمثل هذا العمل، لكن الأمر المهم الذي ترك في نفسي أثراً كبيراً هو حرية الرأي التي كان البريطانيون يتمتعون بها في بلادهم ويمنعونها في المستعمرات - عفواً حتى في مناطق الانتداب.

عدت إلى فلسطين صيف 1939 قبل أن تبدأ الحرب العالمية الثانية ببضعة أسابيع، وخلال السنوات الثماني التالية، درّست التاريخ القديم وتاريخ العرب في الكلية العربية والكلية الرشيدية. واهتممت بالبحث العلمي، وصدر لي أول كتاب سنة 1943 وعنوانه (روّاد الشرق العربي في العصور الوسطى).

في هذه السنوات، كانت تجربتي غنية جداً، فبعض ما أفدته في غربتي جرّبت أن أنقله، تعليماً ومحاضرات وكتابة، إلى طلابي وقرّائي.

في سنة 1947، ذهبت إلى جامعة لندن ثانية للإعداد للدكتوراه، كان اهتمامي قد انتقل من التاريخ الكلاسيكي إلى التاريخ الإسلامي، وكنت شديدة العناية بقراءة كتب العرب القديمة لا في التاريخ فحسب، بل في الجغرافيا والأدب وما يشبه السياسة، ولأنني كنت قد تدرّبت من قبل، فقد كانت دراساتي وبحوثي تتسم بالكثير من الدقة، وفي هذه الفترة، كتبت مقالات في المقتطف والثقافة وسواهما تناولت فيها نواحي معينة من تاريخ العرب.

قضيت في لندن سنتين (1947-1949)، كتبت رسالتي عن (سوريا في العصر المملوكي الأول) منفرداً دون أي إشراف، فالمشرف الذي عُين لي لم يقرأ منها حرفاً واحداً، وخلال السنتين، لقيني أربع مرات فقط، لكن في سنة 1950 قدّمت الرسالة ونلت الشهادة، أثناء هذه الإقامة في لندن، كانت تصحبني أسرتي الصغيرة مرغريت زوجتي وابني رائد.

في سنة 1949، كان الجزء الذي أنا ابنه من فلسطين قيد الاحتلال الصهيوني، ولكن كان من حسن حظي أن التحقت سنتها بالجامعة الأمريكية في بيروت، وظللت أدرس فيها حتى سنة 1973، بعد ذلك، عملت في معاهد وجامعات أشرت إليها من قبل، وأنا الآن في الثانية والتسعين من عمري، ومازلت أكتب وأحاضر في الموضوع الذي عشقته شابّاً، وظل عشقه جزءاً أساسياً من حياتي الفكرية.

(6)

لعله يترتب عليّ في نهاية هذا الحديث، أن أسوق إلى القرّاء بضعة أمور تتعلق بنظرتي إلى التاريخ.

يحشر الكثيرون من مؤرخينا أنفسهم في فترة معينة من التاريخ، ويصرّون على أنهم اختصاصيون في هذا الموضوع أو الفترة. هذا أمر صحيح، لكن أرى أن المؤرخ الحقيقي يجب أن يكون له اطلاع أساسي (ليس من الضروري أن يكون تخصصياً) عـلـى مجـرى التاريخ العام كي يستطيع أن يضع فترته في مكانها الصحيح.

تعلمت من خبرتي الطويلة والمتنوعة الاتجاهات، أن التاريخ لا يمكن أن يفهم إذا اقتصر المتخصص فيه عليه فقط. الأرض جزء من التاريخ، السهول بخصبها، والسهوب بتقلّبها، والصحارى بجفافها، يجب أن تدرك بكثير من العناية والدقة كي يفهم التاريخ. الأدب بجدّه وهزله، والشعر بالجزل منه، والضعيف جزء من التاريخ. لايزال البعض منا يحسب أن التاريخ معارك، فاصلة أو غير ذلك، لذلك ينظر إلى أحداث الزمان من خلالها، أحسب أن المؤرخ الصحيح، حتى الذي يؤرخ للشئون العسكرية أصلاً، يجب أن يتعرّف إلى جو المعركة الخارجي كي يفهم الأمر على علاّته.

تعلّمنا وعلّمنا، فيما يصر البعض على تسميته بالمنهجية التاريخية (وكم أسيء إلى هذه الكلمة)، اننا يجب أن نعنى بالوثائق، فالوثيقة هي أساس، لكنني أرجو الإخوان العاملين في حقل التاريخ أن ينظروا إلى الوثيقة نظرة دقيقة، إن ما دوّنه فراعنة مصر وملوك أرض الرافدين وأمراء بلاد الشام وأباطرة الرومان على جدر المعابد وعلى الصخور القائمة على الطرق التجارية وعلى الأعمدة التي زيّنت الميادين هو ما تم لهؤلاء من النصر. لم يذكر أيّ منهم أنه كُسر في معركة، أو أنه خسر في موقعة، لذلك يجب أن تؤخذ مثل هذه الوقائق بعين الاعتبار، وهذا الأمر لا يقتصر على مثل هذه المدوّنات، بل يشمل حتى كتب التاريخ، لنذكر أن بعض كتب التاريخ العربي القديمة، وهي مصادرنا، كتبت تحت تأثير بلاط السلاطين، لذلك يجب أن نكون حذرين في استعمالها والاعتماد عليها، فضلاً عن ذلك، فإن الأرقام التي ترد في الكثير منها فيها مبالغات ما أنزل الله بها من سلطان.

ولعل أشد الأمور خطراً على البحث التاريخي هو الالتصاق بمدرسة أو فلسفة معينة، ذات إيديولوجية محددة، عندها يصبح تفسيرنا للتاريخ (ألْوق، أعوج)، فيما إننا نحسب أننا دقيقون منصفون، وفي هذا غش للنفس، وبالتالي غش للتاريخ.

تجربتي في كتابة التاريخ أدت بي إلى أن أنظر إلى البحث أو الموضوع الذي أتناوله نظرة مستقلة فاحصة، وأن أحاول درسه من أصله لا من وسطه (معتمداً على ما كان غيري قد توصل إليه)، عندئذ - وبعد أن أفهم المكان والناس والزمان الذي يقع فيه موضوعي - أتقدم بتقصّي ما بيدي من وثائق ومصادر، وأود أن أذكّر زملائي المؤرخين، وخاصة المتقدمين منهم، أن يعنوا بعض العناية بالآثار - زيارة (إن أمكن) وقراءة وتفهّما على الأقل، وأن يوجّهوا طلابهم إلى اهتمام بها أكبر. فالآثار بالنسبة للزائر العادي معرفة ورؤية مباشرة وثقافة، أما بالنسبة للمؤرخ فهي مصدر مهم.

وإذا نحن توقفنا بعض الشيء عند نواحي التاريخ العربي الإسلامي، تبين لنا أن ظهور الإسلام والفتوح السريعة وقيام هذه الدولة الواسعة في مدة لا تزيد على القرن الواحد، وأنها ضمت تحت جناحيها مختلف المناطق ومتنوع الأعراق، والعديد من الحضارات، والكثير من العادات الاجتماعية، كما يتضح لنا مدى ما تمّ في محيطها، وبسبب ما قام داخلها من الخلافات، من تبدّلات وتغيّرات واتصالات - إذا تذكـّرنا هذا كله، بدا لنا أن الأساليب والطرق والوسائل والسبل التي يجب أن تتّبع في درسها، لابد أن تختلف عن بعض الأساليب التي اتبعت في دراسة حضارات أخرى سابقة ولاحقة، الغوص هنا أصعب ولكن النتائج مزجية.

وليسمح لي الزملاء والقرّاء أن أزجي هنا نصحاً - ولا أقول نصيحة - وهو ألا نقف من تراثنا موقف القداسة، وأن نصرّ أننا سبقنا غيرنا بقرون في القضية الفلانية والكشف الفلاني، هذا أمـر لا ينكره علينا سوى المكابر، يجب أن ننظر إلى أنفسنا أننا قمنا بدورنا، وجاء بعدنا مَن سار على الدرب فوصل إلى محطات أخرى، إن وقوفنا عند التراث، وتقديسنا إياه قد يؤدي بنا إلى (مكانك عُدّ) - كما يقول الجند والكشافة.

اكتشفت أن في التطوّر التاريخي شيئاً أسمّيه (الجيولوجية الاجتماعية)، أي أن الشعب الذي وجد في مكان وكانت له مآت وإنجازات (مهما كان نوعها) لا تذهب مع الريح لمجرد أن يهزم هذا الشعب ويستولي شعب آخر على بلاده، إن الكثير من الإنجازات يظل في المجتمع الجديد وينتقل إليه اجتماعياً كما تنتقل شعيرات النبات من طبقة من الأرض إلى أخرى.

ليس ثمة شيء يجُبّ ما قبله، وإن كان ينتصر عليه بحد السيف أو المدفع أو سواهما، الأساطير القديمة خير مثل على ذلك، لكن هناك أموراً أخرى تنتقل بالطريقة نفسها قبل أن يأتي مَن يهتم بتدوينها - كالقوانين والأخبار.

نحن أمام مشكلات كثيرة كبيرة معقّدة صعبة بالنسبة لفهم تاريخنا، فلنعن بالصغير والكبير من الأمور، كي نكتب لأنفسنا تاريخاً حرياً بالقراءة - سواء كنا نحن القرّاء أم كانوا سوانا .

لقد وضعت حتى الآن نحو أربعين كتاباً (منها اثنان بالمشاركة) بالعربية وستة كتب بالإنجليزية، وترجمت ستة كتب عن الإنجليزية، وكتاباً عن الألمانية (بالمشاركة مع الدكتورة سلمى الخماش). وهي كلها تمت إلى التاريخ الإسلامي بصلة، ولست أدّعي أنها كلها بلغت الغاية، فقد كنت أتعلم من أخطائي باستمرار.

ومازلت أكتب في الموضوعات التاريخية، وأنا أتعلم من أخطائي حتى الآن، ولا ضير علينا أن نستمر في التطور إذا كنا نريد أن نتقدم.

 

نقولا زيادة

 
 




د. نقولا زيادة