إلي أن نلتقي

مثل حفر الفراعنة!

الحب مجانا، كالشمس والهواء.

ومهما حدث لي، أحس بنوع غريب من الحب، قد تكون فيه بعض السذاجة أو العبط، وقد أكون فيه زميلا أو صديقا، أو زوجا وأبا فيه شيء من أمومة.

لكني لاحظت في حبي أيضا طابع "الأمومة"، لأنني مثل الأم التي لا تصدق أن من أحبته يمكن أن يتغير أو يغيره الزمن. ولاحظت أن من أحبهم تحفظ ذاكرتي صورهم، في قلبي، محفورة، بارزة، أو هيئة لا تمحوها الأيام.

وأنا بطبيعتي ذاكرتي بصرية، تحفظ الوجوه، وتسجل الأماكن وتحفرها حفرا مثل حفر الفراعنة!

وقد لاحظت هذه التجربة مع إحسان عبد القدوس، وظللت أتعامل معه - على مر السنين - وصورته القديمة وهو شاب مليء بالحيوية والعنفوان، محفورة مطبوعة لا تتغير. كأنني لا أريد أن أصدق أن الأعوام تمر. وكلما قابلته بعد أن تقدمت بنا الأعوام لا أصدق أنه تغير.

وكانت عيناي دائما تنزلقان من على شعره الأبيض. كنت دائما أنظر إليه في داخلي. ويبدو أننا نتعامل مع من نحب من الداخل، من العين للقلب، وتنزلق دائما عن عيوننا تلك الصورة الخارجية التي تتغير.

وقد لاحظت ذلك مع كثيرين أحببتهم من أصدقائي وزملائي الذين عملوا معي، وتقدموا عني أو جاءوا بعدي. وهكذا كانت صور الشباب في قلبي لأحمد بهاء الدين وصلاح عبد الصبور وجمال كامل وحسن فؤاد وعبد الغني أبو العينين من جيلي. وكذلك كانت صورة الذين التحقوا بعدنا في روز اليوسف.

وقد يكون في هذا الحب شيء من أمومة أو شيء من عناد الأم: أن أي شيء لا يتغير في ابنها الصغير.

وهكذا ظللت أحفظ صورة العزيزة "نجاح عمر" يوم جاءت أول مرة إلى روز اليوسف في نهاية الخمسينيات. وهي تخطو أولى خطواتها من الجامعة إلى الصحافة، وما زلت أحفظ لها صورة تلك الفتاة الجادة المتحمسة. وما أراها إلا قادمة من عمل أو ذاهبة إلى عمل. نموذج رائع للصحفية الشابة التي ترتب كلماتها بدقة، وتجمع معلوماتها بعناية، وتعتني برأسها أكثر مما تعتني بشعرها. ورأيت صورتها لأول مرة نموذجا رائعا للعفة والشجاعة. وجذبني أيضا إليها أنني في الأصل لا أحب فقط حب الأم والأب، بل أحب الحب أيضا، وكانت علاقتها النموذجية بزميلها ثم زوجها الشاب محمود المراغي، وكانت قصة حبهما أيضا قصة نموذجية لحب عفيف انتهى إلى الزوج ولم ينته به. فأصبح حبهما مصيرا مشتركا. وأصبح كل منهما للآخر مضافا ومضافا إليه. ثم أصبح كل منهما للآخر ألف لام التعريف. وكان حبهما وعملهما ناجحا، وكان في اسمها "نجاح" شيء من طبعها.

وظلت نجاح عمر مخلصة لفكرة العدل وعاطفته، وفكرة الدفاع عن صغار الناس قبل كبارهم، وإنصاف الضعفاء، ونجحت كمحررة برلمانية، وكاتبة اجتماعية، وانتقل طموحها إلى عالم الأدب، وكان كتابها الأخير عن "طه حسين" وبقدر ما كتب عنه، أضافت جديدا عن معاركه من أجل العدل والعلم. ثم كان.. المرض فجأة. ثم الموت المفاجئ كأنه نوع من الاغتيال. والموت يحدث دائما، ولكنه حين يحدث حولنا نسميه ظاهرة، وحين يحدث بيننا يصبح وجيعة، لأن من نحبهم تبقى صورهم محفورة في قلوبنا. وأنا ذاكرتي بصرية تحفظ الوجوه في القلب، حفرا.. مثل حفر الفراعنة.