موسكو .. كل هذا الجمال كل هذا العنف محمد المخزنجي تصوير: سليمان حيدر

موسكو .. كل هذا الجمال كل هذا العنف

من الميدان الأحمر بدأت على الأقدام أولى خطوات استطلاعنا. وفي طريق المغادرة ضعنا في خضرة غابات الصنوبر اللانهائية المحيطة بموسكو حتى كادت تفوتنا الطائرة. وما بين الأحمر والأخضر تقلبت أمام نظرتنا المأخوذة ألوان من الجمال والعنف رسمتها أيادي كل الأزمنة الروسية. فكانت بهجة، وكان ألما. ولم يبق إلا الانتصار... والترقب.

في "التويوليف" بادرتني بعض ملامح موسكو قبل أن نصل إليها، ونحن بعد في الجو، على مبعدة آلاف الكيلو مترات من الحدود الروسية. فالطائرات تحمل ملامح بلدانها. ولقد بدت لي الملامح هذه المرة غريبة، مختلفة عن الملامح التي تعرفت عليهـا في طائرة توبوليف أخرى حملتني منذ عشر سنوات إلى موسكو، يوم كانت موسكو لاتزال أملا في أفق الحالمين بالعدل بين البشر. يومها بدت الطائرة فسيحة ونظيفة وحسنة الإضاءة وكان قلبي يطير في قلبها الطائر، ألم أكن ذاهبا إلى الحلم، إلى أرض دوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وجوركي وبوشكين..والعدل بين البشر؟ تغيرت الصورة، أم أن الحالم أفاق على بؤس الواقع؟.. صارت الطائرة ضيقة والإضاءة كابية والمضيفات الجميلات في زيهن الأحمر والأبيض والأزرق يشوب جمالهن انكسار موحش يكاد بزري بالجمال. قدمن الوجبة بنزق يائس واختفين، وكنت أريد الجرائد. قلن لا جرائد. فرفعت صوتي الضائق بكل ما بقي في ذاكرتي من تهكم اللغة الروسية المر. عندئذ رحن يجمعن لي ما تركه ركاب الوحلة السابقة في جيوب مقاعدهم. وكان ذلك أفضل..! إذ كانت الجرائد منوعة وبعيدة عن أحادية النظرة الرسمية القديمة.

صورة ملتبسة

وضعت كداس الجرائد في المقعد الخالي إلى جواري وأخرجت ما كنت أحمله من تقارير صحفية ورحت أكون صورة عن روسيا التي أعود إليها بعد غيبة طويلة. ويالبعد الصورة...شركة توظيف أموال اسمهـا (أم إم) تخدع ملايين الروس وتفلس ـ الكوليرا تظهر بعد سبعين عاما من الغياب في روسيا- 20 روضة أطفال في ساراتوف تغلق أبوابها لأن أهالي الأطفال فقدوا أعمالهم ـ مظاهرات تأييد للصرب والتغني بقصيدة ركيكة لرادوفان كاراديتش- مسنون ينشرون إعلانات في الجرائد تقول "إنني أموت في المنزل رقيم كذا بشارع كذا" - مشروع لبناء متجر من ستة طوابق تحت الأرض أمام الميدان الأحمر يتكلف 300 مليون دولار ـ ترام يخرج من مساره في مدينة لوجانسك فيقتل ويصيب 46 إنسانا ـ نواد ليلية بكازينو رويال والقرية الأولمبية ـ عروض بورنو (عارية) ـ معدل القتل بالأسلحة النارية في روسيا يؤيد مرة ونصفا عنه في الولايات المتحدة- عروض مسرح الباليه الكلاسيكي ـ كونسرفتوار جيرتسن ـ فتيات الجيش الأحمر سابقا (بودي جارد) للمليونيرات الجدد ـ متوسط عمر الرجال يهبط إلى 59 عاما ـ أكبر نسبة وفيات تسببها أمراض القلب والتسمم بالكحول ـ جرائم الاعتداء المسلح والاغتصاب والسرقة بالإكراه تواصل صعودها في موسكو- شركة باراد تطلب مستثمرين وزبائن لتجارة الأسلحة ـ دبابات طائرات صواريخ ومدافع رشاشة ـ معرض التحف والأثاث المصمم على أساس تخطيطات سيلفادور دالى ببيت الفنانين المركزي بموسكوـ ثمن القطعة يبدأ من 30 ألف مارك ألماني.

صورة تموج ملامحها بالاضطراب والعنف وتبعث على القل. وفي قاعة تسلم الحقائب بالمطار اختلط القلق بالضيق، إذ مكثنا ساعتين ننتظر حقائبنا وساعة أخرى حتى تجاوزنا المنفذ الجمركي الذي مازال يعمل ببيروقراطية النظام القديم، وإن بعدوانية وفظاظة أشد.وفي ممر الخروج اعتراني شعور الذاهب إلى حتفه لولا أحضان الأصدقاء التي تلقفتنا على باب المطار. ومن باب المطار إلى قلب موسكو في طرق تشق غابات الصنوبر وتسيجها أشجار الدلب والحور. كانت الخضرة داكنة وباهتة في ذلك الوقت من أغسطس، وهو وقت معلق بين تساقط أوراق الشجر وسقوط أول الثلوج. فموسكو لها مواعيد تكاد لا تخلفها ويحفظها العارفون بها، فيقولون: في 16 مارس يبدأ ذوبان الثلوج في الشوارع، وفي 12 إبريل تتكسر صفحة الجليد في نهر موسكو، وتكمل ذوبانها في 18 يوما، وفي 2 مايو تهب أول العواصف الرعدية، وفي 24 منه تظهر براعم التفاح، وفي 26 أغسطس تبدأ أوراق الخريف الملونة تساقطها عن الأغصان، وفي 2 نوفمبر يبدأ تساقط الثلوج، وفي 18 منه يتجمد نهر موسكو.

كان الوقت معلقا، واللحظة تثير في النفس مشاعر شتى تجاه موسكو الأليفة الغريبة، خليط من الشوق والريبة يحفزان على الاقتراب، والحذر..

عرائس وعساكر

مرة أخرى، أقف وسط الميدان الأحمر. وسط ساحة السبعين ألف متر المرصوصة بالحجار السود الرمادية، فينتابني الإحساس بأنى أقف على قمة قوس كبير لفرط اتساع المكان. وأكاد أفتح ذراعي امتثالا لهذا الإحساس بينما صدري يمتلئ بنسائم الصباح الموسكوفي الشفيف، في قلب قلب موسكو. نعم، فلو أنني طائر، (نسر برأس واحد لا رأسين كذلك الذي تتخذه روسيا الحالية شعارا لها وتحفره على وجه عملاتها المعدنية)، لو أنني أصعد وأصعد وأحلق عاليا وأنظر إلى أسفل لرأيت موسكو وسط، بحر من التلال الخضر وغابات الصنوبر خمس دوائر متداخلة، في مركز أصغرها مثلث ترسمه أسوار الكريملين الذي تظاهره استدارة نهر موسكو في اتجاه الجنوب، وطريق ماركس (سابقا) في اتجاه الشمال الغربي، والميدان الأحمر في اتجاه الشمال الشرقي...

الميدان الأحمر، "أجمل ميدان في العالم" كما وصف الرئيس الأمريكي رونالد ريحان عندما زار موسكو، ولعله حقا أجمل ميدان في العالم، يمتد بطول 695 مترا وبعرض 130 مترا، على يميني ـ بينما وجهي يتطلع نحو الشرق باتجاه الجنوب حيث كاتدرائية المقدس فاسيلي ـ سور الكريملين الشمالي الشرقي ذو اللون الأحمر القرميدي، وعلى يساري واجهة "الجوم " (السوق المغطى) الفيروزبة الفاتحة، وخلفي كتلة "المتحف التاريخي" الحمراء الطوبية الراسخة الساحرة. وبمجرد التفاتة صغيرة إلى اليمين أرى ضريح لينين المقدود من الجرانيت الأحمر الداكن وصخور اللابرادوريت السوداء...يلمع مصقولا كبيت للمرايا الداكنة، موصودة بوابته الإلكترونية المعمولة من الصلب الذي لا يصدأ، لكن حارسي الشرف العسكريين مازالا منتصبين شاكي السلاح عند جانبي المدخل...فقط...لم يعد هناك ذلك الطابور اللانهائي لطالبي الزيارة والراغبين في إلقاء نظرة على جثمان لينين المحنط داخل تابوت الكريستال مفرغ الهواء هـناك. ولقد سمعت أثناء وجودي في موسكو عن رجل أعمال غربي يعرض استثمار جثمان لينين سياحيا بعرضه داخل تابوته الزجاجي في جولات يطوف بها العالم. ويقابل الاقتراح بالاستنكار والامتعاض وربما الغضب...لكن طابور الزوار لم يعد هناك.عدا ذلك، يبدو الميدان الأحمر على حاله، والكريملين بأبراج أسواره السامقة والقباب الذهبية للكاتدرائيات وراءها. لم يتغير شيء باستثناء أن العلم السوفييتي الأحمر في أعلى صواريه حلى محله علم جمهورية روسيا الاتحادية ذو الألوان الثلاثة (الأبيض والسماوي والأحمر،. لكن هناك تغيرات أخرى كانت من ضروب المستحيل في الزمن السوفييتي الماضي، مباراة كرة سلة نصبت مراميها في الميدان بين فريق أمريكي وآخر روسي مع عروض احتفالية بموسيقى الجاز ورقصات صبايا "الشورتات" الساخنة وأمسيات غنائية راقصة لفرق "الروك" الروسية تسمت إحداهـا باسم "عجلات الوقت"..

فهل داست عجلات الوقت، وبعنف، روح الميدان الأحمر؟

أسأل نفسي وأنا أهم بالتطواف مستطلعا من جديد، وبلا ارتواء، جوانب الميدان الأحمر، وأحبس مشروع الإجابة لعلي أخرج بإجابة أعمق. وأتذكر أن الميدان الأحمر لم يلعب فيه أحد إلا مباراة كرة قدم بين فريقي "دينامو" و"سبارتاك" أقيمت خصيصا لأجل ستالين عام 1936، فهل ثمة تشابه بين الزمن الستاليني وزمن موسكو الآن؟!

والعيون هي الثمن

مضينا باتجاه أقصى جنوب شرق الميدان، حيث تنتصب الكتلة ـ التحفة، الملونة، المنمنمة، خارقة البهجة والتناسق- كاتدرائية المقدس فاسيلى التي لا مثيل لها في العالم، والتي تشعرك بأنك في عالم الحواديت السحرية لا عالم الواقع.

وفي الطريق توقفنا ليمر طابور عسكري من المجندين الروس الصغار في زيهم الكاكي والقمصان الروسية المميزة بالصدور المقفولة والأحزمة الجلدية العريضة فوق القمصان والأحذية عالية الرقاب. كانوا قادمين من بوابة الكريملين تحت برج "نيكولسكايا" وذاهبين نحو شارع ريزين. لعلهـم كانوا من جنود الحرس الرئاسي. ولقد ذكرني طابورهم بوجود أحد أقوي جيوش العالم في هذا البلد. بترسانة الرءوس النووية الروسية المخيفة وبنوبة الفزع التي اجتاحت الغرب إثر اكتشاف عمليات تهريب اليورانيوم والبلوتينيوم المخصب في أوربا. وبعد أن مضى الطابور مضينا لكنا توقفنا من جديد، بفرح وانتعاش هذه المرة، فقد كان هناك موكب عرس قادم من موقف السيارات وراء كاتدرائية فاسيلي، ومتجه صوب أقصى الشمال الغربي نحو حديقة ألكساندروفسكي، حيث توجد الشعلة عند قبر الجندي المجهول لصق سور الكريملين، العروس في ثوب زفافها الأبيض والعريس في بذلته الداكنة والقميص الأبيض الروسي مشغول الصدر والببيونة الحمراء، والمهنئون المرحون.. قافلة عرص تقليدية منذ الزمن السوفييتي، حيث يمضي العروسان بعد عقد القران في "قصر الزواج" إلى قبر الجندي المجهول ليضعا باقات الزهور تحت الشعار البرونزي والشعلة التي لم تنطفئ منذ قرابة نصف قرن، ذكركما الملايين الذين قضوا في حرب مريرة امتدت 1418 يوما، وانتهت في التاسع من مايو عام 1949، وبقي من آثارها ذلك الجندي المجهول، الذي حفروا على قبره "اسمك مجهول، لكن مأثرتك خالدة" وكانت الزهور تلثم جبين قبر المأثرة.

لوحنا للعروسين بمرح فبادلانا بالمثل ثم مضينا ليستلب ألبابنا جمال "كاتدرائية المقدس فاسيلى" الأخاذ.. وهناك حكاية تتعلق بجمال هذه الكاتدرائية الذي لم يتكرر، فالقيصر إيفان (الرهيب بعد أن اكتمل البناء فيها، جمع البناءين وسألهم:هل يمكنكم تكرار هذا الجمال أو إبداع أجمل منه؟ وعندما قالوا "نعم"، تولى إيفان الرهيب هياج مخيف وأمر بأن تقتلع عيون هؤلاء البناءين.وقد كان.

الجميل ...الأحمر...الدم!

عنف عجيب يظاهر الجمال. نجده أيضا على يمين كاتدرائية المقدس فاسيلي حيث يسمق جزء مهم من أسوار الكريملين، برج سياسكي (أي المنقذ) والذي غدا رمزا شهيرا لموسكو. يرجع تاريخ بنائه إلى عام 1491 وقد مخصصا لمرور القيصر والسفراء الأجانب وكان محروما المرور تحته إلا بعد خلع القبعات وأغطية الرءوس حتى لو كانت الحرارة 30 تحت الصفر كما يحدث في شتاءات موسكو القاسية. وفي هذا البرج تتوضع ساعات الكريملين الشهيرة التي يصنع دقاتها عشرة أجراس هائلة تشغل ثلاثة من طوابق البرج العشرة، ونتبع الساعة الشهيرة عند الواجهات الأربع والتي يبلغ قطر كل منها 6.12 متر وطول كل رقم على مينائهـا قرابة ثلاثة أرباع المتر بينما طول عقرب الساعات 2,17 متر، وعقرب الدقائق 3,37 متر ويبلغ وزن الساعة نفسها 25 طنا. ولما كانت معارك استيلاء الشيوعيين على الكريملين قد دمرتها فإن لينين أمر بإعادة ترميمها عام 1918. وهذه الساعة العملاقة رنين خلاب وعميق يميز دقات الساعة المذاعة من راديو موسكو في السادسة صباحا وظهرا وعند منتصف الليل. أما النجمة الياقوتية الحمراء الخماسية التي تتلألأ ليلا ونهارا فوق قمة هذا البرج الذي يرتفع 71 مترا فإن من أمر بوضعها على قمة البرج أو أحد أكثر حكام الكريملين عنفا: جوزيف ستالين عام 1935. فما أعجب هذا الافتتان بالجمال وذلك النزوع إلى العنف. وهو عنف تذكرني به ـ لدرجة الإحساس بالانقباض وأنا في قلب جمال وبهاء الميدان الأحمر وقرب تحفة "الشفاعة" ـ منصة دائرية من الحجر الأبيض يبلغ قطرها حوالي 13 مترا بنيت عام 1534 ليعتليها القيصر في الاحتفالات الدينية. وتحت هذه المنصة نفسها ظلت أحكام الإعدام تنفذ بقطع الرءوس حتى القرن 18. جمالا وعنف، حتى قصة الميدان الأحمر نفسه، وتسميته تعكس تأصل هذه الظاهرة الروسية العجيبة، فأقدم الإشارات إلى الميدان الأحمر ترجع إلى القرن 15 وكان سوقا تصب فيه الشوارع الآتية من مدن الجوار الروسية الشهيرة آنذاك: " ريازان، وسمو لنسك، وتفير" وفي القرن 17 اكتسب الميدان اسمه من معنى كلمة "كراسني" وكانت تعني آنذاك صفة "البهيج" أو "الجميل"، لكن في نهاية أكتوبر عام 1917 جرت معركة طاحنة بين البلاشفة والحرس القيصري سالت فيها الدماء غزيرة حتى غطت البلاطات الداكنة التي ترصف الميدان، فصا ر أحمر، وصارت كلمة "كراسني" تدل على اللون الأحمر. وهكذا اختلط وصف الجمال والبهجة بوصف الدم في الميدان ..الأحمر!

لقد قال المؤرخ الروسي "كارامازين": "إن من يعرف موسكو يعرف روسيا"، وأود لو أقول: إن من يعرف مركز هذه المدينة، يستدل على أحوال روسيا كلها. في مركز الدائرة الأصغر للمدينة يمتد الميدان الأحمر كبساط إنشائي ممدود على طول الجدار الجنوبي الغربي من أسوار الكريملين الذي يشكل مثلثا في قلب هذه الدائرة. من هذا المركز تمتد الشوارع كأشعة مستقيمة تقطع الطرق الدائرية الخمس حول موسكو. وقبل أن نغادر المركز لا يفوتنا أن ندخل في قلب المثلث، التاريخ الزاخر والزاهر، الكريملين الذي يعنى اسمه "القلعة". وهي قلعة عجيبة كأنها طائر الفينيق الذي ينبعث من رماد موته، لكنه في كل مرة ينبعث أجمل مما كان. فمن بناء خشبي اجتاحه حريق رهيب، إلى اجتياح مغولي مدمر، إلي قصف بمدافع نابليون، فرمي بسلاح البلاشفة، ثم قصف بطائرات هتلر؟ وينهض الكريملين صورة باذخة للجمال الروسي وللجبروت والعنف أيضا. ولكم أخذنا بتهور التصميم الإنشائي والجمالي داخل هذه "القلعة"، التي ظلت مقر أنظمة الحكم الروسي برغم تبدلات هذه الأنظمة، من القياصرة إلى البلاشفة وحتى يلتسين جبروت. . القاعة "السفردلوقية" الدائرية في بناء مجلس الوزراء بقبتها الضخمة التي يحير ارتفاعها وثباتها وبهاؤها الأذهان. والعمود المزخرف الهائل الذي تنتشر قمته كتويج زهـرة ليرفع قبابا أربعا مزخرفة وراسخة في قصر الجرانيت. وبرج النواقيس الساطع الذي يرتفع 81 مترا ويتعلق في إحدى شرفاته ناقوس يزن 65 طنا. المدفع القيصر والناقوس القيصر الذي يزن 205 طن وقد انكسرت منه قطعة صغيرة كان وزنها وحدها عشرة أطنان. قباب ذهبية. وأرضيات من اليشب الأحمر، وردهات من المرمر الصافي. إبداعات يردها المثل الروسي إلى نفاسة أيدي الصناع الروس المهرة لا إلى نفاسة المعادن التي تشكلت منها. فيقول: "الذهب ليس في الحلي بل في الأيادي التي شكلتها". ولكم اكتوت هذه الأيادي بنيران عنف من كانت تبدع بأوامرهم الأيادي. من قيصر إلى قيصر. وثمة من يقول إن الكريملين يحول كل من يحكم من جوفه إلى قيصر. وفي ظلال قلعة القياصرة جلسنا نستريح قليلا في حديقة الكساندروفسكي، ويا له من إحساس بالجبروت أن تعرف أن هناك نهرا تجري تحت هذه الحديقة محبوسا في أنابيب ضخمة هو نهر نجلينيا...نهر تحت الأقدام! فلتتح رك الأقدام.

الشيطان يزور موسكو

"اليوم وكل يوم في مسرح الفارييتيه بموسكو. . .برنامج إضافي: البروفيسور (الأجنبي) فولند في حفلات سحر شيطاني مع كشفها الكامل". . وعلى خشبة المسرح المغمورة بالأضواء في مواجهة جمهور حاشد من أهالي موسكو صعد الساحر "الأجنبي" بفراكه ذي الطول الخارق وبظهوره وهو يضع نصف قناع أسود. لكن الأغرب من هذا كله كان مساعد الساحر: شخص طويل يلبس لباسا ذا مربعات ويضع على أنفه نظارة مشققة وقط سمين أسود يمشي منتصبا على قائمتية الخلفيتين ويتحدث بصوت بشري.. وبعد مناوشات سحرية صغيرة مع الجمهور، بدأ الساحر الأجنبي عرضه المذهل إذ جعل سماء المسرح تمطر أوراقا نقدية مما أهاج الجمهور وجعل الناس يدوسون بعضهم بعضا ويتشاتمون بأقسى الألفاظ ويتعاركون بالأيادي والأرجل وهم يحشون جيوبهم بالنقود. ثم كانت ذروة العرض افتتاح شارع تجاري غربي كامل بواجهاته المتلألئة وبضائعه البراقة على المسرح . واندفع الجمهور من الصالة ليبدل كل منهم، خاصه النساء، الثياب الروسية الخشنة بأخرى من باريس ولندن ونيويورك دون دفع أية فروق في الأسعار. وكان هياج شديد، وانفعال، وتدافع وحشي لم يخفت حتى نال كل من في الصالة مبتغاه. ومع انتهاء العرض وانتشار الناس في الشوارع حانت لحظة الكشف. زال السحر فراح الناس يصرخون في الشوارع وهم يجرون عراة وأشباه عراة إذ كان هـناك من بدل كل شيء حتى جواربه وملابسه الداخلية بأخرى من محال الساحر.وكان في موسكو هياج شديد... وبلبلة....

"كان الشيطان يزور موسكو"

تلك هي صفحة موجزة من رواية الكاتب الروسي ميخائيل بولجاكوف "المعلم ومرجريتا، التي أتمها في الثلاثينيات من هذا القرن، أي قبل أكثر من خمسين عاما، وهو الكاتب العبقري الذي كان طبيبا ومسرحيا وذا قدرة فائقة على التخيل الذي يلامس حدود الاستشراف والتنبؤ. ولقد عانى كثيرا في أخريات أيامه إذ رفض رجال ستالين سفره للعلاج خارج روسيا، وكان ممنوعا من النشر حتى أنه قضى فاقدا بصره عام 1940. ولم تنشر روايته إلا بعد قرابة نصف قرن. لتكون إحدى أكثر الكتب مبيعا ومادة عرض مسرحي مستمر أحببت أن أراه مجددا بعد أولى جولاتي في موسكو. وفي بهو محطة مترو "أرباتسكايا" حيث توجد أكشاك حجز تذاكر المسرح. سألت السيدة عبر النافذة الزجاجية: أريد تذكرتين للمعلم ومرجريتا. وسمعت الإجابة خافتة إذ إن الميكروفون الصغير أمامها كان معطلا والزجاج يحتجز صوتها "7 سبتمبر"، "لكنني أريد المشاهدة اليوم أو غدا أو حتى بعد غد". وسمعت صوتها يزمجر بشتيمة وكلمات غاضبة التقطت منهـا ما معناها: "وهل تريد أن تقوم الفرقة بعمل عرض خاص لأهلك". وانفجرت في الضحك مما عل وجه السيدة السمينة مذهولا. فلقد ذكرتني خشونتها وفظاظتها بتلك الأيام التي كان يجرنا فيها عند كل مدخل ـ بينما كنا ندرس في الاتحاد السوفييتي السابق - غضب عجوز حانقة وضعوها "دوجورني" أي مناوبة تسجل أسماء الداخلين والخارجين. لقد فاتني أن المسرح الذي يعرض المعلم ومارجريتا في إجازة ولعل البائعة قالت ذلك دون أن يلتقطه سمعي. ومن ثم فجر إلحاحي حنقها الفظ. وهي فظاظة سرعان ما يمكن انقلابها إلى حنان آسر ومودة غامرة وصداقة أيضا. هكذا الروس كما عرفتهم. وكما وصفهم كثيرون ابتداء من دوستويفسكي حتى فاسيلييف، إنهم حالة خاصة من التطرف العاطفي. ولهذا كان انفجاري في الضحك. إذ تذكرت أنه كان يلزمنا عند كل مدخل أن تقضي وقتا ما في العراك والتصاريح ثم التصالح والتصافي.

بدا لي أن الشيطان يزور موسكو حتما، لكن كم ستطول الزيارة مع تركيبة نفسية هذا شأنها عند الروس الذين يسهل استدراجهـم وسرعان ما ينقلبون من المسايرة إلى الرفض الذي يبلغ حدود التدمير؟ قالت لي خشونة المرأة السمينة خلف زجاج كشك المسرح في بهو آرباتسكايا، إن زيارة الشيطان لموسكو عابرة. لكن الهوس الذي يسود موسكو أوقفني كثيرا موقف الارتياب في هذه الطمأنينة. فالشيطان لم يبذ فقط في زيارة عابرة، بل إنه كان يؤسس للمكوث. تأسيسا مجازيا وماديا أيضا. شيء يدعو للعجب. ففي جريدة تسمى "سافرتشينو سيكزيتنو" وهي إحدى صحف (التابلويد" القضائحية الروسية في العدد 63 (أغسطس 94) والصفحات 24، 25،26 ثمة تحقيق موثق بعنوان "لقد اخترنا الشيطان" ويتكلم عن جمعيات السحر الأسود واتباع الشيطان المنتشرة في روسيا حاليا وهي جمعيات يقدر عدد أعضاء بعضها بالمئات والبعض الأخر بالآلاف وتمارس طقوسا مختلفة مثل زعم الاتصال بالأرواح وإطلاق الطاقة الكامنة في جثث الموتى، والتنجيم. ويذكر التحقيق وصفا لأحد اللقاءات التي جرت في غابة بمدينة فالبورجيف التي تبعد بالقطار الكهربائي (الالكتريشكا) حوالي ساعة عن موسكو. فقد وجدوا على محطة القطار من ينتظرهم ويقودهم على مخيم داخل الغابة وهناك كان حوالي 200 إنسان سلامهم باليد اليسرى وعلى وجوههم أقنعة من جلد رقيق وبعد انتظار وصل "الجرافينو" أي زعيم المجموعة وقد كان امرأة شابة حادة الملامح ثابتة النظرات وصلت في مرسيدس سوداء وسط كوكبة من الحراس الأقوياء وأجرت أمام أتباعها من مريدي الشيطان عملية إطلاق طاقة سحرية". من جثة حديثة الوفاة اتخذت شكل دخان بدأ الخروج من الجثة خفيفا كالضباب ثم تكاثف وانتشر حتى غطى المكان.

كما يذكر التحقيق طقوس مجموعة أخرى من أتباع الشيطان ترتدي عباءات صفراء ويتبادل أفرادها في لقاءاتهم شرب أنخاب من النبيذ الأحمر المخلوط بالدم وهم يزعمون أن العالم سينتهي عام 1996. ومجموعة ثالثة وصفها التحقيق يقودها طبيب سابق مختص بأمراض القلب (وقد حصلت على زمالة - أو أخوة - الشيطان السحر الأسود الأمريكية) ومن مآثرها. ..عملية قتل شبح!. .وفي تفسير للظاهرة يقول بعض اتباع الشيطان الذين التقتهم الجريدة: "الإيمان بالشيطان يعطينا القوة على العيش. فالناس عادة يؤمنون بما يجدي"! المخيف في المسألة ليس التحقق من واقعيتها أو نفيها، بل المخيف هو المناخ الذي أنبت هذا النزوع الشيطاني في روسيا، فالملاحظ - وبمعطيات ذلك التحقيق نفسه - أن الأعضاء المؤسسين في هذه المجموعات في عمر الشباب من 17- 40 سنة، وبدء نشوء هذه الجمعيات عام 1989، أي لحظة تهيؤ الاتحاد السوفييتي السابق للانهيار. وتفسيري المتواضع لذلك، ومن خلال معايشة للروس (السوفييت من سابقا) امتدت نحو أربع سنوات، أن الروس كأناس شرقيين إلى حد بعيد مولعون بقضايا الروح، لكن خطأ الشيوعية السوفييتية ـ الروحي ـ في حق الروس، أنها فرضت عليهم المادية التي لم تكن جدلية أبدا، بل ميكانيكية الفهم إلى درجة الابتذال، وجرى طمس سوقي وعنيف للحياة الروحية للشعب الروسي ابتداء من الإيمان الديني وحتى البحث في الوجود الكوني للإنسان. أخمدت الشيوعية العسكرية أنفاس أسئلة الإنسان المشروعة عن المصير الروحي للبشر. أخمدت الفطرة بالمانيفستو. لهذا كانت مسائل الخوارق والتنجيم وما وراء الطبيعة كالجمر تحت الرماد الشيوعي (وإن أحالوها لمعاهد الفيزياء بدراستها ضمن علم الباراسيكولوجي). وأتذكر أن مجرد ادعاء الإنسان معرفة شيء من قراءة الكف كان يوفر له شأنه مرموقة بين السوفييت. ..الشيوعيين! ولما سقط شاء الشيوعي السوفييتي. .لما سقط الكابح، انطلقت أسئلة البشر الروحية عمياء بلا دليل. ليتلقفها الدجالون المهووسون أو الراغبون في سحق الروس حتى أعمق أعماقهم.

المس الشيطاني ـ في رأيي ـ لم يكن فقط موضوع رواية، أو عرضا مسرحيا مأخوذا عن الرواية، أو في سلوك مجموعات تمارس هوسها الأسود في ليل الغابات الروسية الكثيف ـ وإنما كان في وقائع الحياة اليومية كما لمستها أثناء هذا الاستطلاع في موسكو. فثمة ملامح للجمال ـ بغض النظر عن أنها كانت محصلة النظام السابق، فالنظام السابق لم يكن شرا كله حتى لو كان شرا في معظمه - هذه الملامح تم تشويهها يعنف يوشك أن يكون شيطانيا. . .والشيطان الجديد في موسكو هو "الأخضر"... تلك الأوراق الخضراء التي يجري وراءها الموسكوفيون- والروسي- كما وصفهـم الروائي العظيم بولجاكوف منذ أكثر من نصف قرن. ..الأخضر...الدولار...كل شيء.

تحت الأرض...فوق الأرض

إذا أردت أن تلمس نبض موسكو فابدأ من تحت الأرض. من أضخم شبكات المترو في العالم والتي تري فيها عشرة خطوط هـائلة تتقاطع وتتداخل وتبلغ أعماقا سحيقة تحت تفرعات نهر موسكو تصل كثيرا إلى عدة طوابق تمرق خلالها القطارات الكهـربائية السريعة. ولقد اتخذ قرار بناء المترو في برلمان المدينة عام 1952 أي قبل ثورة أكتوبر. لكن التنفيذ بدأ عام 1931 وتحرك أول قطار أنفاق في موسكو في 15 مايو 1935. ويبلغ طول الخطوط حاليا كثر من 250 كيلو مترا وينتظر أن تصل إلى 360 كيلو مترا وهي تنقل أكثر من سبعة ملايين راكب يوميا في قطارات يبلغ عددها حوالي 8000 قطار، معدل تقاطرها في بعض المحطات يصل إلى كل نصف دقيقة. لقد كان ثمن التذكرة (على أيامنا في موسكو) أي منذ عشر سنوات 5 كوبيكات أما الآن فهو 15000 كوبيك!! أي أن سعر التذكرة تضاعف ثلاثين ألف مرة! هل هناك أعنف من هذا التضخم؟! في بعض محطات المترو البالغ عددها نحو 150 محطة تبدو متاحف ضخمة للفن الباذخ، منها على سبيل المثال محطات مايكوفسكى وكروبوتكنيسكايا وآرباتسكايا. فالصور الجدارية من النحت في الرخام والفسيفساء والجص والأعمدة الجرانيتية أو المغلفة بالمرمر أو الصلب الفضي والثريات الكريستالية والأبهاء المصقولة والدرج الكهربي والقناديل. معرض فني مترام لا ثشبه فيه محطة أخرى. أما العرض الحي في داخل هذه الأبهاء الفنية فهو الناس في حركتهم المسرعة وأشكالهم الروسية المميزة والقراءة داخل القطارات المنطلقة. ما زال العرض الحي صاخبا وإن بدت وجوه الناس كامدة برغم تغير طرازات ثيابهم الأكثر غربية وعصرية. والقراءة وقوفا أو جلوسا ظاهرة روسية مستمرة وإن كانت المطبوعات بين أياديهم مختلفه، فمن قبل كانت الكتب الأدبية والفنية والعلمية، أما الآن فمجلات وجرائد الإثارة بكل مجالاتها السياسية والاجتماعية والتجارية والجنسية. وعلى الجدران داخل العربات ترى إعلانات ملصقة لم تكن موجودة من قبل وكلها تتحدث عن شركات استثمار الأموال أو توظيف الأموال. "جيرمس... معدل الأرباح يصعد من 500% إلى 600% إلى 700%،. وشركة الاستثمارات التقنية والعلمية من 540 إلى 960% سنويا... ومن محطة آرباتسكايا الجميلة نخرج مع تدفقات البشر، وفي البهو تتناثر أركان بائعي الزهور، والجديد أنهم يبيعون زهورا صناعية وهذه لم يكن يشتريها الروس إلا لو ضعها على مقابر الموتى. ونجد بائعي الصحف أمام المدخل متعدد الأبواب. عشرات الجرائد الغريبة عن السياسة والفضائح والتجارة والجنس. والأغرب أن هناك جرائد غير محدد ثمنها فبدلا من الثمن مكتوبا "دو جفارينا" أي بالاتفاق مع البائع. فالمسألة كلها سوق. عرض وطلب. وكلى شيء صار خاضعا للعرض والطلب. وفي هذا نجد صف الأكشاك الطويل في الطريق إلى آربات. والتسول بدأ يظهر وأغرب ما فيه تسول الأطفال فعلى درج النفق طفل يحمل لافتة تقول (أعيش مع جدتي وحدنا. ساعدونا أيها الناس الطيبون" وعجوز نظارتها مكسورة تتسول لإصلاح نظارتها. وبنات صغيرات يبعن حيواناتهن الأليفة التي لم يعد بمقدورهن إطعامها. قط. جرو. عصفور. ويخبئن وجوهـهن الجميلة المنكسرة أمام الكاميرا. وفي شارع آربات المخصص للمشاة. شارع الفن الجميل.. أبرز العنف مخالبه لينهش على مرأى من الأبنية الجميلة العائدة إلى بداية القرن الماضي والقناديل الشفافة بلون الشفق. أطفال في عمر لا يزيد على ست سنوات يتسولون بالعزف واقفين وحدهم في وسط الشارع. وعلى رصيف أحد شوارع آربات الجانبية تحت حائط مطروس بالكتابات المتداخلة يتجمع ركام من الصبية والبنات في عمر المراهقة، ملابسهم سوداء أو متسخة وشعورهم سائبة ويلتمون كقطيع متزاحم، بعضهم يعزف على جيتار، بعضهم يدخن، والبعض يغني. وعيونهم تتسول الاهتمام. هيبز آخر الزمان في موسكو. وأقترب منهم لأتحدث مع أحدهم لأجد نفسي بعد دقائق محاطا بحشدهم المخمور. وراحت تلفح وجهي رائحة الفودكا والسماجون المصنوع في قباء البيوت. إنهم مجموعة تسمى "سينما" يتعلقون بفنان شاب راحل يسمى فيكتور تسوي مات عام 1990 ويغنون كلماته. ومع تجاذب أطراف الحديث أيقنت أنني في خطر وسط أرواح بائسة خاوية، وعقول ضائعة وعنصرية، لهذا اضطررت أن أزعم لهم أننا من "قبرص" فتصايحوا..."هاه...قبرص المضيئة...قبرص المقدسة" وأشرت إلى سليمان حيدر الذي كان يصور من بعيد أن يتبعني مسرعا حتى ننجو من هذه المصيدة المترنحة.

المدهش ليس هذه الصورة في ذاتها، بل اقتحامها لموسكو في هذا الوقت القصير بعد انهيار النظام السابق وكأنها كانت تعد عدتها. وقد كان المساء واعدا بمزيد من الغرابة فموسكو التي كانت تنام مبكرا صارت تسهر، وتسهر حتى الصباح. وأغرب سهراتها تجري في الإستاد الأولمبي. وهو مجمع رياضي هائل يحولونه في المساء إلى مدينة لعلب الليل، أندية القمار، وساحة لالتقاط بنات الهوى، ومسارح العروض العارية. والغريب أن كثيرا من الرياضيين - في هذا البلد الذي كان يضم أكبر نسبه من أبطال الرياضة في العالم - تحولوا إلى قبضايات يحرسون صالات القمار، والمراقص، ومسارح العري، وأركان البغايا... وبجدية بالغة، وصرامة أيضا!

في الطالكوشكا

لو لم نكن أربعة لذقنا شيئا من إجرام المافيا الروسية. لكن يبدو أن المافيا درجات. فالدرجة الأولى ليست في حاجة للظهور في الأسواق والشوارع، فهي تعقد اجتماعاتها في أحد الفنادق الفخمة الصغيرة النائية ـ كما سمعنا ـ عند أطراف موسكو، وهي مشغولة بأمور ضخمة... بصفقات الأسلحة التكتيكية والاستراتيجية المهربة، والكنوز الفنية الروسية القديمة، والمعادن الثمينة، والرقيق الأبيض ذي الشعر البلاتيني المميز لحسان روسيا، وهذه كلها كانت خارج دائرة سعينا في أيام موسكو العشرة.

لكننا التقينا بأدنى مراتب المافيا الروسية في "الطالكوشكا"... وفي نوع يشبه الأسواق الشعبية لدينا وكلمة "طالكوشكا" نفسهـا مشتقة من فعل التزاحم والتدافع بالمناكب.

تدافعنا في نهر البشر وبين ضفتين من الأكشاك التي تبيع الملابس والبضائع التي يهربها تجار الشنطة الروس الذين رأيتهم من قبل يجوبون العالم... من سوق المصنوعات المقلدة في بانكوك إلى سوق غزة في العتبة بالقاهرة.. ومن أرصفة فرانكفورت في الشمال حتى جبهة الماء في كيب تاون. أطباء وطبيبات وفيزيائيون ومهندسون وحرفيون وبائعات وموظفات ومترجمات. ..يشدون الرحال إلى أربعة أطراف المعمورة ببعض من الفودكا، والكافيار، وآلات التصوير الروسية، وربما بعض الأيقونات الصغيرة إن أمكن وأجسادهن إن عز ذلك كله، يبعن ويشترين، أي شيء بأي شيء، ويعدن على رحلات "الشارتر" الجوية الرخيصة لإفراغ "الشنط" في أسواق الطالكوشكا.. وفي زحمة إحدى هذه الأسواق أوقفنا العملاق المحشو في زي يشبه زي جنود الصاعقة. كان يحمل جهازا لاسلكيا ويعتمر بقبعة كاكية وبوجهـه الضخم آثار جروح عميقة تقول إنه تشاجر كثيرا بالسكاكين وناله منها ما ناله. (رد سجون) أريب يرتدي زي قوات ا"لأمن الخاص"... وهي منظمات قاعدية تتبع المافيا الروسية المنظمة كانت تقول بدور "القبضايات" الذين يفرضون "إتاوات" على أصحاب المحال والجوانيت والأكشاك مقابل عدم التعرض لهم ولما حاصرتهم الدولة قالوا نحن منظمات أمن خاصة وحصلوا على تراخيص بمزاولة هذا العمل بصورة رسمية وزي معتمد وأجهـزة لاسلكي وأسلحة شخصية.

أوقفنا الرجل وقال بصوته الثقيل: "توقفوا وأخرجوا الأفلام من آلات التصوير وأعطوني إياها". وأحسست بالفزع من مصادرة الأفلام فهـي جهد أيام طويلة من التجوال في موسكو. قلت للرجل: "إننا صحفيون ومعنا إذن رسمي بالتصوير" فقال "أرني الإذن". وفي حقيقة الأمر لم يكن إذنا بالمعنى الصريح. بل كان مجرد كلمة "إعلام" في تأشيرة الدخول التي منحتنا إياها السفارة الروسية. وكانت الجهـة الداعية هي مجلة "صدى الكوكب" الروسية. فأشرت له إلى ذلك في تأشيرة الدخول. لكنه قال: "حسنا... ولكنك لا تأخذ إذنا منا، فسألته (من أنتم" قال "نحن المسئولون عن الأمن هنا.. هيا اتبعوني". وقد كانت لحظة إلهام أننا لم نتبعه، لأن طلبه كان الابتزاز ليس إلا. وقلت له ليس هناك لافتة ممنوع التصوير. وقال: "ولو... لكن بعض الشركات هنا لا تحب التصوير". لقد استخدم كلمة "فيرما" في حديثه وهي توحى في اللغة الروسية بمعنى (ماركة مسجلة" لشركة. وكتمنا ضحكنا ونحن نتلفت حولنا لنرى هذه الماركات العالمية! بضع عجائز ترفع أياديهن المعروفة ثلاث أو أربع علب سجائر هي كل البضاعة التي يمتلكنها واقفات في طابور متهالك. وثمة طابور آخر لعجائز أخر تبيع كل منهن شالا أو عدة أكياس من النايلون. ضمان فارع يعرض زوجا من الأحذية الإيطالية. وأخرى تبيع علبة مكياج صغيرة وقلم أحمر شفاه وحيدا. مأساة تضحك وتبكي. .. بينما كانت واجهات أكشاك مكتظة بالبضائع المهربة التافهة. ولم نضحك ولم نبك. كتمنا مشاعرنا ونحن ندخل في سجال مع "رجل الأمن الرجل" ثم افتعلت "زعلا" وأنا أقول له: "شكرا يا سيدي... تحرمنا من التصوير.. إذن لن نصور" ومضينا والرجل في ارتباك فلاح روسي ضخم. .. لا يجيد التحايل، برغم انتمائه لقواعد المافيا المنظمة، وآثار المعارك الدامية التي خاضها. وما أن بلغنا موقع السيارة وانطلقنا حتى انفلتت منا كلمة "فيرما" وانفجرنا جميعا بالضحك.

لكنه ضحك كالبكاء.. فبين طوابير هؤلاء "الباعة" وتجار الشنطة في الطالكوشكا الروسية ثمة أرباب معاشات كانوا يوما ما "بروفوسيرات"، وفتيات يحملن درجة الكانديدات (الدكتوراه)، وعلماء اقتصاد ولغة واجتماع وفلاسفة دارت بهم الأيام دورتها ولم تعد مرتباتهم تكفي ثمنا للخبز في موسكو. حتى رجل المافيا ضخم الجثة الذي قايلناه هو متعلم حتى "الثانوية العامة، أو "البكالوريا" فهذا كان الحد الأدنى للتعليم الإجباري في النظام السوفييتي السابق.

فأي عنف هذا.

لتتحرك البنايات..إلى الخلف

ما أن أجد نفسي في شارع جوركي حتى أنسى قدمي، وأحس بروحي. فمن هنا أنطلق على غير هدى فوق أرصفة الشارع الواسع الذي يضارع شانزلزيه باريس إذ يبلغ اتساعه 60 مترا ـ فالتقى بالكتاب والشعراء الذين أحبهم، وألتقي بالتاريخ، وأتأمل معجزة البنايات الهائلة العتيقة التي نقلوها إلى الوراء ليحافظوا على استقامة الاتساع في هذا الشارع العريق.

لم يعد الشارع يحمل اسم جوركي، فقد أطاحت به الجائحة التي تعصف بموسكو دون تمييز ـ حتى الآن وإلى حد بعيد ـ وعاد الشارع إلى اسمه الراجع إلى القرن الرابع عشر: شارع "دفير"، لأنه كان يفضي إلى الطريق المؤدي إلى مدينة روسية قديمة تتسمى بهذا الاسم. وأحزنني تغيير الاسم، لأن جوركي كان من أوائل ذوي البصيرة والقلب الإنساني الذين رفضوا الفظاظة باسم الثورية. وكلفته مواقفه الرافضة لممارسات الشيوعية السوفييتية أن يعيش ويموت في المنفى وإن عاد جثمانه ليرقد في ظلال أسوار الكريملين في النهاية. ولو، سأظل أناديه في داخلي "شارع جوركي"... شارع المكتبات، ومقاهي العابرين، ومحال الهدايا من صناعات الروس اليدوية البديعة، وميدان بوشكين، وجادات العشاق الفرعية المظللة بالحور السامق والبتولا، والبنايات التاريخية لفندق "ناتسيونال" ومحطة بيلاروسيا ومسرح يرميلوفى للدراما وصالة تشايكوفسكى للموسيقى السيمفونية. أمشي وأمشي. أتنفس الهواء الشفيف من البراح الواسع وأتوقف في كل مرة أمام بناية اتحاد الفنانين عند منعطف "سادوفسكي" ليتولاني ذهول السؤال: كيف أنهم نقلوا إلى الخلف هذه البناية الهائلة التي تم تشييدها عام 1780 لتوسعة الشارع ما بين عامي 1939 - 1940، بل إنهم أداروها أيضا 90 درجة لتنسيق مع ما حولها من أبنية؟! وليست هذه البناية هي الوحيدة التي تم نقلها في شارع جوركي فهناك مبنى "سوفييت موسكو" الذي نقلوه 14 مترا إلى الخلف دون أن تسقط منه طوبه! تغير اسم الشارع، وتغيرت روحه...

الحرية حلوة، وتلوين الحياة مطلوب، والتعددية شرط أي استمرار صحي حقيقي... لكنني لم أشعر بالارتياح في شارع جوركي" الذي صار اسمه شارع "دفير". صحيح أن الشيوعية الميكانيكية العسكرية السوفييتية كانت تمارس عنفا مكتوما. لكن ما يحدث الآن فيه عنف كثير أيضا. الترولي باص الهادئ تنبذه حركة سيارات باذخة يركبها "رجال الأعمال الجدد" في موسكو وسحناتهم تشي بملامح إجرامية أو ماكرة برغم أنهم في ميعة الصبا. تبخرت مطاعم البلمينى (الشطائر الروسية المنمنمة السابحة في الحليب) والبورش الساخن اللذيذ في الشتاء وحساء الكوراشكي اللطيف الغني، والشاي والبيراشكي، وكلها كانت وجبات رخيصة وفي متناول أبأس الناس، لتحل محلها مطاعم (فانتازيا" و (ايتاليانو) التي تحاسب بالدولار، ومكدونالد التي مازالت تبتلع الطوابير الطويلة برغم أنها افتتحت أكثر من فرع في شارع جوركي وحده. الكتب صارت تباع بالمزاد، وتقلصت مساحة بيع الكتب لتفسح مجالا لبيع الانتيكات بالدولار...أشياء من روح روسيا الفنانة كانت تباع علنا ـ وفى محال كتب الدولة ـ بالدولار (هذا غير ما يتم تهريبه وهو أثقل وأثمن)...أيقونات، أسلحة تذكارية، شمعدانات أثرية، أوسمة وميداليات، حلي، ومخطوطات. تعبت هذه المرة سريعا من المشي في شارع جوركي... وكنت مذهولا بالدوران في محال الشارع الكبيرة ومخازن الأطعمة...لم يكن هناك شيء روسي باستثناء السماوارات والمصنوعات الخشبية... لا شي، حتى الزبادي والحليب والمناديل وحبوب الصداع، كلهـا مستوردة. هل كفت روسيا عن الإنتاج؟ ومن أين يؤتى بثمن استيراد هذه البضائع؟

سؤال وجهته لأكثر من مراقب وصحفي التقيت بهم في موسكو وكانت الإجابة ترجيحية، فلا بد أن الثمن هو بيع كنوز روسيا لاستيراد هذه الأشياء. الذهب والماس والتحف والأسلحة المتطورة والنفط والخشب والفراء والكافيار وربما اليورانيوم والبلوتونيوم أيضا (وإن نفت المراجع الروسية ذلك). وفي معرض البحث عن إجابة لهذا السؤال استوقفتني كلمات رئيس تحرير مجلة صدى الكوكب فالينتين فاسيلتس في اللقاء المطول الذي أجريته معه بمكتبه في المجلة. فلقد شرح لي كيف أن التجار يذهبون إلى الأسواق الغربية ويبحثون عن البضائع التي اقترب موعد انتهاء صلاحيتها فثمة قانون في تلك البلاد يحتم التخلص من هذه البضائع قبل موعد انتهـاء صلاحيتها بستة أشهر لضمان مصالح المستهلكين خاصة الصحية. هذه في البضاعة التي يأتي بها تجار موسكو الكبار والصغار لتملأ متاجرها العجوز. أي أن روسيا تأكل نفايات الغرب. (وهذا الاستنتاج لي وليس لرئيس تحرير صدى الكوكب). شيء يوجع القلب. فروسيا ليست بلدا هينا، ولتذهب الشيوعية إلى الجحيم، أما أن يهان شعب كبير، وفنان، بهذا الشكل فهذا شيء مرعب. وأخشى ما أخشاه أن ينتفض في ردة فعل عنيفة ثأرا لكرامته المهدرة. لقد قال أديب روسيا الكبير العائد بعد ربع قرن من المنفى، سولجنتسين: لقد تنبأت بأن البناء الشيوعي الخرساني الضخم سينهار وكنت أخشى أن ينهار فوق رءوس سكانه وهذا ما يحدث الآن. فهل هذا ما يحدث الآن في موسكو؟.

في عصور التوحش...أغنية

أردت أن أستريح من وجع القلب تحت جناحي الشاعر فانعطفت داخلا ميدان وحديقة بوشكين التي يرفدها شارع جوركي... تمثال الشاعر الملهـم الذي يقف على رأسه وكتفيه ـ دائما ـ الحمام، ويهيم حوله العشاق في انتظار المواعيد، وكان يأتيه المعارضون ليتجمعوا من حوله صادحين بآرائهم في بداية زمن البيريسترويكا الذي كان واعدا. الآن لا عشاق. لا أصحاب آراء. وإن ظل محبو الشعر يأتون لوضع الزهور عند قدمي تمثال الشاعر. صار المكان مريبا...على حافة أحواض الزهور تجلس بعض البغايا. وتحت الدرج المفضيى إلى ساحة الحديقة يتجمع شبان مريبو المظهر لهم سحنات المجرمين والمدمنين. وبوشكين يقف مطرقا ويده داخلي صدر معطفه مبحرا في أعماقه الفوارة بالأغاني، وعلى قاعدة تمثاله تصدح بعض من أبيات شعره، محفورة في الرخاء عند الجانب الأيمن:

"تظل قيثارتي
تغني للشفقة الحبيبة
وفي عصور التوحش أشدو
لحرية الإنسان.
وإن ظلت الرحمة
تطلب العدل في عماء العالم".

ما أغرب البيت الأخير، النبوءة الأخيرة، تأملتها وتذكرت أن دومشويفسكى كان يجيء إلى المكان ذاته الذي وقفت أقرأ فيه أبيات الشاعر، كان دائما يضع الزهور تحت قدمي بوشكين ويقول لزوجته عنه: "إنه المعلم الأكبر".

بوشكين مات مقتولا، ودوستويفسكي حالت بينه وبين الإعدام لحظة، وتولستوي قضى كحفنة من عظام على رصيف محطة مهجورة بعد أن زهد زخرف العالم، وتشيخوف نهش الدرن رئتيه، وليرمنتوف ضاع في مبارزة وجوركي أطلق على نفسه الرصاص في شبابه ليوقف تدمير البؤساء لأنفسهم... أي عنف واجهه صناع الجمال هؤلاء أو وقعوا في براثنه، لقد ذهبت إلى بيت تشيخوف في طريق الحدائق الدائري "سادوفاياكالسو" وهو الذي يعتبر أكثر الكتاب الروس هدوءا ووداعة.. ولاحظت شيئا غريبا فاتني ملاحظته في المرات السابقة... إن مكتبه كان يواجه الحائط!! وبالتقصي عرفت أنه كان يكتب على ضوء الشموع، في مواجهة الحائط، ولعله كان يوفر لروحه المبدعة ـ بذلك ـ مزيدا من العزلة عن عنف العالم الصعب وهو الذي قال: إنني لم أعرف إلا أن كل لحظات البشرية ظلت ينطبق عليها الوصف إنها "لحظات عصيبة".

روسيا التي زرنا عاصمتها، بالقطع، وبرغم أي استحسان أو نقيضه، وبرغم أي رفض أو قبول، كانت تعيش لحظات عصيبة. لحظات من العنف في مواجهة جمال لا يمكن إنكاره بين حنايا التاريخ، والطبيعة، ووجوه الصبايا، وفنون الروح الروسي المبدع.

لقد قال ديستويفسكي ـ أحد أرواح روسيا الباهرة ـ "إن الجمال هو الذي سينقذ العالم".

فهل ينقذ ما بقي من الجمال روح روسيا من قدر العنف...وقهر العنف؟

آمل ذلك... ليس لأجل روسيا وحدها..بل لأجل العالم..ولأجلنا، فروسيا التي كانت وستظل شرقا، مهما تطلعت إلى الغرب...روسيا هذه، تقع منا على مرمى حجر، أو...على مد البصر.

 

محمد المخزنجي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة الغلاف





موسكو.. كل هذا الجمال كل هذا العنف





كاتدرائية المقدس فاسيلي أو الشفاعة تحفة معمارية لم تتكرر





خريطة وعلم جمهورية روسيا الاتحادية





الجوم أو المتجر الحكومي الكبير المغطى





الجوم أو المتجر الحكومي الكبير المغطى - ويسع عشرة آلاف إنسان - كان يعج بالبضائع الروسية والآن تملؤه البضائع المستوردة حيث البيع بالدولار والفرنك في زمن السوق الحر





هذا الطفل الجميل يتسول بالموسيقى في شارع أربات





تقمص أحوال الهيبز الذين مضى زمنهم تحت هذا الحائط في موسكو





في زمن السوق.. لا شيء إلا إلقاء أنفسهم المنكسرة في بحر البيع والشراء الهائج





أفراد الحراس القديم المسنون.. الانخراط في مظاهرات تحمل آخر الأعلام





الحياة لا تتوقف.. والفرح ممكن، حيث تزف العروسة بعربة روسية تجرها الخيول في قمة موسكو التي مازالت تسمى تلال لينين





الروس موهبون وفنانون بالفطرة وهذا بعض مما صنعته أيادي الفلاحات الروس





حذار من أمة لا تنسى موتاها فمازالو يضعون الزهور على مقابر الفنانين





على قبر الجندي المجهول يضعون الزهور - (في طقوس العرس)





نتاشا ذات الوجه الروسي والاسم الروسي لها ان تبتسم ابتسامة واسعة فقد أسعدها الحظ بالعمل محاسبة في مركز تجاري استثماري بموسكو





روسيا ما زالت دولة عظمى إن لم يكن بمواردها الطبيعية فبقوتها العسكرية





روسيا الدولة العظمى بقوتها العسكرية الكبيرة