تدمر .. عروس الصحراء خيرية الزبيدي تصوير: محمود سالم

تدمر .. عروس الصحراء

ما زال التاريخ يطوي أسرار تدمر. فهذه العين التي يتفجر مأوها من أحد الكهوف كانت السبب في قيام مدينة عظيمة عاشت أحداث العصر ودفعت غاليا ثمنا لموقعها وسط القوافل التجارية والأطماع العسكرية.

ننطلق من دمشق إلى تدمر عبر أقصر الطرق، والذي يبلغ طوله 245 كيلو مترا. من النافذة نرقب قاسيون يتباعد حاضنا مدينته، حانيا عليهـا، تتبعه الحقول الخضراء الفرحة بحلول الربيع، المغتسلة بشمسه الدافئة. أتابع الطبيعة الخلابة، لكن تدمر وملكتهـا زنوبيا يقتحمان مخيلتي ويقطعان في هذه المراقبة. كلمة تدمر تعني الأعجوبة باللغة التدمرية القديمة، كما كان يطلق عليها أيضا تدمرتو وتعني الجميلة، والاسمان مطابقان لتلك البقعة القائمة وسط الصحراء، وليس أدل على ذلك من زعم عرب الجاهلية بأن الجن هم من قال ببناء تدمر، ولعلهم زعموا ذلك بسبب عظمة مبانيها ودقتها.

أما السبب الأساسي في وجود هذه الواحة في وسط الصحراء القاحلة فهو نبع ماء كبريتي يتدفق من جوف أحد الكهوف، وجده الإنسان القديم منذ العصور الحجرية الحديثة، أي الألف العاشرة قبل الميلاد، هذا ما تدلل عليه الكهوف المكتشفة حول المدينة، والتي عثر بداخلهـا على آثار عضوية أدوات صوانية صنعها الإنسان.

أما أقدم وثائق رسمية وجدت عن مدينة تدمر فتعود إلى القرن الواحد والعشرين قبل الميلاد في. منطقة كبادوكيا بالأناضول، ثم في مدينة ماري على الفرات الأوسط، تذكر هذه الوثائق وجود تدمر منذ زمن حامورابي، أي القرن الثامن عشر قبل الميلاد.

بعد ذلك يطوي التاريخ أسرار تدمر (ولكن ليس إلى الأبد، فالحفريات لم تظهر أكثر من 40% من آثارها) حتى القرن الرابع عشر قبل الميلاد حينما يذكرها الذين كتبوا التوراة، وأيضا ذكرت في رقيم كشف حديثا في مسكنة/ إيمار على ضفاف الفرات في نص يعود للقرن الرابع عشر أو الثالث عشر قبل الميلاد، وفيه أول طبعة ختم تدمري معروفة حتى الآن.

وفى القرن الحادي عشر ق.م يقول الملك الآشوري تغلات فلاصر الأول في حولياته: "حاربت سكان تدمر الآراميين وعدت بالغنائم إلى آشور".

وفي القرن الثاني قبل الميلاد كانت تدمر قد استقرت كإمارة عربية. وهناك شواهد مادية وأدبية تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد تدل على أن تدمر كانت تضم آنذاك مدينه على جانب من الأهمية.

ويذكر أنه في عام 14 ق. م عادت كليوباترا بحرا إلى مصر، وأرسل مارك أنطونيو فرسانه إلى تدمر وأمرهم بنهبها، لكن هذه الحملة لم تنجح فقد أخلى أهل تدمر مدينتهـم وعبروا الفرات بأرزاقهـم، وعبر النهر أخذوا يصلون فرسان أنطونيو بوابل سهامهم الشهيرة.

على أنه يعتقد أن الغزو الروماني لتدمر كان عام 64 / 65 ق. م، لكن الكتابات التي وجدت وتعود لمطلع القرن الأول الميلادي، تدل على أن تدمر قبل إلحاقها بروما كان لا نظام حكم يقوم على مجلس للشيوخ ومجلس للشعب، مع الإبقاء على دور العشيرة المهم. وهذا الحكم لم يتغير كثيرا بعد الوصاية الرومانية على تدمر. وكتابعة لروما أخذت تدمر تدفع الجزية، لكنها بقيت برغم ذلك منتعشة اقتصاديا، وتزايد نشاط طرقها التجارية.

وفي عام 106 م فقدت البتراء استقلالها على يد. الرومان. وكانت البتراء محطة رئيسية على طريق الحرير، ومنافسة لتدمر على الطرق التجارية، وبفقدها استقلالها أخذت تدمر مكانتها وأصبحت أهم محطة على هذا الطريق التجاري دون منافس ما بين مصر وجزيرة العرب وأوربا من جهة وفارس والهند والصين من جهـة ثانية. وكانت هذه الفترة الزمنية من أكثر ما عرفت تدمر انتعاشا اقتصاديا، فأكملت بناء معابدها ونظمت شوارع مدينتها.

ويبدو أن علاقة تدمر مع روما كانت حسنة، حيث حصلت تدمر من روما على رتبة "المعمرة الرومانية" عام 212 م في عهد الإمبراطور الروماني كركلا ابن الإمبراطور سبتيموس سيفيروس والأميرة الحمصية جوليا دومنا ابنة كاهن الشمس حمص، وبذلك أعفيت تدمر من دفع الضرائب.

في عام 228 م احتلت مصبات دجلة والفرات من قبل الفرس بعد استيلاء السلالة الساسانية على الحكم، وبذلك أخذت تدمر تفقد الطرق التجارية تدريجيا، وهنا تتوحد مصالح التدمريين مع مصالح الروم ويقفون جنبا إلى جنب للتصدي لمشاريع الساسانيين وإفشالها.

زنوبيا تصعد وتهبط

بعد معركة مع الفرس عام 260 م ينتصر فيها التدمريون بقيادة حاكمهم أذينة، يحوز بعدها أذينة من الإمبراطور الروماني الجديد غاليان لقب (مقوم الشرق كله) ويصبح (ملك الملوك). يحاول أذينة استرداد مفاتيح التجارة المسلوبة من قبل الساسانيين، لكنه يقتل قبل تنفيذ ذلك في ظروف غامضة عام 267 م أو 268 م. وتتولى زوجته زنوبيا أو زينب الحكم وصية على ابنها القاصر وهـب اللات. وزينب هو اسمهـا التدمري وهو أصم لنبات عطري، أما زنوبيا فهـو اسمها كما ينطق باليونانية.

كذلك تسمى الزباء لغزارة شعرها وجمالها.

لم تكن زينب ملكة عادية، كانت تجمع بين القوة والشجاعة من جهة، والحكمة والحنكة السياسية والثقافة العالية من جهـة أخرى، لقد كانت تتقن اللاتينية والفرعونية بجانب لغتهـا التدمرية، جمعت حولها الفلاسفة والعلماء، كانت طموحا قبضت بيديها على سر الخلود الذي شغل البشرية والذي حل طلاسمه قبلها جلجامش. فها هي خالدة بيننا برغم مئات السنين.

عند تولي زنوبيا الحكم أخذت ؟ تجمع العناصر العربية حولها في محاولة لتكوين دولة عربية قوية تحت زعامتها، وهذا ما كان لها فعلا، فقد استطاعت أن تتغلب على الرومان وأن تستولي على الإسكندرية أهم مدن الإمبراطورية الرومانية قاطبة، وكانت قبل ذلك قد مهدت لنفسها عند المصريين بإعلانها أنها مصرية من نسل كليوباترا. وقد عثر على نقود تدمرية سكت  في الإسكندرية عامي 270، 271 م وعلى وجهها صورة القيصر الروماني أورليان بجانب صورة وهب اللات ابن زنوبيا. وهذا دليل على أن الحكم في مصر كان مشتركا بين روما وتدمر. ولم يدم هذا الاتفاق طويلا، حيث بدأ سادات روما بالضغط على الإمبراطور ليستعيد لروما مكانتها ويعيد لها الإسكندرية أهم مدنها، وما أن علمت الملكة الزباء بنوايا روما بالقضاء عليها، حتى قامت بإلغاء الاتفاق المعقود بينهما وإزالة صورة القيصر الروماني عن النقود. واستعدادا للمواجهـة يقال إنها وحدت خططهـا مع الملكة فكتوريا ملكة الغال، في مهاجمة الإمبراطورية الرومانية وتفكيكها. لقد وصلت جيوشها إلى الشمال الغربي حتى أنقرة، ووصلت إلى خلقدونية مقابل بيزنطة. وهكذا استطاعت زنوبيا أن تقيم إمبراطورية عربية انتزعتها من براثن الروم وهم في أوج قوتهم، لكنهـا لم تدم طويلا، ولم تتمكن من المحافظة عليهـا بسبب اتساعها وترامي أطرافها. ومن ثم استطاع الرومان العودة مرة أخرى، وكسب المعركة أمام زنوبيا، واقتيادها وهي في كامل زينتها مقيدة بسلاسل الذهب إلى روما لتقضي هناك بعيدة عن وطنها وأرضها وأمجادها، لكن تبقى خالدة بين شعبها برغم الزمن.

لقد اعترف الرومان بشجاعة زنوبيا وقوتها، وتحدثوا عنها بانبهـار. يقول مؤرخوهم إنها من أجمل نساء العالم قاطبة، فارسة، مقاتلة متمرسة، تشارك جنودها القتال وتسير معهـم على الأقدار مسافات طويلة، تتمتع بالكرم العربي والأخلاق العربية الأصيلة.

أستأذن من تدمر وزنوبيا قليلا، وألقي نظرة حولي، لا بد أننا قطعنا مسافة لا بأس بها، الصحراء الموشاة بعطايا الربيع تحيط بنا من كل جانب، الخيام البدوية وقطعان الماشية تتناثر على جنباتها، منظر رائع يزيد من روعته وسحره الهدوء والسكينة، ينطلق نظرنا حرا يجوب المساحات الشاسعة دون حدود أو سدود توقفه. ويحدثني أحد الزملاء بجانبي عن الصحراء والصيد بهذه المنطقة، صيد الأرانب وصيد الطيور، والتي من أنها صيد الصقر الذي يوجد في شهر سبتمبر، حيث يقضي صيادوه من البدو الأوقات الطويلة في ترقب ويقظة لاصطياده، وربما ينتهي الموسم ومواسم أيضا دون أن يحالفهم الحظ، لكن من يكون الحظ معه ويتمكن من الصقر فكأنه وقع على كنز يجني من ورائه المبالغ. الخيالية.

يقترب بنا الطريق أكثر فأكثر، وأخيرا نصل إلى تدمر التي تستقبلنا ببياراتها الخضراء على اليمين وعلى اليسار تستقبلنا أوابدها كشاهد على عظمتها وتاريخها العريق، شامخة بكبرياء لا يلبث أن ينتقل إليك، وتجيب عن سؤال يلح عليك، من أين أبدأ؟... من هنا،... أجل نبدأ بآثارها نستمع إلى حكاياتها وحكايات من مروا بها.

نزور أولا نبع أفقا، الذي هو السبب الأساسي في وجود هذه الراحة منذ الأزمنة السحيقة. وأفقا كلمة آرامية تعني "خروج الماء". وهذا النبع يتدفق من كهف في جنوب جبل المنظار يمتد أكثر من 350 مترا، نظم مدخله وبني معبدصغير لرب النبع، كما تذكر الكتابات المكتشفة فيه وتصف هذا الرب بـ "الطيب المبارك الرحمن الرحيم). وما يجذب الانتباه في هذه العبارة هو وصف الرب بالرحمن الرحيم، وهي من أسماء الله الحسنى.

والتي لا بد أن تكون ما بقي من عقيدة التوحيد.

مياه النبع مياه كبريتية، حرارتها ثابتة 33 درجة مئوية. عثر في مدخل الكهف عل عدة مذابح من الحجر المنحوت تبين أن المياه موزعة بين المواطنين بأمر من الرب "يرحبول" إله الشمس، وأن "القيم" وهو أحد رجال المدينة ينفذ الأمر الإلهي. لكن منذ مدة قليلة بدأ ينخفض، منسوب المياه في هذا النبع، والسبب في ذلك ربما يعود إلى كثرة الآبار التي جرى حفرهـا أخيرا قرب النبع.

وقبل أن نتجول بين الآثار الممتدة على مساحة واسعة، نتجه إلى المتحف الذي يقع في مدخل المدينة في ساحة الملكة زنوبيا.

نشاهد في المدخل الخارجي للمتحف تمثال أسد تدمر المكتشف في معبداللات عام 1977 م وهو من منحوتات القرن الأول قبل الميلاد، يرمز للربة العربية اللات كربة للحرب، والأسد رمز القوة التي تنفذ إرادتها. على يده اليسرى كتابة تدمرية تقول: "إن الربة اللات تبارك كل من لا يسفك الدم في المعبد" بما يعني حق اللجوء إلى المعبد. وهذا تجسيد، للتقاليد العربية التي بقيت سائدة.

جولة في المتحف

ندخل المتحف، أول ما يطالعنا نموذج لأحد الكهوف المكتشفة حول تدمر، يمثل إنسان العصر الحجري، نتجاوزه ونتجول داخل أروقة المتحف وقاعاته، نشعر وكأننا نركب آلة الزمن تنقلنا من زمن إلى آخر، نشاهد حضارات مختلفة، حضارات عربية تعاقبت على هذه المنطقة، وآثارا أخرى غربية وشرقية وجدت إثر غزو أو فتح أجنبي، أو إثر علاقات وصداقات مع شعوب أخرى، يظهر تأثر الفن التدمري بتلك الحضارات، لكن دون أن يفقد طابعه الشرقي التدمري المميز.

ومما نشاهده في المتحف لوحة تحوي موجزا عن اللغة والكتابة التدمرية وأبجديتها وأرقامها. واللغة التدمرية لهجة آرامية غربية انتشرت كلغة دولية من الهند حتى مصر ما بين القرنين السادس والسابع بعد الميلاد.

تمتلئ قاعات المتحف بتماثيل الآلهة والقادة، وألواح عليها كتابات تدمرية وعملات قديمة تعود لعدة حضارات، وأوان خزفية إسلامية وغير إسلامية، لكن ما يشد انتباهنا مومياوان محنطتان تعودان إلى بداية القرن الثالث الميلادي، وهما لشخصين من عامة الشعب، وهذا ما يدل على أن التحنيط كان متبعا وبشكل واسع في تدمر وما يجعل المهتمين بالآثار يتوقعون العثور على المزيد من المومياوات وخصوصا مومياوات تعود للطبقة الحاكمة وتكشف المزيد من تاريخ هذه المدينة.

وفي إحدى قاعات المتحف نشاهد مذبحا يمثل الربة العربية اللات، ومن منا لم يسمع بها؟ وقد أتى ذكرها في القرآن الكريم تقريعا لعبدة الأوثان في قوله تعالى: أفرءيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى الآيتان 19 و 20 من سورة النجم. واللات كما لدى الشعوب لا تلك الأزمنة رمز للحرب والسلام، وهي نفسها عشتار البابلية وإيزيس المصرية وعستارت الكنعانية وفينوس الرومانية، يتغير اسمها من مكان إلى آخر لكن يبقى الجوهـر واحدا، تعبر عنه إيزيس إذ تقول عن نفسهـا في أحد النصوص: "أنا أم الأشياء جميعا، سيدة العناصر وبادئة العوالم، حاكمة ما في السماوات من فوق وما في الجحيم من تحت، مركز القوة الربانية، أنا الحقيقة الكامنة وراء الآلهة والآلهات، عندي يجتمعون في شكل واحد وهيئة واحدة، بيدي أقدر أجرام السماء وريح البحر وصمت الجحيم، يعبدني العالم بطرق شتى، أما اسمي الحقيقي فهـو "إيزيس" به توجهـوا إلي بالدعاء".

فهـي رمز القوة التي تتحكم بمصير البشر. آلهة مؤنثة مشتقة من اسم الله لدى العرب، وهذا يعود إلى بداية الإنسان، إلى العصر الأموي، وعقيدتهم بأن المرأة السر الأصغر الذي يعطى الحياة للبشر، والأرض السر الأكبر الذي يعطي الزرع، ومن هنا كان اسمها البابلي "عشتار" أي عيش الأرض.

نترك المتحف ونتجه حيث المدينة بكامل زينتها تستقبل مهرجان البادية السنوي، الذي يقام للعام الثاني على التوالي لإحياء كل ما هو عربي أصيل، من عادات وتقاليد، ومن كرة يتجلى في بيوت الشعر التي تنصب بين الآثار وحول مضمار السباق، تقدم المناسف العربية والقهوة العربية، إلى سباقات الخيول العربية الأصيلة، وهي سباقات متنوعة، منهـا سباق التحمل، سباقات الهجن، سباقات جمال الخيول.

ومما يهدف إليه المهرجان أيضا زيادة التقارب بين أجزاء الوطن العربي من خلال الدعوات التي قدمت للدول العربية للمشاركة بهذا المهرجان، لكن كون المهرجان مازال في بدايته، فإن المشاركة الفعلية لم تتعد الدول المجاورة هذا العام كالأردن ولبنان وفلسطين، ومع ذلك حضرت المهرجان وفود من الخليج العربي على أن تكون مشاركتها الفعلية في الأعوام  المقبلة.

فعاليات المهرجان

لقد توزعت فعاليات المهرجان ما بين المضمار والمسرح الروماني ومعبدبل. يقع المضمار على مساحة واسعة هيئت خصيصا وبشكل دائم لسباقات الفروسية والجن، ترقبه من الأعلى قلعة فخر الدين المعني الذي حكم لبنان وأجزاء من سوريا في بداية القرن السابع عشر الميلادي، ويعتقد أن القلعة تعود إلى زمن الحروب الصليبية حيث عمل أتابكة دمشق والزنكيون والأيوبيون على تحصين المدينة وتجهيزها بوسائل دفاع لمقاومة الصليبيين. يبلغ ارتفاع القلعة 150 مترا عن سطح المدينة، وهي تكشف منطقة تدمر بكاملها. من المضمار يبدأ المهرجان، تطلق البالونات الملونة، ويهبط المظليون أمام المنصة في عرض احتفالي رائع، ثم تبدأ الفرق المشاركة بالمرور، قادمة لنا من عصور تدمر المختلفة؛ تدمر قبل التاريخ وبعد التاريخ؛ تدمر قبل الإسلام وبعد الإسلام، حاضرة تدمر وباديتها، رماتها المشهورون وفرسانها، عرباتها التي تجرها الخيول وهجانتها، تشاركهم فرق من جميع أنحاء المحافظات السورية والدول المشاركة. لقد كانت لوحة رائعة تلاشى بها الزمن ووقف القديم والحديث جنبا إلى جنب.

حول المضمار وبين الأوابد انتشرت خيام البدو تؤكد طابع المهرجان البدوي، وتجسد الكرم العربي، تستقبل الضيوف، وتقيم حفلات السمر، فمن لا يستطيع متابعة البرامج الفنية المقررة بسبب الاكتظاظ يمكنه حضور حفلات السمر بالخيام والاستمتاع بالعادات العربية والكرم العربي الأصيل.

وفي المساء نتجه إلى معبدبل حيث الاحتفال الفني. في طريقنا من المضمار إلى المعبدنمر بجانب قوس النصر الذي يعطي طابعا مميزا لمدينة تدمر مع الطريق المستقيم، لكن مرقعه وبناءه لم يتم بشكل عشوائي بل بدقة متناهية بحيث يستقبل أول شعاع من شروق الشمس، ويرسله إلى جبين معبدبل ـ الذي كان مذهبا فيما مضى ـ والذي بذوره يعكس هذا الشعاع مكونا لوحة باهرة. أما هذا المعبدونقصد معبدبل، فقد تم بناؤه عام 32 م، على أنقاض معبدآخر أظهرت الحفريات بعض بقاياه. وبل الاسم الذي اشتهر به المعبدهو اسم بابلي وهو عند التدمريين مردوخ وعند الكنعابيين بعل، وعند اليونانيين زوس والرومان جوبيتير. والرب (بل- مردوخ) هو كبير آلهة التدمريين، ويرحبول رب الشمس وعجلبول رب القمر. وداخل الحرم هناك محرابان، خصص المحراب الجنوبي منهما للرب "بل" والشمالي لباقي الأرباب. وفي سقف المحراب الجنوبي لوحة زخرفية في الوسط تمثل الشمس كمصدر للحياة. وقد بقي هذا المعبدمكرسا لعبادة الرب بل حتى نهاية القرن الثالث الميلادي، تحول بعدها إلى كنيسة خلال العهد البيزنطي، وبقي حتى مطلع القرن السابع الميلادي، وفي القرن الثاني عشر الميلادي وفي عام 1180 م تحول المعبدإلى حصن وأصبح الحرم مسجدا، وكانت تدمر وقتها تحت سلطان أمراء حمص آل شيركوه. وبقي كذلك حتى رحل التدمريون الذين كانوا يسكنون ! ذا المعبدإلى مدينتهم الجديدة.

أما الآن فإن المعبدمضاء ومجهز كمسرح لتقديم العروض الفنية، وتفتتح هذه العروض بتقديم الأزياء التاريخية، وتظهر إحدى فتيات العرض بزي زنوبيا وقد تمنطقت بالخنجر، وكما يذكر المؤرخون فإن زنوبيا كانت تهتم بملابسها وأناقتها، ولم تكن تكتفى بالأزياء المحلية بل كانت تختار ما يناسبهـا من أزياء الشعوب الأخرى؟ وبعد الأزياء التاريخية يأتي دور أزياء المحافظات السورية، والذي ترافقه موسيقى وغناء شعبي جميل تتحرك على إيقاعه العارضات. ثم بعد ذلك تبدأ الفرق الفنية المشاركة بتقديم عروضها، وها يميز هذه الاحتفالات بجانب روعة الأداء هو التقديم الذي فمارك فيه خلال أيام المهرجان  الأربعة، الشاعر الشعبي عشر الفرا وشاعرة الفرات الشعبية تماضر الموح حيث قدما الفقرات بطريقتهـما الخاصة، بشعرها البدوي المحبب، فأمتعا الحاضرين، ولا ننسى تقديم المذيع القدير طالب يعقوب بصوته وتقديمه المميزين.

أربعة أيام من الفرح، تنقل ضيوف المهرجان من سياح أجانب وعرب في تدمر، بين المضمار الذي شهد أجمل سباقات الخيل والهجن، ومسرح تدمر الأثري ومعبدبل حيث العروض الفنية. أما في الصباح فهناك زيارة الأماكن الأثرية المنتشرة بشكل واسع: المتحف، المعابد (معبدنبو ابن الرب بل- مردوخ وأمين سر لمجمع الأرباب والمولج بمصائر البشر- معبدبعلشمين "سيد السماوات قاله المطر والخصب في تدمر)- معبداللات- معبدبلحمون الرب الكنعاني ومناة الربة العربية). كذلك المدافن المنتشرة بشكلها البرجي والأرضي، والتي تحتوي على تحف وفرسكات (الصور الجدارية الملونة، ومنحوتات جنائزية. كما أنتشر الضيوف والسياح داخل المدينة، في الأسواق يقتنون التحف الشرقية، ويتجولون بين البيارات فيستقبله م أهلها بالترحاب، يقضون بعض الوقت لمحت أشجارها يحتمون من حرارة شمس الظهيرة.

وكغيرنا نحاول التعرف على المدينة، نلاحظ شوارعها الواسعة المتعامدة، وأبنيتها المنظمة، فالمدينة حديثة نسبيا، وهذا ليس غريبا إذا علمنا أن أهلها قبل أن ينتقلوا إليها كانوا يقطنون داخل وحول معبدبل وحتى عام 1929 م، ولم يكن يتجاوز عددا م آنذاك أكثر من أربعة آلاف نسمة، أما الآن فيقطن تدمر 50 ألف نسمة، على مساحة قدرها 8 آلاف هكتار مخدومة بشكل جيد بالكهرباء وخطوط الهاتف والمدارس والمرافق العامة، أما بالنسبة للمياه فهي متوافرة بكثرة وتصل لكل منزل في المدينة لكنها كلسية وغير صالحة للشرب، وهناك بعض المعاناة في الحصول على المياه العذبة للشرب، لكن حديثا اكتشفت بئر مياه عذبة تكفي المدينة مدة 50 عاما على الأقل، وقد بدء بتنفيذ مشروع إيصال هذه المياه العذبة إلى المنازل.

جولة في السوق

يعمل معظم أهالي تدمر بالزراعة، ولمحتل مزارع الزيتون والنخيل مساحات واسعة بالإضافة لزراعة المحاصيل الموسمية مثل القطن والحبوب. هناك قسم من الأهالي يعمل بشركات الفوسفات التي لا تبعد كثيرا عن المدينة، وقسم أكبر يعمل بالتجارة، حيث تعتبر تدمر سوقا مركزيا للبادية، يأتي البدوي بما لديه من منتجات الماشية، ويجد في سوق تدمر كل ما يحتاج إليه من الخيمة ولوازمها إلى الملبس والمأكل، وكما يقول محمد حسين فهد رئيس مجلس بلدية تدمر، إن البدوي لا يستطيع الاستغناء عن تدمر، كما أن تدمر لا تستطيع الاستغناء عن البدوي، فهناك مصالح متبادلة بين الطرفين. وكثير من أهالي تدمر يعملون بتربية الأغنام والاتجار بها، والبعض يوكل مهمة العناية بها للبدوي. وأثناء تجوالنا بالسوق ندخل أحد المحلات المتخصصة ببيع بيوت الشعر ولوازمها، يستقبلنا البائع ويبدأ على الفور بعرض ما لديه من بضاعة وهو يشرح لنا أنواع الخيام (قطبة- مقورن- مثولث- مروبع.. وغيرها) ونفهم منه أن هذا يعني حجم الخيمة وعدد الأماكن بها،  ثم تأتي بعض النسوة البدويات وقد أحضرن له "زرب" قد صنعنه، وهو حواجز توضع داخل الخيمة لتقسيمهـا، والزرب مكون من أعواد من نبات البردي التي تنمو على ضفاف الفرات، قامت البدويات بمعالجته يدويا وتصنيعه.

وفي المقابل دكان لصناعة النعال التدمرية الشهيرة المسماة الهجانة، وسميت كذلك كون بدو الجمال كانوا يلبسونها، أما الآن فهي منتشرة بشكل واسع ويستخدمها الجميع.

ونكمل جولتنا في شوارع تدمر وفي ساحة الملكة زنوبيا على مدخل المدينة، تنتشر معارض التحف الشرقية، منها صناعات تدمرية متميزة، يأخذها السياح تذكارا من المدينة، كذلك تنتشر محلات لبيع البسط (السدو)، وهو نوعان: نوع بدوي وآخر تدمري، وكل له طابعه الخاص. ونرى جماعات السياح تتنقل بين هذه المعارض وتأخذ ما يذكرها بالشرق وسحره عند عودتها إلى بلادها. لقد أصبحت السياحة تلعب دورها في حياة التدمري، فبجانب انتشار معارض التحف الشرقية، هناك الاستراحات التي يحتاج إليها السائح، وأيضا الفنادق التي بدأ عددها يزداد.

يأخذنا مرافقنا إلى إحدى البيارات المحيطة بمعبدبل، حيث أشجار البيارة تحتضن المعيد وكأنها تسر له بشيء، نتجول قليلا بين الأشجار قبل أن نأخذ مجلسنا تحت ظلال أغصان زيتونها المتشابك. يحدثنا مرافقنا عن كيفية استغلال الرياح التي تهب على المنطقة في استخراج الماء لسقي المزارع، بواسطة مراوح تديرها الرياح التي كثيرا ما تهب على المنطقة.

قبل أن يحين موعد سباقات الخيول، نقول بجولة حول المدينة، حيث خيام البدو، ندخل أقرب خيمة يرحب بنا أهلها، يحدثنا رب العائلة فهد الحميد من بني خالد، يقول إنه باع حلاله ولم يعد يرتحل منذ ست سنوات، فالبادية تحتاج إلى سيارة، لذلك آثر الاستقرار على أطراف المدينة، وهو الآن لا يعمل ويتكفل أقرباؤه وقبيلته بمعيشته ومعيشة عائلته. نستغرب حديثه، نودعه والفضول يدفعنا بقوة لسبر أغوار البادية، هل تغير البدوي إلى هذا الحد؟ البدوي المعروف بالخشونة وتحمل شظف العيش هل أصبح لا يطيق صحراءه دون سيارة ودون رفاهية أهل المدينة؟ بينما ابن المدينة أصبح يعيش حياة أقسى من ذي قبل، فهو يعمل ليلا نهارا لتأمين مستلزمات الحياة. على كل لماذا نفكر كثيرا، ها هي البادية أمامنا ولندعها تجيب عن فضولنا، ها هي مضارب قريبة، لنتجه إليها، لكن ما بالهم يتراكضون؟ نحاول التحدث معهم، يجيبوننا دون أن يتوقفوا ونعلم أنهم ذاهبون إلى المضمار لحضو سباق الخيل من بدايته، ليس باليد حيلة، نتركهم ونتجه أيضا إلى المضمار.

الجواد العربي وشموخه

إن الجواد العربي له ارتباط وثيق بتاريخنا، فلا تخلو صفحة من صفحات تاريخنا وأدبنا منه، كان بمثابة سلاح المدرعات في يومنا الحاضر، اعتمد عليه العربي في فتوحاته، فهو شريك له بانتصاراته. وللجواد العربي ميزات جسدية ونفسية، جعلت منه محط أنظار العالم، واستفاد منه الغرب في تحسين سلالات خيولهم، ولضمان نقاء سلالاته- أنشئت منظمة دولية للحفاظ على أصالته ونقاء دمه. أما بالنسبة للدول العربية فلعدة سنوات خلت لم يكن هناك اهتمام رسمي من قبل الحكومات العربية بالجواد العربي، لكنه وفي السنوات الأخيرة بدأت بعض الحكومات العربية توجه اهتماما خاصا لهذا المخلوق النبيل، وفي مقدمة هذه الدول سوريا، التي تعتبر باديتها المنشأ الأساسي للخيول العربية في العالم، حيث تقطنها قبيلة عنزة وتفرعاتها، وهي أكبر قبيلة عربية تهتم بتربية الجياد العربية. ومن مظاهر اهتمام الحكومة السورية بالجواد العربي، إنشاء لجنة للحفاظ عليه. وتشجيعا لمربي الخيول الأصيلة هناك تركيز دائم على سباقات الخيل، تبذل خلالها الدولة الجوائز المعنوية والمالية القيمة للجواد العربي الفائز. وقد شهد المضهار سباقات متنوعة للخيول الأصيلة، سباقات مسافات قصيرة، سباقات تحمل، سباقات جمال ( برغم أن الجواد العربي من أجمل الخيول على الإطلاق إلا أن هناك تمايزا بين جواد وآخر).

بعد خروجنا من المضمار نتوقف أمام سيارة فارهة بداخلها ست كؤوس، تعود السيارة لـ(عقل ممدوح الناصيف) ابن شيخ عشيرة النعيم في محافظة حمص، شارك بتسعة جياد وفاز بستة كؤوس، يقول عقل: إن قبيلتنا من أكثر القبائل اهتماما بالخيول العربية الأصيلة، وحين قدمت قبيلتنا من الحجاز كانت برفقتها جياد صقلاوية وكحيلات، ومازلنا إلى الآن محافظين على نقاء سلالاتها، بالإضافة لامتلاكنا الآن أرسانا متعددة أخرى من الجياد العربية الأصيلة، نشارك بها في جميع السباقات التي تنظم.

ويضيف قائلا: السيارة لم تأخذ مكان الجواد نهائيا ولم تفقدنا الاهتمام به، فنحن مازلنا نصيد الطيور على ظهور الخيل العربية، ومازلنا نتفاخر بما لدينا من جياد عربية أصيلة، وما السيارة إلا وسيلة للتنقل.

عقل ابن شيخ عشيرة النعيم، يعيش رفاهية ابن المدينة، ويقول إن قسما كبيرا من القبيلة يعيشون حياة أهل المدينة، وكثيرا منهم نالوا أعلى الدرجات العلمية، لكنهم مازالوا يحافظون على الكثير من العادات البدوية، وهم يكنون الاحترام والتقدير لشيخ القبيلة، كما أن هناك قسما من القبيلة مازال يقطن الخيام ويرعى الماشية وهذه الحياة البدوية لم تعد كما في السابق حياة شظف وقسوة، فالسيارة أصبحت ضرورية للبدوي للتنقل ونقل الماشية، كما أن الخيام أصبحت مجهزة بكل ما هو عصري من تلفزيون إلى موقد الغاز إلى غيره من لوازم الحياة العصرية، فأصبح من المألوف منظر الخيمة وبجانبها مولد الكهرباء والسيارة. أما المدارس والتعليم فإنه إلزامي ومتوافر للبدو بما يناسب حياتهم حيث أنشأت الدولة لهم مدارس متنقلة تنتقل معهم أينما حلوا وارتحلوا.

تنقضي آخر أيام المهرجان كالحلم، وقبل أن نودع المدينة وأن لهـا، نذهب في جولة إلى باديتها. خيام مترامية متباعدة، قطعان ماشية هنا وهناك، سيارات النقل ومولدات الكهرباء بجانب الخيام كما أخبرنا عقل الناصيف. نتوقف عند إحدى الخيام، يستقيلنا أهلها بحرارة، نعلم أنهم من قبيلة الحديدية، وعند جلوسنا بالمضافة يلفت انتباهنا موقد الغاز الذي حل مكان موقد الفحم وإبريق الشاي الذي أخذ يشارك القهوة العربية مكانتها والتي كانت دلالها تميز خيمة البدوي وتضفي عليها سحرا وجمالا، نعلم أن لديهم قطعة أرض لرعي الماشية، المدرسة المتنقلة قرب مضاربهم. لكن برغم هذا التغيير في أسلوب الحياة إلا أنه لم يمس داخلهم، فمازالوا يتحلون بالعادات البدوية والكرم العربي الأصيل، وهذا ما شعرنا به من خلال استقبالهم لنا ومن خلال ترحيبهم الحار قبل معرفتهم من نكون، كان استقبالا لا نستطيع أن ننساه. نشكره م ونودعهـم.

نتوقف بعد أميال قرب بدويات قادمات من صوب قطيع الغنم يحملن على رءوسهن قدور الحليب، نستوقفهن ونتحدث إليهن، نعلم أنهن يقطن في المنزل القريب، وليس بخيام، نقبل دعوتهن، تستضيفنا الأسرة، وعندما يعلم ربها أدهم متعب الحسين من قبيلة بني خالد من نكون يقول معلقا: الأجانب يأتون لمشاهدة الآثار وأنتم تأتون لمشاهدتنا، فأوضح له أن بغيتنا هي التعرف عليهم، فنحن أبناء أمة واحدة ومن واجب كل منا التعرف على الآخر وظروفه، فهذه المعرفة تقرب ما بين الأشقاء. يوافقني الرأي ويحدثنا عن وضعه فهو بدوي يهوى الزراعة، وزوجته ابنة عمه تهوى حياة البادية، ولذلك فهو مجمع بين الحياتين، لديه قطعة أرض يزرعها ولديه ماشية تهتم بها زوجته. نودعه وننطلق عائدين إلى تدمر. نراقب أراضي البادية الخضراء. هذا الخضار ليس إلا نتيجة اهـتمام الدولة بالبادية، حيث نفذ مشروع لإحياء البادية بإيجاد مستوطنات دائمة مزودة بالمياه، وبناء عدد من السدود السطحية والآبار الارتوازية المجهزة بالمحركات والمعالف.

نصل إلى تدمر، الهدوء يخيم عليها، خالية إلا من بعض الجماعات السياحية بين الآثار بعد أن كانت بالأمس تعج بالصخب والفرح. يقول لنا موظف النقل عدنان الحسين: لقد اعتدنا وجود الناس والحركة في الأيام الماضية، واليوم نشعر بفراغ كبير، عادت حياتنا رتيبة كما في السابق.

يقول خالد الأسعد مدير آثار متحف تدمر: كانت المدينة في السابق تعاني من قلة الحركة الرتابة، لكن وجود الطريق الدولي بين دمشق والفرات، أعاد لتدمر بعض ملامح الصورة القديمة، عندما كانت عاصمة التجارة الدولية في ما يسمى بطريق الحرير، والآن أصبحت الزيارة إليها سهلة وممتعة.

ودع المدينة وأهلها ونقفل عائدين، ونحن نفكر، هل خمسة أيام كانت كافية فعلا؟، يفترض. لكننا نشعر أننا لم نرتو منهـا ومن باديتهـا.

 

خيرية الزبيدي 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات