صناعة المحتوى الثقافي العربي أهميتها وتحدياتها

صناعة المحتوى الثقافي العربي أهميتها وتحدياتها

«المحتوى هو الملك» فهو المحرّك الرئيسي لاقتصاد المعرفة، وهو الذي يوفر معظم الوسائل الخاصة بزيادة إنتاجية عمالة المصانع والمكاتب والفصول، وصناعة الثقافة، ومن ثم، صناعة المحتوى الثقافي، من أهم صناعات اقتصاد المعرفة ومن أكثر تطبيقات المعلوماتية عائدًا وإن كان التركيز قد انصب حتى الآن على إرساء البنى التحتية الأساسية لمجتمع المعرفة، فقد أيقن الجميع أن المحتوى هو التحدي الحقيقي، فهو أهم مقومات هذا المجتمع بلا منازع، وهو ساحة السباق الساخنة التي تشهد - من جانب - تنافسًا شرسًا بين الكبار للهيمنة على السوق العالمية لاقتصاد المعرفة، ومن جانب آخر نضالاً مريرًا من قبل الدول النامية سعيًا للحاق بركب مجتمع المعرفة الذي أصبح شعاره: «لحاق أو انسحاق».

من منظور عربي، يمثل المحتوى الثقافي أهم فروع صناعة المحتوى، وهو يشمل مجالات رئيسية عدة:

  • محتوى التعلم الإلكتروني.
  • محتوى الإعلام الإلكتروني.
  • محتوى التراث الثقافي الإلكتروني.
  • محتوى الفنون الإلكترونية.
  • محتوى دعم الحوار الثقافي.
  • محتوى المنزل الإلكتروني.
  • محتوى الجماعات المحلية الإلكترونية.
  • محتوى الاحتواء الإلكتروني.

يتسم المحتوى الثقافي بخصاص عدة تميّزه عن غيره، ومن أهم هذه الخصائص:

  • وفرة مصادر المعلومات وشدة تنوّعها.
  • تنوع فئات المستفيدين من حيث السن ومستوى التعليم واختلاف غايات البحث عن المعلومات الثقافية.
  • حاجة المعلومات الثقافية إلى طرحها في سياق حضاري أشمل حتى تبرز جوانبه الإنسانية والمعرفية.
  • شدة الطلب على التقانات المتقدمة لرقمنة مصادر المعلومات ومعالجتها وعرضها.
  • معظم التطبيقات وأدوات معالجة المحتوى ووسائل توزيعه تتسم جميعها بكونها كثيفة اللغة، مما يستوجب معه اعتبار اللغة وحوسبتها مدخلاً أساسيًا في وضع استراتيجيات إرساء صناعة المحتوى الثقافي العربي.

ثانيًا- تزايد الطلب على صناعة المحتوى الثقافي

هناك عملان رئيسيان تطبيقي وتقاني وراء تعاظم أهمية عنصر المحتوى في منظومة التنمية المعلوماتية، وهما:

أ- طلب متزايد من منظور تطبيقي: تنامي الطلب على المحتوى تعليميًا وإعلاميًا وثقافيًا، وإبداعيًا، ولغويًا، واجتماعيًا، ونوجز ذلك في الأسباب التالية:

- تعليميًا: بسبب تضخم المادة التعليمية، من جانب، والتعليم المستمر مدى الحياة من جانب آخر، حيث يحتاج إلى محتوى متجدد ومتنوع يلبي مطالب فئات المتعلمين المتعددة والمتنوعة.

- إعلاميًا: نظرًا لتوجه الإعلام حاليًا صوب التوسع والتخصص وكلا التوجهين يحتاج إلى محتوى أكثر حجمًا وتنوعًا وتعمقًا لتغطية مطالب فئات الجماهير شديدة التنوع ثقافة وتخصصًا.

- ثقافيًا: نظرًا لتنامي الدور الذي تلعبه الثقافة في التنمية المجتمعية الشاملة، ومن ثم تنوّع مجالاتها وإشكالياتها، علاوة على ما أضافته إليها العولمة من أهمية سواء أكانت هذه العولمة وفاقًا أم صراعًا.

- إبداعيًا: أصبح الإبداع، الفكري والأدبي والفني شرها معلوماتيًا، وذلك بسبب تنامي التوجه الفكري العابر للتخصصية، وضرورة تناص العمل الروائي مع غيره من الأعمال، وتنامي نزعة تهجين الفنون التي تدمج بين فنون المراحل والشعوب المختلفة.

- لغويًا: تتوجه الإنترنت حاليًا نحو ما يعرف بـ«الويب الدلالي Semantic Web»، وهو ما يتطلب تطوير تطبيقات لغوية ذكية لتحليل محتوى الوثائق والفهم الأتوماتي للنصوص، وكلها تطبيقات كثيفة المحتوى، ومن زاوية أخرى. تمثل صناعة المحتوى، بما توفره من ذخائر النصوص ونظم الترجمة الآلية، المنهل الأساسي للتطوير اللغوي: تنظيرًا ومعجمًا، تعليمًا وتعلمًا، استخدامًا وتوثيقًا.

- اجتماعيًا: تتطلب التنمية المجتمعية الشاملة إنتاج محتوى يلبي مطالب الجماعات المحلية وفئات المجتمع على اختلاف مستوياتها وقدراتها، وهو محتوى شديد التنوع والاتساع ويتطلب إبداعًا اجتماعيًا أصيلاً.

ب- طلب متزايد من منظور تقاني: هناك العديد من التقانات التي تعمل على زيادة الطلب على المحتوى من أهمها:

  • تقانة اتصالات الحزمة العريضة Broad Bard ونهمها الشديد للمحتوى لملء سعتها الهائلة.
  • تقانة الجيل الثالث من الهواتف النقالة، وهو ما يتطلب محتوى مغايرًا، يتميز بالتركيز والإيجاز، وبالقدرة على إضافة اللمسة الشخصية، إضافة إلى توفير وسائل طيعة لتسهيل عملية الإبحار، وفاعلية التفاعل بين الأفراد. وبينهم وبين مصادر المعلومات.
  • تقانة الواقع الخائلي Virtual Reality الذي يحتاج إلى كم هائل من البيانات والمعلومات لبناء عوالمه الرمزية وتشكيل كائناته الرقمية.
  • تقانة «فيديو - تحت - الطلب»، والتي تعتمد - أساسًا - على وفرة المحتوى لتوسيع نطاق الاختيار أمام المشاهد.

ثالثًا- تحديات إقامة صناعة المحتوى الثقافي العربي

يواجه العالم العربي في إقامة صناعة المحتوى الثقافي تحديات عدة من أهمها:

أ- تحدي التوجه نحو عولمة صناعة المحتوى: حيث تسعى الشركات المتعددة الجنسيات إلى أن تجعل صناعة المحتوى صناعة عولمية كثيفة، التقانة كثيفة رأس المال، ويشمل التوجه العولمي جميع مقومات صناعة المحتوى والتي نوجزها في إطار ثلاثية المادة الخام وآلة المعالجة ووسائل التوزيع. المادة الخام وتمثلها مصادر المحتوى، وآلة المعالجة وتمثلها برمجيات التعامل مع المحتوى اللازمة لاقتنائه وإعداده رقميًا، ومعالجته آليًا، ووسائل تأمين مواقعه والحفاظ على حقوق مورديه وخصوصية مستخدميه، لتسيطر شركة آي.بي.إم على الساحة، وتأتي شركة ميكروسوفت رائدة تطوير برمجيات الحاسوب الأساسية لتنتزع السيادة من خصائص العتاد، وهاهي الآن تكاد تواجه المصير ذاته على يد الشركات المسيطرة على المحتوى مثل جوجل وآبل، كما أشرنا سلفًا، ووسائل التوزيع وتمثلها منافذ توزيع منتجات صناعة المحتوى من سلع وخدمات من خلال شبكات التوزيع، ووسائل إلكترونية أخرى.

سيطرت العولمة في البداية على شق التوزيع من خلال شبكة الإنترنت التي تخضع لسيطرة أمريكية شبه تامة، ثم احتكار صناعة برمجيات التعامل مع المحتوى من نشر إلكتروني ومحركات بحث ونظم ترجمة آلية ونظم تصميم إدارة مواقع المحتوى وما شابه، وتسعى الشركات المتعددة الجنسية إلى احتكار مصادر المحتوى ذاتها، يشهد ذلك على المعركة الدائرة حاليًا بين شركتي جوجل وآبل من خلال توفير هواتف نقالة متقدمة ومساعدات رقمية تستطيع النفاذ مباشرة إلى مصادر المحتوى من موسيقى وأغان وفيديو ووثائق إلكترونية وخلافه، وهكذا - كما أورد البعض حديثًا - ينتقل مستخدم تقانة المعلومات والاتصالات أسيرًا من قبضة سجان إلى سجان آخر، في البداية كان السجان هو صانع العتاد Hardware. إن كان هذا حال مستخدم ت.م.ص عمومًا فما بال المستخدم العربي الذي لم يعد سجينًا للشركات الكبرى، بل ذليلاً لها أيضًا.

ب- تحدي الاندماج التقاني: تقوم صناعة المحتوى على اندماج عدد كبير من التقانات، وهو ما يزيد من صعوبة ترسيخ تقانات المحتوى في التربة العربية، ومن أبرز مظاهر هذا الاندماج هو الذي بين الإنترنت وتقانة الوسائط المتعددة والهواتف النقالة، وعادة ما يصاحب مثل هذه الاندماجات ظهور قياسيات جديدة تفرض عادة بحكم الأمر الواقع من قبل المصنعين والمطوّرين أصحاب أكبر نصيب من السوق العالمي، وهو أمر يستوجب تأهيل الكوادر العربية القادرة على النفاذ إلى التفاصيل الفنية لهذه القياسيات نظرًا لأهمية ذلك في عمليات التصميم التكنولوجي واقتناء مقومات صناعة المحتوى، ومع الأسف، فإن إسهام الخبراء العرب في وضع هذه القياسيات وجولات التفاوض الفني بشأنها مازال محدودًا للغاية.

ج- تحدي الأعباء الإضافية للملكية الفكرية: سوف تضيف رسوم الملكية الفكرية إلى فاتورة نقل التقانة إلى الدول النامية، خاصة أن الاتفاقيات الراهنة لحماية الملكية الفكرية قد انحازت، في كثير من جوانبها، إلى مالكي المحتوى على حساب المستهلك، وتزداد يومًا عن يوم وسائل حماية الملكية الفكرية صرامة وإحكامًا وإلزامًا. من ضمن هذه الوسائل تحويل حق استخدام البرمجيات الشائعة الاستخدام، مثل برنامج تنسيق الكلمات مثلاً، من امتلاك نسخة من البرنامج إلى خدمة يتم طلبها من الحاسوب الخادم الذي تسيطر عليه الشركة مالكة البرنامج.

من زاوية أخرى، وبينما تولي منظمة التجارة العالمية اهتمامًا كبيرًا بحماية الملكية الفكرية للأفراد والمؤسسات التجارية، فقد أغفلت تمامًا الملكية الفكرية الجماعية لتصبح كنوز الفنون وتراثها الثقافي مباحًا أمام الجميع، مثل موسيقى الجاز والصناعات الشعبية اليدوية والآثار الفرعونية.

د- تحدي استشراق عصر المعلومات: على صعيد آخر، تسعى القوى السياسية المناوئة لنا، من خلال مؤسساتها الأكاديمية والإعلامية ومراكز بحوثها المتخصصة، إلى توليد قدر كبير من المعرفة الزائفة علميًا لمساندة أهدافها وتبرير ممارساتها المنحازة ضد الدول العربية والشعوب الإسلامية.

ولا وجه للمقارنة بين هذا الاستشراق الجديد وسلفه القديم، وليد مرحلة الاستعمار، فهو بلاشك أكثر عداء، ويأتي هذه المرة مدججًا بأمضى الوسائل التكنولوجية القادرة على تشويه الحقائق وتزييف الوثائق الأصلية، فضلاً عن براعة استخدام وسائل العرض الحديثة لإحداث التأثير والإبهار.

هـ - التحدي التشريعي: تواجه الدول العربية على صعيد صناعة المحتوى تحديًا تشريعياً غير مسبوق وذلك لاسباب عدة من أهمها:

  • تعدد أصحاب المصلحة في معظم فروع صناعة المحتوى وصعوبة سن التشريعات المتوازنة التي توفق بين مصالحهم.
  • التناقض الجوهري بين المحافظة على الأمن القومي والحماية ضد جرائم وإرهاب الفضاء المعلوماتي وبين المحافظة على خصوصية الأفراد وإساءة استخدام بياناتهم الشخصية المتوافرة على الإنترنت.
  • التناقض الجوهري بين الحفاظ على حقوق موردي المحتوى وبرمجياته وبين حماية خصوصية الأفراد.

 

 

نبيل علي