هذا حوار من
طراز خاص..
طرفة الأول مثقف
عربي تجمعت لديه معارف وخبرات مختلفة، فهو أستاذ للفلسفة درس سقراط وأرسطو وأفلاطون
وابن رشد وديكارت... وعندما فعل كل ذلك لم يحلق في سماء الفكر وإنما نظر لهذه
الأفكار الإنسانية كتراث لا بد أن يساعد على تقدم الإنسان، كأدوات من أجل حياة
أفضل. قبلها وبعدها.. عمل بالسياسة... يكن مجرد باحث لشؤونها وإنما كان ممارساً
لها، معتنقاً الفكر القومي العربي في شكله الرحب غير المتعصب.. ذلك أن العالم لديه
شيء متصل، و"الخار" بالنسبة لنا لا مفر منه فنحن ـ حسب تعبيره ـ متورطون فيه،
ومتطورون معه.
عمل في مواقع
المعارضة لنظم الحكم السائدة بالمنطقة العربية، وعمل بمواقع الحكم وزيرا للتربية
والتعليم وبين الموقعين كان يعتقد أن ذلك هو دور المثقف.. أن يشارك لا أن يراقب..
أن يقدم إسهاماً في إصلاح شؤون مجتمعه لا أن يقف على رصيف الحياف ويلعن كل شيء! إنه
الدكتور أحمد و محمود المراغي الربعي الذي يشغل الآن منصب وزير التربية والتعليم
العالي بدولة الكويت وقد توك كرسي الفلسفة بالجامعة كي يحاول تطبيق هذه الأفكار في
الواقع، وهو منصب حساس لأن مادته الأساسية هي الإنسان في جميع مراحله العمرية
وأطواره الفكرية، كما أنه كاتب عمود سياسي في الصحافة الكويتية لفترة
طويلة.
أما محاوره فهو:
محمود المراغي الذي انشغل أيضاً وطوال حياته الصحفية ـ ككاتب ومدير ورئيس تحرير
لعدة صحف ـ بقضية العروبة والوحدة العربية.
عمل ـ لبعض الوقت
ـ خبيراً غير متفرغ بمجلس الوحدة الاقتصادية العربية ومارس كلى الوقت الكتابة
والتأليف عن الاقتصاد المصري والعربي وهموم الوطن الكبير.
ومن احتكاك
الطرفين، وحول واقع ومستقبل الوطن الكبير يأتي هذا الحوار الذي دارت وقائعه بعيداً
عن الرسميات.. وفي القاهرة.
- قد تختلف معي أو تتفق فيما سوف أقول وفي كل
الأحوال سوف يكون ذلك مهماً فيما نتحاور حوله.
ألاحظ ويلاحظ الكثيرون، أن هناك
تردياً عربياً عاماً.. هناك تراجع واسع.. من أبرز مظاهره: تراجع الشعور العام
بالانتماء القومي.. لم يعد هذا الشعور جارفاً كما كان.
كذلك، هناك تراجع في قضية
الاستقلال.. صحيح أن الأعلام مرفوعة والسفارات تشير لكلمة الدولة المستقلة لكن
الأكيد أن التأثيرات الخارجية قد أصبحت أشد وطأة بالنسبة للقرار العربي.. حتى
الجانب الاقتصادي، ومع نمو الهياكل الأساسية، وبروز البترول ومنذ السبعينيات كثروة
أساسية كبرى.. وبرغم نشوء صناعات هنا أو هناك..مع كل ذلك هناك نمو دخل بالسالب في
بعض البلدان، وهناك مشاكل ومتاعب اقتصادية على الجانبين لدى الأثرياء نسباً، ولدى
الفقراء نسبياً..أو الفقراء فقراً مطلقاً..
أيضا، وبالنسبة للعلاقات العربية ـ
العربية، هناك ترد وتراجع في مستوى العلاقة... ولكن، وعلى الجانب الآخر، وهو ما
يستحق التأمل فإن هناك مظاهر تقدم.
هناك مستويات معيشة في الكثير من البلدان
تشير إلى الأفضل.. هناك ذوق عام أرقى.. هناك رجال قادرون على بناء المشروعات وتنمية
رءوس الأموال.. وهناك تواصل أكبر مع العالم الخارجي.
تلك رءوس مسائل تجعلنا نطرح
السؤال: هل نحن أمام أمة تتراجع، وأفراد تتقدم.. أمة تذبل أحلامها، وأفراد يحققون
نجاحاتهم الخاصة، بمنطق "نفسي.. نفسي" والهروب للخلاص الفردي؟
هل نحن ـ أمام هذه
الظاهرة؟ وهل تتفق في التشخيص؟
ـ أعتقد أن
منطقتنا العربية لم تشهد تطورا طبيعيا متدرجا كما هو الحال في المجتمعات الأخرى
المتقدمة أو التي في طريق النمو، وكما حدث في بعض بلدان آسيا على سبيل المثال.. ليس
هناك مشروع تنموي مشترك على مستوى الفكر أو الاقتصاد.. وليست لدينا برنامج واقعي
يحدد أي أمة نريد، وهو ما يجعلك تقول إن هناك تراجعا قوميا.. لكني قد أختلف بعض
الشيء في هذا التشخيص، فما نسميه شعورا قوميا جارفا في الماضي كان مجرد شعور
عاطفي.. كانت مسألة إعلامية أكثر منها حركة في الاقتصاد والواقع.. ولم يحدث في
التاريخ أن توحدت أمة على أساس الشعور العاطفي فقط. ما يوحد الأمم: السكك الحديدية
والمواصلات وتبادل البضائع والصناعات وتبادل المصالح.
وقد شهدنا في
العلاقات العربية ـ العربية وحتى في العلاقات الدولية ظاهرة غريبة وهي أننا أحلنا
كلمة مصلحة إلى مشكلة أخلاقية في حيى أنها كلمة سياسية ومفهوم علمي.. ولا عيب أن
تكون بيننا مصالح، ولا يمكن أن يعيش البشر دون أن تكون بينهم مصالح.
عربيا، ألاحظ
أننا لم نتعامل مع بعضنا بعضا على أساس أننا أمة واحدة تربطها مصالح متبادلة.. بل
إنه بحجة الانتماء القومي حاول كل منا أن يغفل الجانب المتعلق بطبيعة العلاقة
الخاصة بين كل دولة وأخرى.. وهكذا ظلت العلاقة القومية مجرد علاقة عاطفية.. فانعقدت
عشرات المؤتمرات للقمة العربية ولم تبحث العلاقات الاقتصادية بين دولنا.
حتى المشاريع
الثنائية والثلاثية الوحدوية التي تمت، كان طابعها عاطفيا ولم تنبن على أساس
الاقتصاد والمصلحة المشتركة.
وقد عرضت في
طرحك تراجعا آخر في قضية الاستقلال وأقول إننا قد مارسنا التبشير بالقضاء على
الاستعمار، لكننا لم نطرح السؤال: وماذا يعد القضاء عليه؟ ولذلك فقد ووجهنا
بالحقيقة عندما رحل المستعمرون.. فوجئنا بأننا لم نعد برنامجا لمواجهة مرحلة
البناء.
إن هناك قضيتين
أساسيتين.. الأولى: أننا لا سؤال للتفكير: هل للكيانات الصغيرة مستقبل؟ نستطيع أن
نكون بمعزل عن العالم حتى لو شئنا ذلك.. فنحن ـ باعتبارنا دولا منتجة لمادة أساسية
تهم العالم وهي النفط ـ فنحن إذن متورطون في العالم ، والعالم متورط فينا لا فكاك
من ذلك.
القضية الثانية،
التي تجعل هـناك خصوصية للحالة العربية، هي وجود إسرائيل منذ خمسين عاما، وبما
جعلنا وطوال هذه المدة نمر من أزمة إلى أخرى.. فإسرائيل لم تنشأ نشأة طبيعية، لم
تنشأ نتيجة حاجة وطنية في فلسطين، لكنها نشأت بفعل الحروب الدولية، وتواطؤ دول ذات
مصلحة في تدمير المنطقة.. ولننظر لأثر الميزانيات العسكرية في بلد مثل مصر أو سوريا
حيث ارتفع نصيب الميزانية إلى 50 أو 60 في المائة من إجمالي ميزانية الدولة، وربما
من الناتج القومي.. وذلك مقابل دعم غربي دائم لإسرائيل.
وفي هذه القضية
أحب أن أقول إننا لم نستطع أن ندير عملية الحرب مع إسرائيل، كما أننا لا نستطيع
إدارة عملية السلام، في الحالين كانت الإدارة سيئة، وقد أدرنا على أساس أننا أجزاء،
وأقطار ولم ندرها كأمة واحدة.
أعود فأقول إننا
متورطون في العالم بحكم النفط "متورطون، في إسرائيل بحكم الواقع، متورطون في
"التجزئة" بحكم ما ورثناه.. لم يحدث في منطقتنا تطور طبيعي.. وكلا المشروعين:
القومي والإسلامي لم يقدما برامج تفصيلية واضحة، لقد سيطرت علينا روح الشعر ولم
تسيطر روح المصلحة والواقع.
أمة تتراجع وأفراد
يتقدمون
- خلال هذا التشخيص الواسع لجذور الأزمة، هل
تتفق إذن أم تختلف حول أننا أمام "أمة تتراجع"، بشكل نسبي؟.
- أتفق في ذلك،
فقياسا على ما يحدث في العالم وما يحدث عندنا فإننا نتراجع سواء كان ذلك القياس مع
الدول المتقدمة أو مع دول أخرى كالدول الآسيوية.. ويكفي أن نسجل عدد الحروب
(العربية - العربية) وكمية الدماء التي تراق في صراع (عربي- عربي)، ويكفي أن نراجع
قضية حقوق الإنسان، أو إرهاب الشارع وإرهاب الدولة في عدد من الدول العربية.. هـناك
إذن مؤشرات تراجع واضحة.
- حتى في مجال حقوق الإنسان، وبرغم التحديث
النسبي الذي يحدث في الدول العربية؟.
- العالم يتوسع
في قضية حقوق الإنسان، لكننا في عالمنا العربي نواجه أزمة حقيقية.. ليس بالمعنى
السياسي وحده، و،إنما بالمعنى الواسع لحقوق الإنسان والذي يشمل حق الإنسان أن
يتعلم، وأن يعرف وأن يعمل وأن يسكن وأن يحافظ على كرامته ناهيك عن حقه في حياة حرة
يحكمها القانون، فلا يعتقل دون محاكمة، أو يسجن دون ذنب، وبطبيعة الحال فالحديث
هـنا بشكل عام فبعض الدول العربية تشهد تطورا إيجابيا في هذا المجال، وبعضها يتجه
للأزمة، بل يعيش الكارثة.. ولكن وفي المتوسط العام فإن وضع حقوق الإنسان في العالم
العربي "غير مشجع".
- الأزمة الآن كثر شمولا من أي وقت مضى..
أليس كذلك؟.
- أزعم أنني من
التيار التقدمي في الوطن العربي، ومع ذلك فإن مظاهر الأزمة في الدول التي نسميها
تقليدية أخف من غيرها.. وسجل حقوق الإنسان ـ بالمعنى الواسع فيها - سجل أفضل..
والعدالة الاجتماعية متحققة فيها إلى حد ما.. ولننظر لحالة العراق وما بددته الحروب
العراقية فيها من أموال.. أظن أن هناك خللا، وأنه لم يعد بالإمكان استخدام اصطلاح
دولة ثورية وأخرى تقليدية.. لكننا لا بد أن ننظر للمحصلة النهائية في هـذه الدولة
أو تلك. وأعود لما تطرحه من أن الأزمة- بالمقاييس الكمية على الأقل- في اتساع،
فأجيب بنعم، وهو أمر يتضح على سبيل المثال من حرب اليمن الأخيرة والتي عكست عمق
الأزمة وأبرزتها كأزمة مجتمعية تتصل بالتركيبة الاجتماعية أكثر منها متصلة
بالتركيبة أو السلوك السياسي.
وفي هذا المجال،
وأنت تتحدث عن تراجع الفكرة القومية أقول إن فكرة الوطنية في حد ذاتها - وهي الحد
الأدنى- قد تراجعت في العديد من الدول العربية.. تراجعت الوطنية وتقدمت أفكار
القبيلة والجماعة والطائفة.. وفي مثل هذه الظروف لا يمكن الحديث عن الهوية،
وبالتالي فلا حديث عن التنمية الشاملة.
- كما قلت سابقا فهـناك نجاحات فردية، سواء
بإنجاز علمي هنا أو هناك.. أو بإنجاز مادي لأشخاص يبنون المشروعات ويكونون
الثروات.
هل هي فكرة الخلاص الفردي وسط الأزمة العامة؟ هل نحن بالفعل أمام فكرة
أمة تتراجع وأفراد يتقدمون؟ وبدلا من أن كان الجميع يعومون مع التيار الصاعد.. أصبح
على كل منا أن يجد طريقه في السباحة، بلى وأن يعوم ضد التيار.. المنحسر في
الواقع؟.
- اتفقنا على أن
هناك أزمة عامة.. وأتفق أن هناك نجاحات فردية.. هناك مثلا فئة تثري، بعضها بحق
وشرف، وبعضها بغير حق.. لكنني أسأل: ما هو دور هـؤلاء وأولئك في مجتمعاتهم؟ لقد
شاهدنا رجال الأعمال لفي الغرب وهم يقيمون المؤسسات والجامعات والمكتبات، ورأيناهم
وهم يسهمون في التنمية سواء كانت تنمية اقتصادية أو اجتماعية.. هذا ما رأينا غربا..
فماذا نجد عندنا؟ كم فرداً ساهم في جائزة ثقافية أو بناء مؤسسة أو إنشاء مكتبة،
برغم حاجة مجتمعاتنا لذلك كله.. في مصر مثلا، البلد بحاجة للكثير وعدد الأغنياء
كبير لكن مساهمتهم محدودة جدا، " ذلك مجرد مثال.
- ألا يدعونا ذلك للحديث عن موقع المثقفين من
الأزمة؟.
- لست من
المتشائمين لكنني محبط من المثقف العربي.. هناك ليبراليون كثيرون، تعلموا في الداخل
أو الخارج.. أين هم الآن؟ ما هو دورهم في خدمة مجتمعاتهم؟ ما هو دورهم في الحياة
الفكرية؟ ما هو دور أساتذة الجامعات المنتشرين في طول العالم العربي وعرضه؟! السؤال
محير وهروب المثقفين هو الحقيقة المؤسفة، سواء كان ذلك الهروب في الداخل أو لا
الخارج. وحجة المثقف أنه ليس هناك ما يفعله، وفي حجة تصيب وتخطئ. ولنأخذ الهاربين
في الداخل المتجهين إلى عملهم صباحاً مساء.. ماذا يفعلون؟ ما دورهم؟ وإذا كانت هذه
الفئة المثقفة بلا دور.. فمن الذي سوف يبشر بالتغيير والتقدم وإصلاح حال
المجتمع؟.
طبعا، هناك
استثناءات، لكنهـا في نطاق عدد محدود جدا.. تسألني عن التفسير أقول إن هناك رأيين
خاطئين.. الأول ما يراه البعض من أنه لا بد أن يهرب من الأزمة فينتمي لفئة قليلة
منتفعة هنا أو هناك، ويقدم لها التنظير والتبرير لما تفعل.
أما الخطأ الآخر،
فهو الانضمام لمعارضة محبطة عديمة وغير إيجابية.. أي أن المثقف يتراوح بين موقفين:
أن يكون جزءا من الفساد، أو معارضا له ولكن بطريقة تساند الفساد.
المثقفون
والسلطة
- ما زال التساؤل قائما حول علاقة "المثقف
والسلطة".. وأتحدث هنا عن مشاركة المثقفين وأزمة المثقفين بشكل عام.. فالأنظمة
العربية - في معظمها - متهمة. بأنها لا تتيح فرصة واسعة للمشاركة، ومن ثم فإن
المثقفين يركنون للسلبية.. كل تتفق معي في هذا التشخيص؟.
- جزئيا، أتفق..
لكننا أيضا أمام مشكلة كتلك التي عندها يهرب المثقفون.. تصبح المعارضة عديمة. وهم
اسمه: قدرية الأظمة "وأنه لا راد لقضائها"! عرفتها القرون الأولي للإسلام.. أعني
مشكلة القدرية، وهل الإنسان "مسير أن مخير" وبالمعنى الديني الإلهي.. الآن، نستخدم
القدرية بشكل آخر. هناك مثلا "قدرية الغرب" فيعتقد البعض بأننا محكومون بمؤامرة
محبوكة لا نستطيع أن نفعل إزاءها شيئا.
أيضا هناك "قدرية
الأنظمة"، وفكرة أن "النظام يريد.. فأنا لا أستطيع". وأنا أسأل: أي نظام عربي يمنع
أستاذا جامعياً" أن يضع منهجا جيدا في فصله أي نظام عربي يمنع رجل أعمال أن يبني
مستشفى أو مدرسة
إن هناك شماعات
دائمة.. شماعة الإمبريالية، شماعة النظام.. وهكذا مما قد يركن له المثقف ليأخذ
موقعا سلبيا، وأظن- نعم- أن هناك قرارات وسياسات لا بد أن تتخذها الأنظمة، ولكن،
هناك أيضا أموراً عادية ومهمة في نفس الوقت توفر مساحة العمل.. لمن يرغب.. ومشكلتنا
أن كثيرا من المثقفين يلعنون السلطة ليل نهار، وهم لا يؤدون أي دور إيجابي في
أعمالهم العادية.. مع المواطنين الذين يتعاملون معهم.. مع التلاميذ الذين يجلسون في
فصولهم.. وهكذا..
لا بد أن تكون
هناك مبادرة، وألا ندخل في حرب "طواحين الهواء"، وألا نحجم عن بناء أوطاننا بحجة أن
النظام لا يريد أو الاستعمار لا يرغب.. سياسة "الشماعات" لا تفيد، والأخطاء أحيانا
تكون على الجانبين، والمثال عندي: قضية حقوق الإنسان.. فكما أن هناك نظما تعادي
حقوق الإنسان، فإن هناك مثقفين يفعلون نفس الشيء، وهو ما يجعلنا نقول إن النهضة أو
التخلف أفكار عامة تشمل كل المجتمع، بسلطته ومثقفيه، ولا يمكن أن نستثني
أحدا.
- كممارس تنفيذي، ووزير للتعليم.. هل تعتقد أن
مراكز البحث العلمي في الوطن العربي على المستوى المطلوب؟.
- لقد تدهور
مستوى الجامعات بشكل كبير.. كانت الجامعات في وقت سابق أفضل من حيث نوعية الأستاذ
وأعداد الطلاب.. لم تعد كذلك.
نقطة ثانية هي
علاقة الجامعة بالمجتمع.. إن الرئيس الأمريكي وأو الفرنسي يلجأ للجامعة عندما يريد
اتخاذ قرار.. بينما المؤسسات العلمية عندنا مغيبة.. ولا تشارك في التفكير
الاستراتيجي للوطن، أو حتى على المستوى السياسي العادي.. وإذا سألتني عن أسباب أقول
إنه غياب المسئولية عند الفرد، وهي ظاهرة عربية عامة.. بالإضافة إلى ظرف ذاتي وهو
أن الأستاذ الجامعي - وبدرجات متفاوتة في كل قطر- قد تدهور وضعه فأصبح العامل
الفني.. وأصبح السباك في وضع مادي أفضل منه.. وفي أحسن الأحوال، وفي بلدان يرتفع
فيها مستوى الأجور تصبح العيادة الخاصة للطبيب أفضل من أن يعمل أستاذا جامعيا.. هذا
الوضع عكس عسه دون شك على البحث العلمي.. وأظن أن نظاما ماليا وإداريا مستقلا
لمراكز البحث في بلادنا قد يساعد على نموها.. بالطبع هناك فروق ترتبط بالظروف،
فالجامعات الخليجية تتوافر لها إمكانات نسبية أفضل ومازالت تتعامل مع عدد أقل من
الطلاب مما يساعد على نجاح العملية التعليمية، ومازالت وتستطيع الحصول على خبرات
عالية سواء من أبنائها أو من أبناء دول عربية أخرى مثل مصر وسوريا.. وعلى العكس ففى
ظروف كتلك التي تمر بها مصر غاب الأساتذة الكبار، وجرى تفريغ الجامعات، ولا أبالغ
حين أقول إنه لا يوحد صف ثان من العلماء.
- نتحدث عن الجامعة، وأظن أن البدء من
المدرسة.. كبنية أساسية، ولديك خبرة في ذلك بحكم المهنة والمنصب
الوزاري.
- لقد لمست
الجرح، فالمدرسة الموجودة لدينا ليست كذلك، وأنا أرفع شعار "فلتتحول المدرسة.. إلى
مدرسة".. قديما كانت المدرسة فصلا وكتابا وطالبا.. وقبلها كانت شجرة وظلا يظل
معلما وطلابا.. وفي الحالين كان التعليم ذا تكلفة منخفضة.. الآن يختلف الأمر، لم
يعد الكتاب هو الوسيلة التعليمية الوحيدة أصبح على الطالب أن يتجه إلى فصل بأجهزة
سمعية وبصرية ليتعلم العربية أو الإنجليزية.. ويتجه إلى مختبر ليفيم المواد
العلمية.. ويتعلم الكمبيوتر لكي يتعامل مع العصر.. أصبح التعليم استثمار يحتاج إلى
رأسمال ضخم.
المسالة الأخرى:
عدم وجود إرادة سياسية حاسمة في قضية التعليم.. ومجتمعاتنا لا تحدد ماذا تريد من
التعليم، وقد انعكس كل ذلك على ميزانيات التعليم في الوطن العربي والتي لا تزيد على
(5) أو (6) في المائة من حجم الإنفاق العام في مقابل (40- 50) في المائة للإنفاق
العسكري أحيانا.
وفي آخر إحصاء
لليونسكو تبين أن لدينا "61" مليون أمي.. وسوف يصبحون "65" مليونا عام "2000"..
أليس ذلك مقلقا ومخيفا، خاصة إذا لاحظنا أن هؤلاء أنفسهم هم جنود قواتنا المسلحة
المنوط بها الدفاع عن الأوطان؟.
قضية ثالثة، قد
تبدو فنية، وهي قضية المناهج.. مدارسنا للتلقين، ومناهجنا حشو وتكرار.. ولو ألغينا
نصفها بجرة قلم لكان ذلك أفضل.. وأقول إن المدرسة في العالم الحديث ليست للترفيه..
إنها للجد والعرق والتعب. الطلبة يدخلون متباطئين، ويخرجون مسرعين كمن يخرج من
معتقل.. ذلك أن ما أصبح مطلوبا من الطالب تحصيله.. كثير.. كثير.
و.. كل ذلك لا
يمكن الحديث عنه إلا في إطار مشروع قومي.. مشروع يعيد للعقل اعتباره.. ويعتبر
التعليم هو المدخل الأساسي.. وليس التعليم للعلوم التقليدية فقط، ولكن- وفي
المدرسة- يتعلم الطفل فكرة الوطنية والانتماء.. يتعلم روح التسامح وقبول الرأي
والرأي الآخر.. يتعلم أنه فرد في وطن، له حقوق وعليه واجبات.. وأن الوطن يحكمه
قانون ودستور ومبادئ.. أما الآن فمان الطالب قد يتخرج دون أن يعرف شيئا عن البلاد
المحيطة به، أو ظروف مجتمعه، أو تقاليد إبداء الرأي.. ومن هنا، يولد التعصب
والتطرف.
القضية ملحة
وأتمنى عقد قمة عربية تعالج الأمية على سبيل المثال.. وهذا أفضل من قمة سياسية لا
تقدم ولا تؤخر.
- تتحدث الآن كمثقف.. ولكن كوزير، هل تستطيع
أن تفعل ذلك؟.
- تجربتي الشخصية
تقول، كما عبرت الآن، إن النظام السياسي لا يمنعنا من الإصلاح إن حاولنا.. على
الأقل هذه هي تجربتي الشخصية. لم يتدخل أحد في عملي.. ولم يمنعني أحد من إصلاح ما
أريد.. وإذا فشلت فإنني أتحمل المسئولية.. و.. بالطبع هناك قيود عامة مثل القيد
المالي.. قيد الإمكانات والميزانية، ولكن وفي حدود المتاح فقد بدأنا بنظم لاستقلال
مالي وإداري لكل مدرسة.. ومدير المدرسة يستطيع العمل دون العودة للمركز وهو مدير
تربوي وتعليمي وفني.. أما المسائل المالية والإدارية فلها مختص.. الأمر الأخر؟ أننا
نعيد النظر في المناهج.. والأمر الثالث، هو إطلاق المبادرات الخاصة بإنشاء مؤسسة
أهلية ضخمة يساهم فيها الأفراد والشركات والبنوك.. وغير ذلك.. لرعاية التعليم
وللقيام بمشروعات محددة.. مشروع للمعاقين مثلا، مشروع للمتفوقين، مشروع لمختبرات
الكمبيوتر.. وأظن أن هذه التجربة تحتاج إليها كل البلاد العربية فمهما بلغت
الميزانيات الرسمية سيظل التعليم بحاجة إلى دعم شعبي.
و.. لست بحاجة
للحديث عن أمية إصلاح أوضاع المعلمين، حتى لا يصبح مرفق التعليم طاردا وليس
جاذبا.
نحن
والأصوليون
- نتحدث عن أزمة عربية عامة.. نتحدث عن تراجع
عام وحاجة لنهوض عام.. وتتعدد التأثيرات في الساحة، ولكن الأنظار- عربيا ودوليا-
مشدودة، ومنذ سنوات لمن جرت تسميتهـم بالأصوليين: منابعهم، أهدافهم، فلسفتهم،
مستقبلهم ومستقبل العالم العربي متصادما أو متفاعلا معهم..
- الحركة
الأصولية جاءت كرد فعل لأزمة، لذا 61 مليون أمي في الوطن العربي.. أليس ذلك مقلقاً؟
فإنني أرى أنها بلا مستقبل إلا إذا نجح أطرافها في وضع برنامج يخاطب
الواقع.
وإذا كنا نتحدث
عن الأصوليين الإسلاميين فلا بد أن نقول إننا نعيش مشكلة في علاقتنا بالإسلام..
فهناك أزمة المسلم المعاصر في علاقته بماضي المسلمين.. وهناك أزمة المسلم المعاصر
في علاقته بحاضر الآخرين.. بمعنى أن لدينا ماضيا متطورا وحاضرا متخلفا.. فنستطيع
الحديث عن تطور المسلمين في العلوم العسكرية أو الاقتصادية أو غيرها في عصور سابقة،
بينما نشهد واقعا معيشا متخلفا.. ومن هنا يأتي رد الفعل.. لماذا لا نعود إلى
الماضي..؟.. نعود للسلفية؟.
مشكلة هذه النظرة
أنها لا ترى المحيط الحضاري في كل من الماضي والحاضر.. تحاول نقل نموذج ماض دون
اعتبار للتغيرات.. إنها رؤية عديمة تنقل الماضي للحاضر وبالتالي فهي رؤية خاطئة..
وأصحاب هذه الرؤية يستطيعون مناقشة القضايا العقائدية، لكنهم لا يستطيعون مناقشة
القضايا المعاصرة. يناقشون الاقتصاد مثلا، فيحصرون حديثهم في الربا، ولكن ما المخرج
للأزمة المالية والعلاقات الدولية الجديدة؟.
..ما هي علاقاتنا
بعالم تحكمه البنوك الربوية؟
في مجال آخر،
يناقش أصحاب هذا الاتجاه قضية الخلافة، وينسون أن الإسلام لم يضع نظرية.. لكنه وضع
خطوطا عامة وإرشادات بلا تفاصيل. أمر الإسلام بالشورى، وبالعدل وأمرهم شورى.. و وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.. هاتان
قاعدتان، ولكل عصر أن يضع نموذجه على ضوئهما.. فهل تكون الشورى هي النظام الانتخابي
الحالي والاقتراع السري المباشر..أم هي أهل الحل والعقد ؟.. الآراء تختلف وليس من
حق أحد أن يحتكر قولا ما ويقول:، "هذا هو النظام الإسلامي".
في علاقتنا
بالماضي والحاضر أيضا، هناك مشكلة الواقع المعاصر للآخرين وهو واقع متطور.. نحن
متخلفون والآخرون متطورون وبما يطرح السؤال: ما هي علاقتنا بالآخرين؟.. لدى البعض
رد فعل يرفض النموذج الغربي بأكمله.. وقد نرفض التفسخ أو الانحلال.. ولكن النموذج
الغربي ليس شرا خالصا.. القضية أننا في حالة ارتباك محورها: البحث عن هوية. هل
نستعرض بعض النماذج؟.. هناك نموذج كل أفغانستان نموذج القضاء على نظام سابق وإدخال
نظام إسلامي.. وفي التطبيق نجح الجزء الأول.. وتناحرت القبائل أثناء تطبيق الجزء
الثاني، وباتت حربا بلا علاقة أو شبهة علاقة بالإسلام.
أعود فأكرر أن
الفكر الأصولي سيقع فريسة أزمة داخلية إذا لم يضع برنامجه السياسي والاقتصادي
والاجتماعي.. لماذا لم يضع تصورا متكاملا لمجتمع العدل والمساواة.. في ذلك الشأن
يأتي الانحدار للعنف كما هو في الجزائر.. وهو مقتل الحركات الأصولية.. فالعنف لا
يقيم نموذجا صحيا ولا يمثل بديلا للبرنامج الذي يعالج مشاكل العصر وهموم الأمة،.
الحركة الأصولية لا بد أن تراجع نفسها، وأن تنظر لقضية الماضي والحاضر بشكل عقلاني،
وأن تقدم البديل الحضاري لما هو قائم،
- ولكن، وعلى الرغم من غياب هذه العقلانية
وهذه البرامج فان التيار السلفي يكسب في الشارع؟ .
- في التغيرات
التاريخية تتحرك الملايين وراء أمل. حدث ذلك مع هـتلر، وفي نماذج أخرى كثيرة.. ولكن
- وفي النهاية- لا يصح إلا الصحيح.. أقول ذلك بالنسبة لليمين واليسار وعلى كلا
الجانبين توجد السلفية التي تريد إسقاط الحاضر ولا تملك تصورا للمستقبل.
- هذه في الأصولية بالمعنى السياسي.. ولكن
ألست معي أن هناك ظاهرة إسلامية عامة تصل إلى المواطن الفرد بصرف النظر عن انشغاله
أو عدم انشغاله بالسياسة؟.
نقاشنا ليس مع
الإسلام، فكلنا في هذه الدائرة، والجانب العقائدي ليس محل جدل.. والمكون الروحي
للأمة أساسي حضاري.. لكن النقاش مع ظاهرة الإسلام السياسي، وأن يكون الإسلام في
خدمة المجتمع ووسيلة لتطوره فرسالة الإسلام في النهاية: عزة وكرامة
وعدل.
- لا خلاف حول العقيدة، ولكن البعض يرى أن
العقيدة تقضى بأن يكون الإسلام دينا ودولة.. أي أنه يدخلنا مرة أخرى في دائرة
الإسلام السياسي؟.
- القضية: كيف
نفهم الدين، فإذا تطور فهمنا فلا تناقض بين الدين والدولة. المشكلة أننا نؤسس فكرة
في ذهننا تخصنا نحن، ولا تخص الإسلام.. لا توجد مشكلة ولا أحد يجادل في نص قرآني أو
حديث موحى به .. لكن المشكلة في تفسيرك وتفسيري وتقديس ما هو غير مقدس.. فالأحاديث
النبوية- على سبيل المثال- قسمان.. قسم موحى به وأقوال أخرى للرسول تمثل قسما آخر
وموقع الاثنين يختلف. أيضا، فان العبودية والقدسية لله وحده.. لكن البعض يمد هذه
المظلة للأشخاص،. مما يتناقض مع جوهر الإسلام.
مع ذلك أقول
إننا- ونحن نتحدث عن الأصولية- لسنام أمام مجموعة من الأشرار. إنهم يريدون الخير
لكننا نختلف حول رؤيتهم للخير.. وحل أزمة هذا التيار ينبع من داخله وليس من خارجه..
وأظن أن هناك محاولات في هذا السبيل.
نحن وأيديولوجيات
تتغير
- دعنا ننتقل إلى مساحة أرحب من التأمل. يمر
العالم بما يمكن تسميته إعادة النظر في الأيديولوجيات .. يرى البعض أن تراجعا عاما
قد حدث في الأسس الفكرية للأنظمة، وأن الروح العملية قد سادت بلا نظرية ويرى آخرون
أن ذلك غير صحيح، فالاشتراكية - في جزء كبير من العالم - قد سقطت وأصبح المستقبل
لليبرالية ونظام الاقتصاد الحر والذي يحاول فرض نفسه عبر ما يسمى نظاما عالميا
جديدا وآليات جديدة للعلاقات الدولية.
ويرى فريق ثالث أن الاشتراكية- من حيث
المعنى- لم تمت بل إن ربع العالم يعتنقها "الصين".. وأن الليبرالية لم تنتصر بدليل
أزمات متلاحقة تصيب بلدانها.. ويضيف آخرون أن موجة العودة للدين - إسلاميا أو
مسيحيا- هي التي ستسود وتضع مذاهبها السياسية والاقتصادية.
كيف يمكننا رؤية هذه
القضية وما هي علاقتها بالأزمة العربية ذات الخصوصية، التي يدخل فيها عنصر الدين
والقبلية..وغير ذلك؟
- إن هذا السؤال
يثير عددا من المشكلات ولكن أبرز هذه المشكلات هي المشكلة الأخلاقية.
لقد عانت البشرية
منذ قرون طويلة - ومازالت - من سيطرة روح التسلط والرغبة الشرسة في التملك،
والانغلاق على الذات الفردية أو الطائفية آو الوطنية. فكل الدعوات الفلسفية
والأيديولوجيات تعارض القتل، لكن قتل الإنسان لأخيه الإنسان استمر بشكل أكثر شراسة
من خلال استخدام العلم في صناعة الأسلحة بهذا الشكل المخيف الذي نشهده في عصرنا. كل
الفلسفات والأيديولوجيات تدعو إلى العدالة وحرية الإنسان.. لكننا مازلنا نعيش بعد
كل هذه القرون الطويلة غيابا حقيقيا للعدالة سواء على مستوى كل بلد أو على مستوى
العلاقات الدولية غير المتكافئة.
إن إنسان هذا
العصر يحاول أن يتمسك بتفاؤله بالمستقبل وبالحلم بعالم أقل شراسة وأقل عنفا وأكثر
إنسانية لكن الحلم شيء والواقع شيء آخر لقد كانت الاشتراكية أيديولوجية تدعو إلى
فكرة إنسانية مثالية ملخصها أن يشترك الناس في خيرات هذا العالم وأن يفكروا في
غيرهم بشكل أكثر إنسانية وهذا كلام جميل، لكن التعامل مع البشر يختلف عن كتابة كتاب
أو التبشير بفكرة جميلة، لذلك اصطدمت الاشتراكية مرة أخرى بالنزعات الأخلاقية
للإنسان. اعتقدت أن التبشير بالعدالة وسن قانون لها قد يؤدي إلى وجود هذه العدالة
ولم يكن ذلك صحيحا.
كذلك الحال
بالنسبة للرأسمالية قد تدعو في جوهرها إلى فكرة إنسانية جميلة ملخصها حق الناس في
التنافس وحق الفرد في الكسب وجمع الثروة دون تدخل أحد وإطلاق المبادرة الفردية
للإبداع الإنساني مع أن الولايات المتحدة وفي أكبر البلدان الرأسمالية قد سنت
قوانين مثل قانون كسر الاحتكار في محاولة لإيجاد قوانين توفق بين حق الفرد في الكسب
وبين متعه الآخرين من الحصول على نفس البيئة التنافسية، لكن ما نراه الآن في الدول
الرأسمالية يظهر وجود عيوب كبيرة من اختلال في استمتاع الناس بخيرات المجتمع، ومن
سيطرة بعض النخب السياسية والاقتصادية على المجتمع، ومن إهدار لنظافة البيئة من
خلال الصناعة ومن النمو المتزايد لصناعة السلاح برغم كل دعوات السلام.. وإذا
انتقلنا إلى الجانب الآخر من سؤالك حول موجة العودة للدين في عالمنا العرب
والإسلامي فإن علينا أن ننتبه مرة أخرى إلى أن جوهر الدين الإسلامي يدور حول
الإنسان وكرامته واحترام حقوقه واعتبار العبودية لله فقط وهي فكرة تحرر الإنسان من
عبودية أخيه الإنسان، لكن خوفي على هذه الدعوة هو أنها مازالت حتى الآن دعوة تبشر
بفكرة جميلة ولكنها تتحدث بالعواطف والخطب ولا تتسلح بالبرامج.. إن رفع شعار
"القرآن دستورنا" مثلا يدعو إلى إعمال العقل والتفكر في القرآن وقراءته بروح
العصر، وإن التبحر بأمور الدين والجهل بأمور الدنيا وتطوراتها المعاصرة ونظامها
الاقتصادي سيؤدي إلى عزل الدين عن الدنيا وهو أمر ستكون نتائجه خطر على كل
المستويات، إن الدعوة إلى تطبيق الحدود الشرعية على مرتكبي الجرائم وفي الوقت نفسه
السكوت عن كل الموبقات السياسية والاجتماعية التي يؤدي إلى خلق بيئة غير صحية ترتكب
فيها الجرائم هو أمر ستكون نتائجه خطيرة أيضا على المدى البعيد.
علينا الانتباه
إلى أننا نتعامل مع بشر لكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.. إن نوازع الخير والشر
تتصارع داخل الإنسان. وإنه دون تربية أخلاقية جديدة ودون وضع برامج تفصيلية على كل
المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لخلق إنسان يشعر بمسؤليته تجاه
المجتمع، تجاه الآخرين، فإن كل الدعوات التبشيرية والخطب العاطفية والزجرية لن تغير
من الواقع شيئا.
محطة النهاية ..
الكيانات الصغيرة
- لنصل إلى محطة النهاية بع أن انتقلنا من
الخاص إلى العام. ومن العربي إلى الدولي ليكون ختام نقاشنا إطلالة على ما يمكن
تسميته "أزمة الدول والكيانات الصغرى" أقول ذلك وعيني على نموذج الخليج وسؤال
صريح.. هل للكيانات الصغيرة مستقبل إذا استمرت صغيرة؟.
- لقد فضحت حرب
الخليج بدءا من احتلال النظام العراقي للكويت وانتهاء بتحرير الكويت وما تبعه من
تداعيات طبيعة الأزمة السياسية في المنطقة العربية وكشفت حقيقة مؤلمة وهي أنه يكفي
أن تكون صغيرا لتصبح مهددا. وهي فكرة ترتبط بالمجتمعات البدائية وغير المتحضرة
وتشبه صراع الحيوانات في الغابة أو الأسماك في البحار حيث يأكل الكبير الصغير. إن
فكرة "حق" الكبير في التهام الصغير في السياسة الدولية وتحديدا في العلاقات العربية
تكشف جانبا خطيرا من جوانب العقل العربي المعاصر. إن هناك دولا صغيرة جدا في أوربا
وآسيا ولكنها لا تشعر بالتهديد لأنها صغيرة. بل إن أكبر دولة في السوق الأوربية
المشتركة لها نفس الحقوق مع أصغر دولة أوربية وفي بالمناسبة أصغر من الكويت. لقد
كشفت الأزمة أيضا حقيقة أخرى تدل على خلل في العقل العربي وهي قضية "الثروة"
والسؤال المطروح ألا يحق لأحد أن يكون "ثريا" وهل الثراء جريمة يجب أن يعاقب
مرتكب.. والأخضر أن هناك فهما غريبا وغير واقعي في تعريف الأثرياء أو الأغنياء.
دعنا نأخذه مثال الكويت، فهي دولة نفطية تحتل القائمة الأولى في سلم المساعدات
الخارجية للأشقاء والأصدقاء ويفوق ما أعطته من مساعدات وهبات وقروض للدول الأخرى ما
تعطيه الولايات المتحدة أو اليابان إذا قسنا الدخل القومي لهذه الدول.
الكويت نجحت في
إحداث تنمية لا بأس بها داخل الكويت وساعدت بشكل كبير الأشقاء العرب وعلى رأسهم
العراق.. لكن الكويت دولة فقيرة إذا قورنت بالعراق.. لكن الكويت دولة احتياطيات
ضخمة من النفط، إنتاج العراق النفطي أكبر من إنتاج الكويت، والعراق لديه خمسه
أنهار. لديه طاقات بشرية كبيرة. لكن مشكلة العراق أن حكامه قد بددوا ثرواته في
حروب متتالية مع الأكراد والإيرانيين والكويتيين، عسكروا المجتمع، أهملوا الاقتصاد
والتعليم وانتهكوا الحقوق الأساسية للإنسان العراقي. و ذلك عندما اختل صدام الكويت
ورفع شعار توزيع الثروة القومية بين الفقراء والأغنياء وجد تيارا مؤيدا له بين فئات
لا يستهان بها بمن في ذلك عدد من المثقفين العرب.
لقد ضحكت بعض
الأنظمة غير النفطية على شعوبها فمارست سوء إدارة حقيقيا في الحكم ثم حاولت تبرئة
نفسها من مسئوليه الفساد، لذلك فإن التخلي عن فكرة العروبة والقومية كشعار
للاستهلاك وتحويله إلى عمل حقيقي يربط مصالح الشعوب العربية.. هذا هو المدخل الوحيد
للحديث عن العروبة والوحدة، فعالم اليوم هو عالم تتشابك فيه المصالح بشكل واضح ،
ولقد نجحت دول أوربا الغربية والتكتل الآسيوي ودول النافتا في إيجاد نماذج للتوحد
تأخذ بالاعتبار المصالح البعيدة عن العواطف وعن روح التبشير والخطابة اللغة
الشعرية، وإذا لم نبدأ بالحديث بلغة واضحة ملموسة تعتمد على الأرقام وعلى تداخل
المصالح المشتركة فإن أزمة الخليج قد تتكرر في أماكن كثيرة، وهذا هو النموذج اليمني
الفصل الأخير في المسلسل الدامي للحياة العربية.