ديكِ الجِنِّ.. ديك الشعر الفصيح (شاعر العدد)

ديكِ الجِنِّ.. ديك الشعر الفصيح (شاعر العدد)

إنه عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب الكلبي، لكننا نعرفه بلقبه الغريب العجيب والذي لقب به، ليصير هو الحكاية والتميز في زمن عباسي كان يمور بأمواج الشعراء من كل شكل ولون واسم أيضا. وبلقبه سنبدأ ترجمتنا له ، وبحكايته مع ورد سيكون الختام المأساوي الدامي.

لكن حكاية اللقب تتشظى لتصير حكايات عدة، ثم تعود لتصب في مصب واحد عنوانه «ديك الجن». فتقول الحكاية الأولى إن الشاعر كان يكثر من الخروج إلى الحدائق والبساتين ويطيل المكوث فيها، كما تفعل تلك الدويبة النباتية الصغيرة التي تسمى «ديك الجن» أما الحكاية الثانية فتقول إن تلك الدويبة إنما تعيش في خوابي الخمر التي كان يدمن الشاعر معاقرتها فلقب بذلك. وتذهب الحكاية الثالثة إلى شعره الأشقر وعينيه الخضراوين الغريبتين عن الملامح العربية التقليدية فكان بعضهم يعتبره ديكا من ديوك الجن ، ولا أدري إن كان للجن ديوكا عيونها خضراء وشعورها شقراء حتى يشبه بها شاعر مجيد في قول الشعر كأنه جني خرج للتو من وادي عبقر.

وبقيت حكاية أخيرة للقب الظريف تحيله إلى شعره الذي ورد فيه ذكر للديك، وهو سبب واه كبقية الأسباب التي يبدو أن واضعيها اخترعوها لعجزهم عن إيجاد السبب الحقيقي للقب الذي صار حقيقة. على أن هذا كله لا يهمنا كثيرا ، فما يهمنا أكثر منه ما تركه لنا من قصيد وحكايات كامنة، إلى جانب آرائه.

ولد ديك الجن في مدينة حمص العام 161هـ (777م) ، لأسرة متعلمة معروفة دفعت بصغيرها النبيه إلى حلقات الذكر ومجالس العلماء، فتلقى علوم ذلك العصر وأظهر نبوغا مبكرا في اللغة والأدب وعلوم الدين والتاريخ، وكان شديد الفخر بمستواه التعليمي الذي كان يشهد به كل من عاصره فيرد عليهم بقولته الشهيرة: «ما الذنب إلاَّ لجدِّي حين ورَّثني علمًا وورَّثهُ من قبل لأبي». لكن نبوغه الأول تجلى في مرابع القصيد، الذي تجاوزت شهرته فيه مدينته حمص إلى بقية مدن الزمن العباسي، على الرغم من أنه لم يغادر تلك المدينة إلا قليلا، فلم يقصد الأمراء والخلفاء، ولم يهتم بمدحهم ولا بعطاياهم التي كانوا ينثرونها على الشعراء الواقفين على أبواب القصور بمدائحهم.

ومع أن كتب التراث والتاريخ لا تذكر الكثير عن مراحل حياته وتفاصيلها فإن قراءة أشعاره ورصد بعض الحكايات المتفرقة عنه أو المتصلة به تشي ببعض سماته العامة كشاعر عاش للذائذه وجوديا، فكانت متعته الأولى قول الشعر ومعاقرة الخمر، ولا مانع من أن يكون ذلك في مجلس عامر بالغناء والجواري الجميلات ممن يجدن العزف والغناء غالبا، خاصة أنه كان ممن يعرفون الكثير من أسرار الموسيقى، وكان عازفا جيدا لأكثر من آلة موسيقية من آلات ذلك العصر، وقد خدمه ذلك في تقديم أشعاره كأغنيات جميلة، كان يتغنى بها بصوته الرخيم كلما استخفه الطرب في مجلس عامر بالشراب في حضرة الأصدقاء المقربين والندماء الخلص.

ولعل بعضا ممن يعرف شيئا عما اشتهر به ديك الجن من تشيع يستغرب تلك الصورة التي تقترب من صورة المجنون الكامل التي يبدو هذا الشاعر دائما في إطارها. وهو استغراب في محله لولا أن تشيع ديك الجن لم يكن لينطلق من عاطفة دينية خالصة، كما يبدو، بقدر ما ينطلق من انحياز سياسي ضد بيت الحكم العباسي لمصلحة البيت الشيعي آنذاك. وقد انعكس هذا كثيرا في أشعاره التي لم يبق منها بين أيدينا سوى القليل مما لا يتناسب وحجم شهرته المدوية. على أن شهرته في أكثرها تعود إلى حكايته الغرامية المأسوية مع حبيبته الأبدية ورد، والتي أنهت علاقته بها علاقاته المتعددة واللاهية مع الجواري والقيان، فكانت ورد هي حبه الأول والأخير، وهي المرأة الأولى والأخيرة، على الرغم من كثرة ما عرف من النساء. إلا أن ورد - التي عشقها حتى أنه تزوجها وعاش معها في سعادة بالغة - ماتت مذبوحة بسيف غيرته العمياء بعد أن سمح للوشايات أن تنال من تلك العلاقة الغرامية الجميلة. لكنه سرعان ما اكتشف زيف تلك الوشايات التي ربطت زوجته بصديق عمره. فماذا يفعل العاشق والصديق بعد أن ذهب بضحيتي تلك الوشاية الكاذبة ذبحا بسيف الغيرة؟

تقول الحكاية الأخيرة إن ديك الجن عاش بقية عمره نادمًا على ما فعله بزوجته وصديقه. ويبالغ بعض من صاغ تلك الحكاية فذكر أنه أحرق جسد زوجته البريئة وعجن الرماد المتبقي ببعض من الطين وصنع منه كأسين لشرابه, فكأنه كان يشرب دم محبوبته التي قتلها ظلما كل مرة يعاقر فيها الخمر, متداويا من الداء بالتي كانت هي الداء.

توفي ديك الجنِّ في العام 235 هـ (849م)، بعد سنواتٍ حافلة بمشاعر الندم على ما اقترفت يداه ، لكن بقي دائما ديك الجن أو ديك الشعر الفصيح.

 

 

 

سعدية مفرح