الأدباء والحيوان

الأدباء والحيوان

لم يخلق الله الإنسان ككائن حي وحده، وإنما خلق معه عددًا لا يحصى من حيوانات البر والبحر والجو، منها ما هو مأنوس يعاشره المرء، بل ويتعامل معه في حياته مثل الفرس والحمار والبقر والكلب والقط وطيور الزينة، ومنها الجوارح والضواري والوحوش التي لا يأمن الإنسان شرّها، فإما أن يسعى إلى القضاء عليها، وإما أن يقيّد حريتها ويجعلها متاعًا للنظر في حدائق الحيوان، سواء في باحات بغير أسوار أو في أقفاص مدججة بثقيل الأقفال.

مادام الأدب نافذة تطل على الحياة بكل ما فيها، فقد تعامل الأدب مع الحيوان بأساليب شتى. فتوفيق الحكيم مثلاً، اختار الحمار ليكون فيلسوفه الناطق بلسانه والمعبّر عن آرائه والمحاور الذي لا يملّ من الحوار معه، وإن كان الحكيم قد اتّهم بأنه سرق هذه الفكرة من الأديب الإسباني خيمينز مؤلف كتاب «الحمار وأنا»، ومع ذلك، فعندما أصدر طاهر الطناحي كتابه «حديقة الأدباء»، آثر أن يصوّر توفيق الحكيم في صورة عصفور - ربّما استيحاء من روايته «عصفور من الشرق».

والطناحي قد أقدم على محاولة غير مسبوقة في هذا الكتاب الفريد. حيث اختار لكل أديب حيوانًا يناسبه، واستعان برسّام يخضع الأديب لصورة الحيوان الذي يمثله. فطه حسين كروان، والعقاد عُقاب، وأحمد زكي ديك، وعزيز أباظة بلبل، وإبراهيم ناجي سنجاب، وأحمد لطفي السيد نسر، وميخائيل نعيم طاووس، وفكري أباظة بولدوج، ومحمود تيمور هدهد، وأمير بقطر إيبيس «أبو قردان»، وأحمد رامي فراشة، وأمينة السعيد زرقاء اليمامة، وأحمد أمين مالك الحزين «ربما لأنه لم يكن يعرف الابتسام».

وذهب العقاد إلى شيء من هذا عندما قرر عقد ندوته الأسبوعية في بادئ الأمر في جزيرة الشاي بحديقة الحيوان في الجيزة، حيث كان «يعايش» الحيوانات في دخوله إلى الحديقة وخروجه منها، ولا فكاك من هذه الرفقة الدءوب كلّما التقى بروّاد ندوته في هذه الحديقة.

مشاغبات العقاد

وطاب للعقاد أن يداعب روّاد الندوة بتشبيه كل منهم بحيوان بعينه اعتمادًا على فراسته في المطابقة بين حيوان معيّن وواحد من روّاده. فبدأ العقاد بنفسه واختار أن يكون زرافة تمرح بعنقها الطويل في ساحة مفتوحة، إلا من سور حاجز يحول بينها وبين مشاغبات روّاد الحديقة، وهو قد أحسن اختيار الزرافة لأنه يضيق بالأقفاص والسدود والقيود، ثم إنه فارع الطول كالزرافة تمامًا.

أما الشاعر عبدالرحمن صدقي، وهو بدوره طويل عريض، فقد جعل العقاد منه بطريقًا (نيجوين) وهو طائر يمشي منتصبًا مختالاً مرفوع الرأس، وكان من نصيب علي أدهم الإيداع في قفص الضبع، في حين اختار للموسيقار محمد حسن الشجاعي - وكان ضخم الجثة - تقمّص شخصية فرس البحر «الذي يُعرف باسم سيد قشطة».

أما عصام الدين حفني ناصف الشيوعي الأحمر، فقد أودعه العقاد في قفص الدب القطبي الروسي تماشيًا مع مذهبه السياسي. وأما الدكتور الجامعي محمد أبو طايلة، فكان حظه أن يمثله القنفذ، في حين أودع محمد طاهر الجبلاوي في قفص الميامين «ولم تسعفني المعاجم في معرفة هذا الفصيل من الحيوان» - لعله يقصد القرود، لأن القرد يقال له ميمون - ولما جاء العوضي الوكيل متأخرًا، وأخذ يتنقل من مقعد إلى مقعد، حكم العقاد عليه بأن يُسرَّح في الحديقة بغير قفص.

وإذا كان الطناحي جعل من العقاد عقابًا، وإذا كان العقاد اختار لنفسه أن يكون زرافة، فقد حوّلت العقاد إلى «دودة»! كنت أضيق بوصف «الكاتب الجبار» الذي أطلقه الزعيم سعد زغلول باشا على العقاد، لأن الأديب قد يوصف بأنه كبير أو لوذعي أو نحرير أو جهبذ أو باقعة، ولكن لقب «الجبار» هو من ألقاب «البلطجية».

وعندما عملت في جريدة «المقطم» في عام 1945، وهي جريدة يومية مسائية كانت الثانية من حيث العمر بعد جريدة «الأهرام» ولا تقل عنها أهمية، أحال إليّ محررها خليل ثابت باشا كتابًا من كتب المطالعات أهداه إليه زميله في مجلس الشيوخ عباس محمود العقاد، ورغب إليّ في كتابة فصل حول هذا الكتاب الذي يشهد للعقاد بأنه واسع الاطلاع، نهم في القراءة. فبدأت مقالي بالإشارة إلى أن الغربيين يصفون مَن كان نهمًا إلى القراءة بأنه Book Work أي دودة قراءة تلتهم الكتاب من الغلاف إلى الغلاف، وقلت إن هذا الوصف ينطبق تماماً على العقاد، فهو دودة قراءة. وظللت أردد في المقال عبارة «العقاد دودة» مطمئنًا إلى أنني أحسنت التعبير عن هذا القارئ النهم.

أنا كتيبة من الديدان

قرأ العقاد هذا المقال بعد الظهر، ثم توجه إلى مجلس الشيوخ للمشاركة في اجتماعه، فلما صادف خليل ثابت باشا قال له: تقولون عنّي إنني دودة، أنا كتيبة من الديدان!

وبعدما اكتملت حديقة حيوان العقاد بإيداع كل من حوارييه في القفص الذي يناسب كلا منهم نظم قصيدة استهلها بالإشارة إلى «إرفيوس» وهو شاعر وموسيقار كان يسحر بأنغامه حتى ضواري الوحوش، قال فيها:

«إرفيوس» الفن سوّى بينهم
فتلاقى الدب فيها والقرود
وتغنّى فرس البحر بها
ياله من فرسٍ طلق النشيد
ومشى الأرنب والحوت لها
صاحبا القاعين مندلُجٍّ وبيد
وتآخى الجدي والضبع وما
بين هذين سوى الثأر اللدود
وجرى السيسي فيها شوطه
وهو ناهيك بسيسي عنيد(1)
ولغا البطريق فيها لغوه
وهو من قطب جنوبي بعيد
وكأني بالزرافي اجتمعت
وحمير الوحش منها في صعيد
وأدى السنور والجرو إلى
نمرٍ فيها، على غير الوصيد
والسلحفاة تجاري عندها
أرنب. البيداء والكلب الصيود
فتحت أقفاصها واختلطت
لا سدود، لا قيود، لا حدود
حيوانات نماها آدم
وهي من أبنائه نسل فريد
حيوانات ولكن بينها
كل ذي لبّ سماوي رشيد
«إرفيوس» الفن سوّى بينها
فاستوى المنشد فيها والمُعيد

وعندما ضاق العقاد بضجيج حديقة الحيوان وتطفل روّادها على ندوته، قرر نقلها إلى بيته في مصر الجديدة بعدما أطلق سراح روّاده الذين زج بهم في الأقفاص، وانضم إلى الندوة روّاد جدد منهم الدكتور زكي نجيب محمود والدكتور عثمان أمين والدكتور نظمي لوقا وزوجته الأديبة صوفي عبدالله والشيخ محمود أبو ريّة، وعبدالحي دياب، وأنيس منصور. أما حواريه المخضرم العتيق محمد خليفة التونسي، فقد نفد بجلده من أقفاص حديقة الحيوان، وإن بقي على الدوام الديدبان المقيم الحارس للعقاد وتراثه، والحافظ لكثير من شعره، والكاتم لكثير من أسراره.

لم تنقطع صلة العقاد بالحيوان حتى بعد هجره لحديقة الحيوان، حيث كان يقتني كلبًا باسم «بيجو» وكان شديد التعلق به يصحبه معه إلى ثغر الإسكندرية في الصيف، وإلى دفء أسوان في الشتاء، ويحنو عليه حنوّ الوالد على ولده. وفي رحلة من رحلات الصيف إلى الإسكندرية مرض «بيجو» فاستدعى العقاد طبيبًا بيطريًا ذا شهرة عريضة لعلاجه، ولكنه لم يستطع إنقاذ حياته، فنفق مما أورث العقاد حزنًا عميقًا عبّر عنه في قصيدة لعلها من أطول قصائده، قال فيها:

حزنًا على «بيجو» تفيض الدموع
حزناً على «بيجو» تثور الضلوع
حزنًا عليه جهْدَ ما أستطيع
وإن حزنًا بعد ذاك الوداع
والله، يا بيجو، لحزن وجيع

***

حزنًا عليه كلما لاح لي
بالليل في ناحية المنزل
مسامري حينًا ومستقبلي
وسابقى حينًا إلى مدخلي
كأنه يعلم وقت الرجوع

***

وكلما ناديته ناسيًا:
بيجو، لم أبصر به آتيا
مداعبًا مبتهجًا صافيًا
قد أصبح البيت إذن خاويا
لا من صدى فيه ولا من سميع

إلى أن يقول:

أبكيك، أبكيك وقلّ الجزاء
يا واهب الودّ بمحض السخاء
يكذب مَنْ قال طعام وفاء
لو صحّ هذا ما محضت الوفاء
لغائبٍ عنك وطفل رضيع

ومادمنا في سياق العقاد وحيواناته، قد سألت العقاد ذات مرة: هل يعرف الشبل الذي يولد في القفص معنى الحرية؟

فردّ العقاد بعلم وحسم قائلاً: طبعًا. صحيح أنه لم يذق طعم الحرية منذ ما ولد في هذا القفص، ولكن الحرية جبّلة مركّبة في الحيوان والإنسان على السواء، بل لقد لوحظ أن الحيوان الذي يفقد حريته بين الأقفاص يمنع نفسه من الإنجاب حتى لا يظلم رضيعًا يبلو مرارة السجن داخل قفص. ثم قال العقاد: طبـّق هذا الكلام على البشر، فإن ولدوا في ظل القيود والسدود، لن يلبثوا أن يثوروا عليها كما ثار الفرنسيون على سجن الباستيل وحطّموه تحطيمًا لكي ينعموا برحيق الحرية المنشودة
-------------------
(1) السيسي فصيلة من الخيل تتميز بصغر حجمها وتستخدم في جر مركبات النزهة داخل حديقة الحيوان.

---------------------------------------

مرتْ فقلتُ لها : تحيَّة َ مغرمِ
ماذا عَليكِ من السَّلامِ؟ فَسَلِّمي
قالت: لمن تعني؟ فطرفُكِ شاهدٌُ
بنحولِ جسمكَ قلتُ: للمتكلمِ
فتضاحَكَتْ فبكيْتُ، قالتْ؛ لا تُرَعْ
فَلَعَلَّ مِثْلَ هواكَ بالمتَبَسِّمِ
قُلْتُ: اتَّفَقْنا في الهوى فزِيارَة
أَوْ قُبْلَة ً قَبْل الزِّيارَة ِ قَدِّمي
فتبسمتْ خجلاً وقالتْ: يا فتى ُ
لو لَم أَدَعْكَ تَنامُ، بي لم تَحلمِ

ديك الجن الحمصي

 

 

 

وديع فلسطين