سرقات صغيرة

سرقات صغيرة

عشتُ عمري أخاتل النوم الخبيث، لكنني في الأيام القليلة الماضية صرت أتحايل عليه كي يأخذني فيأبى.

منذ الصباح والحسرة تلازمني.

أذكر صباح مات أبي، اجتاحني غضب كبير عليه. اختبأت وبكيت حرقتي وحدي، دون أن يراني أحد، بينما كانت أمي وإخوتي الصغار يبكون موته، ابتعدت عن الجميع، وقد اشتعلت نار محرقة في قلبي، فأنا ابن التاسعة، لم أجد سببًا واحدًا يبرر لأبي أن يموت كما فعل.

تزوج أبي أمي ولم يبلغ السادسة عشرة، وكانت تصغره بسنتين، جلس معنا ليلة وفاته على الأرض حول سفرة العشاء، امتدت أيادينا جميعًا إلى صحن الباقلاء والخبز، وحين نهض هو ضخّم الفانوس بذبالته الصفراء خياله على الحائط، مازلت أذكر تلك الليلة ببردها القارص، تمددتُ وأخواتي الثلاث على الأرض قرب الموقد، وصعد أبي إلى سريره العالي، وبقيت أمي كعادتها إلى جانبنا تدفئ ليلنا، تقصّ علينا حكاياتها التي نحب، لا أدري متى سرقنا النوم، لكنني لن أنسى صرخة أمي الملتاعة بنحيبها، وهي تنادي على أبي:

«صكر، صكر».

لم يجب أبي على ندائها، ظل ممددًا بنومته على سريره العالي، وأبدًا لم أر خياله المضخّم بعد تلك الليلة على جدران غرفتنا الطينية، ومن ليلتها وأنا أكره النوم الخبيث، أحاذر أن يسرقني كما سرق أبي.

***

قبل حوالي الساعة خرج أولادي وزوجاتهم وعيالهم، ودّعتهم وآويت إلى فراشي، نصبت فخًا للنوم الخبيث لكنه يمتنع عليّ، ومن بعيد تلوح لي صورة أبي دون أن أقدر على اصطيادها.

لم يمض أسبوع على موته، حين انتقلنا: أمي وإخوتي وأنا للعيش في بيت خالي، يومها خاطبني قائلاً:

«أنت رجل الأسرة الآن».

لم أفهم معنى جملته، فنظرتُ إلى أمي، التي ردّت عليه بقولها:

«ناصر ولد طيب، وسيكون عندحسن ظنك».

خصص لنا غرفة صغيرة في بيته لنعيش فيها، ومنذ الصباح الباكر، أيقظتني أمي:

«ستذهب للعمل في دكان خالك».

متدثرًا بالصمت والأسرار سار أمامي، وتبعته أسرق النظر لخطواته المتمهلة. وقبل أن نصل إلى دكانه، توقف ملتفتًا إليّ، ناظرًا في عينيّ نظرة أخافتني، دفع كلماته متأنيًا:

«ستنفذ ما أطلبه منك دون أي سؤال أو اعتراض».

قطع جملته بما يوحي بأنه سيقول أهم ما فيها. ظلت نظرته تأكل وجهي. قال:

«عليك أن تكون أمينًا».

خفضت رأسي بالموافقة، بعدها استدار يكمل الطريق إلى الدكان، وبقيت أسير في أثره، وحين عدت ظهرًا، أخذتني أمي إلى صدرها، لاحت عبرة بكاء على نبرة صوتها:

«أنت رجل الأسرة».

جلسنا حول سفرة الغداء، في غرفتنا الصغيرة، فلاحظت أنها تحرّك يدها دون أن تأكل معنا. سألتها عن السبب، فقالت:

«أشبع حين أشاهدكم تأكلون أنت وإخواتك».

انتهبت أن الطعام قليل، وأن أمي تسرق لقماتها، ولحظتها بدأت أسرق لقماتي مثلها، ومن يومها كرهت الأكل، صرت أسرق لقماتي وأنا أراقب يدي.

***

حرصت اليوم على البقاء يقظًا طوال الوقت، كي أستطيع النوم ليلاً، بقيت متماسكًا بحضور عيالي وعيالهم لم أبثهم جزعي، لكنها الذكريات تهجم عليّ الآن، تضجّ في رأسي.

ربما بعد مرور خمسة أشهر على عملي مع خالي، وفي ظهر أحد الأيام، انتهيت من غلق باب الدكان، وكان واقفًا بهدوئه.

يراقبني، فمدّ يده نحوي بورقة بالية قائلاً:

«هذا راتبك».

فهمت أنه راض عني وأنه يجازيني على أمانتي، وتساءلت عن السبب الذي جعله يؤخر راتبي كل هذه المدة الطويلة. سار أمامي فتبعته، تحسست أصابعي ملمس الورقة الغريب في جيبي. وحين دخلت غرفتنا الصغيرة، وقبل أن أجلس أعطيت الورقة لأمي، قائلاً:

«هذا راتبي».

عادت نبرة البكاء إلى صوتها، قبّلت الورقة البالية ولمست بها جبهتها، همست بدعائها:

«الله يطيل بعمر خالك، ويخليك لي ولأخواتك».

عملت لسنين مساعدًا لخالي في دكانه، وكان كلما أعطاني راتبي حملته كاملاً إلى أمي، دون أن أستأثر بشيء منه. في إحدى المرات، ناولته لأمي، فردّت إليّ بعضًا منه قائلة:

«هذا لك».

يومها بدأت أمي تستقطع مبلغًا صغيرًا من راتب كل شهر وتقدمه لي، لكنني تعوّدت أن أصرف راتبي على أمي وإخواتي، لا أخصّ نفسي بشيء.

***

لا أدري لماذا أشعر الليلة بشوق جارف لها؟ يرحمك الله يا أمي.

أذكر تلك الفترة، ظلت تحوم حولي لأيام دون أن تفصح عن مرادها، كانت تسرق النظر إلى وجهي وطولي ومشيتي، سألتها:

«ما بك يا أمي»؟

نفت أي شيء، لكن عينيها نطقتا بسرٍ ما، وبعد مرور أسبوع، وبينما كنا حول دفء «الدوّة»، نَبَس صوتها ويدها تمسك بالمنقاش تقلب جمر الحطب، سألتني:

«ألا تريد الزواج»؟

فاجأتني جملتها. بقيت ساكنًا، فأكملت هي:

«ابن خالك أصغر منك، تزوج منذ سنة».

سرقت النظر لوجهها، أبعدت نظرتها عني، ظلت تلهو بجمرات حطب الدوّة، قالت:

«وفرت من راتبك مبلغًا تستطيع الزواج منه».

أسرع إليّ وجه شريفة ابنة جيراننا، التي كانت تأتي بصحبة أمها لزيارة أمي، تذكرت أنني سرقت بعض النظرات إلى وجهها الباسم، وأنها تبعثرت متوارية خلف ارتباكها. انتشلني صوت أمي:

«شريفة ابنة جيراننا فتاة طيبة».

وفي ليلة زواجي أوصتني أمي:

«لا تضايق زوجتك، وكن طيبًا معها».

ما ضايقت شريفة يومًا، ولا كنت فظًا معها، وبالرغم من مرور أكثر من خمسين عامًا على زواجنا، وأن لنا ستة أبناء، فإنني بقيت أغافل شريفة، أستمتع بسرقة النظر إلى وجهها الذي أحب.

***

«شريفة.. سرقك النوم اللعين وتركني».

منذ ليال وهو يتهرّب مني، أتعوّذ من الشيطان، أقرأ بعض آيات القرآن، لكن الهواجس تلعب بي.

طوال الأسبوع يبقى بيتنا خاليًا إلا مني وشريفة. وفي عطلة نهاية الأسبوع يأتي أبناؤنا وزوجاتهم وعيالهم لزيارتنا، يمضون يوم العطلة معنا، شريفة وأنا ننتظر هذا اليوم، أمازحها قائلاً:

«يوم الجمعة يصير بيتنا مدرسة».

يعلو زعل حلو وجهها الباسم، تقول:

«قل ما شاء الله».

أقول: ما شاء الله، معاودًا سرقة نظراتها التي أحب.

تشتط هي منذ الصباح الباكر، تقف مع الطباخة في المطبخ، تجهّز أنواعًا كثيرة من الطعام، وحين يبدأون بالتوافد، أترك الجميع وألهو باللعب مع الصغار، أوزع عليهم أنواع الحلوى، التي أشتريها طوال الأسبوع بانتظار قدومهم، وحين يحتضن كل منهم نصيبه، أستمتع بمناقرتهم، وسرقة بعض الحلوى منهم.

***

لا حول ولا قوة إلا بالله، من أين أجيء بالنوم؟

منذ مات أبي وهو نائم على سريره العالي، اعتدت على سرقة ساعات نومي القليلة، واعتاد جسمي الاكتفاء بأقل القليل منها. استيقظ مفزوعًا في كل ساعة وكأني لا أصدق أنني لم أزل حيًا. وحين كبرت صرت أبدأ يومي بصلاة الفجر، ومن ثم قراءة القرآن، مرارًا سألتني شريفة:

«لماذا تستيقظ منذ الفجر، ما الذي ينتظرك»؟

أخبرها أنني تعوّدت الاستيقاظ باكرًا، أخفي عنها لعبة الخوف والسرقة بيني وبين الموت.

لكنها لا تقتنع.

في الفترة الأخيرة ألحت عليّ للذهاب إلى الطبيب:

«يجب أن تجد حلاً لقلة نومك».

ابتسمت لها، لكنها ظلت بغضب وجهها المحب:

«لابد أن تعرض نفسك على الطبيب».

ولأنني عاهدت أمي ألا أضايق شريفة، وأن أبقى طيبًا معها، ذهبت بصحبتها إلى طبيبة المستوصف، وكانت فتاة شابة:

«ما الذي تشكو منه يا والدي»؟

بادرتني الطبيبة بالسؤال، فسرقت النظر إلى عينيّ شريفة، فقالت هي:

«هو لا ينام يا دكتورة».

طافت ابتسامة صغيرة على وجه الدكتورة، عادت تسألني:

«هل تشكو من أي مرض»؟

«تعوّدت الاكتفاء بساعات نوم قليلة».

التفتت الدكتورة إلى شريفة وقالت:

«هذا لا يضر».

«لكنه لا ينام يا دكتورة».

خرجنا من المستوصف، وفي طريق عودتنا إلى البيت، طلبت من شريفة أن نقصد سوق الجمعية لشراء الحلوى لأحفادنا.

***

آه، تعبت، أتمنى لو أستريح.

تأخر النوم كثيرًا علي.

اليوم جاء الجميع إلى بيتنا، لكنها المرة الأولى التي نجتمع فيها.

وشريفة غائبة ليست معنا، بقيت طوال المساء أحاذر الانفجار ببكائي، ما لعبت مع أحفادي، ولا تسليت بسرقة الحلوى منهم، وحين ودّعني الجميع، بقيت وحدي، خرّت دموعي وعلا صوت انتحابي.

توفت شريفة في الأسبوع الماضي، سرقها النوم الملعون مثلما سرق أبي من قبل.

«لماذا يا نوم»؟

منذ رحيل شريفة، وأنا في كل ليلة، أرمي بجسدي وروحي ودموعي على الفراش، أغمض عينيّ راغبًا في اللحاق بشريفة، لكنه النوم الخبيث يهرب مني.

 

طالب الرفاعي