السكان والتنمية في إطار المنظومة العالمية الجديدة محمد السيد سعيد
السكان والتنمية في إطار المنظومة العالمية الجديدة
هل فرض النظام العالمي الجديد حقا برنامج عمل مؤتمر السكان والتنمية وبذا أ هذا البرنامج هو ثمرة الهيمنة الغربية كما قال منتقدو المؤتمر؟ أم أنه كان ثمرة ومحصلة للعلاقات الدولية في تلك الفترة، وأن الوثيقة الختامية قد توصلت للتصور الأفضل نحو وضع سياسات عالمية لقضية علاقة السكان بالتنمية؟. هل المقصود بتعبير النظام العالمي الجديد كما تفهمه الدوائر السياسية والصحفية العربية هو ببساطة الهيمنة الغربية - أو الأمريكية تحديدا - غير المنازعة، فكأن برنامج العمل المعد للمناقشة والتصديق من جانب المؤتمر الدولي للسكان والتنمية هو ناتج لعملية فرض قيم ومصالح النظام العالمي الجديد (بمعنى الهيمنة الغربية) بوسائل القهر والتلاعب الذهني معا على أمم وشعوب الأرض، وبصفة خاصة الشعوب العربية؟. من تحليل المسار الواقعي لتطور العلاقات الدولية من الواضح أن هناك منظومة دولية جديدة ظهرت بتأثير تدهور ثم انهيار وحل الاتحاد السوفييتي. غير أنه من الواضح أيضا أنه ليست هناك "نظام دولي جديد" بمعنى بناء متكامل من القيم والمبادىء القانونية والمؤسسات الجديدة في الساحة الدولية. فالعالم لايزال يتفاعل إلى حد بعيد في نفس الإطار السابق الذي تتوسد الأمم المتحدة قمته. ومع ذلك، فإن تشكيلة علاقات القوى الدولية الجديدة يمكنها أن تغير بدرجة معينة ظروف ومقاييس وطبيعة أداء المؤسسات الدولية ومن بينها الأمم المتحدة، بل وأن تغير مضمون هذا الأداء. فمن المؤكد مثلا أن ثقل الغرب والولايات المتحدة تحديدا قد أصبح أكبر بها لا يقاس داخل الأمم المتحدة في ظروف القطبية الواحدية عما كان عليه في ظروف القطبية الثنائية. ومن المؤكد أيضا أن الولايات المتحدة قد استخدمت الأمم المتحدة لصالحها في أكثر من مناسبة. وعلى الرغم من هذه الحقيقة، فإن هناك قيودا عديدة ترد على هذا الوصف العام للمسألة. القيد الأول يتمثل في مبادئ ميثاق الأمم المتحدة والآليات المتعددة لاتخاذ القرارات داخل الأمم المتحدة بجميع مستوياتها وهياكلها. وهذا القيد يجعل الولايات المتحدة تفضل استخدام آليات النفوذ والهيمنة من خلال علاقاتها الثنائية أكثر بكثير مما تفضل استخدام الآليات التعددية - المقيدة بمبادئ الميثاق - للأمم المتحدة. أما القيد الثاني فهو أن النفوذ الأمريكي قد يظهر جليا في حالة مجلس الأمن، حيث يكون عليها التأثير في عدد محدود من الدول الأعضاء الدائمين وغير الدائمين بالمجلس. ولكنه لا يكاد يظهر حقيقة في إطار الجمعية العامة، حيث يستحيل عليها واقعيا التأثير أو الهيمنة على قرارات ما يزيد على 180 دولة. ولكن ما علاقة ذلك كله بمؤتمر السكان؟. الواقع أن العلاقة واضحة فيما يتصل بادعاءات المحرضين والرافضين لمؤتمر السكان. يعتبر مؤتمر القاهرة للسكان هو الثالث من نوعه حيث من المقرر أن يعقد كل عشر سنوات، ابتداء من المؤتمر الدولي للسكان في بوخارست عام 1974، ومرورا بالمؤتمر الدولي للسكان بالمكسيك عام 1984. وإذا أخذنا بخبرة مجموع المؤتمرات السابقة، فسنلاحظ أن جميعها دون استثناء قد اشتمل على مناظرات وصراعات تمحور بعضها حول الانقسام بين شرق وغرب، وشمال وجنوب، وبعضها الآخر تركز حول مداخل ومناهج ومقترحات لمعالجة القضايا المختلفة بما يعكس تعددية الثقافات والحضارات وتعددية الأيديولوجيات والبرامج بغض النظر عن محاور الصراع السياسي التقليدي السائد في الفترة أو اللحظة الزمنية التي ينعقد فيها مؤتمر أو آخر. أما إذا نظرنا للأمر في إطار التطورات الزمنية، فقد يكون من الصحيح أن المؤتمرات الدولية للأمم المتحدة تعكس التغيرات في علاقات القوى العالمية. غير أنه من المؤكد أن هذه المؤتمرات تعكس على نحو أكبر وأعمق بكثير التطور الموضوعي في الفكر العالمي، بغض النظر عن علاقات وموازين القوى بين الدول. طابع عالمي ديمقراطي إن الطابع العالمي يغلب على المؤتمر فعلا وهو طابع أكثر ديمقراطية حقا بالمقارنة بغالبية الهياكل الأخرى للتفاعلات الدولية التي تظهر بجلاء من مسار الإعداد لمثل هذه المؤتمرات العالمية، بما فيها مؤتمر السكان. فالإعداد للمؤتمر يبدأ برعاية صندوق السكان للأمم المتحدة، وهو فرع خاص للأمانة العامة. ويستعين الصندوق- الذي ترأسه سيدة مسلمة من الهند ـ بمجموعات متباينة من الخبراء للإعداد للبرنامج. ثم يشارك في الاجتماعات التمهيدية كل من يرغب في ذلك من ممثلي الدول. وشارك في الاجتماعات الدولية التمهيدية الأربعة بالفعل غالبية دول العالم الأعضاء في الجمعية العامة. وأخيرا يأتي دور المؤتمر الرسمي العام الذي يناقش برنامج العمل الذي يكون قد تم التوصل إليه عبر هذا المسار التعددي والمركب لكي يصدره كوثيقة رسمية بعد إجراء المفاوضات حوله. والآلية المستخدمة في إصدار القرارات أو المصادقة على برنامج العمل هي آلية التراضي أو الإجماع مع الإقرار بحق الأقلية في التحفظ على ما تشاء من بنود وقرارات أو صياغات. وفي سياق ذلك كله، تكاد هذه المؤتمرات تكون محكومة بها يشتكي منه الغربيون من وجود أغلبية تلقائية (أو ميكانيكية) للعالم الثالث وممثليه. وبالتالي، فإن القرارات التي لا تحظى بالتراضي بين أغلبية دول العالم الثالث تفشل تلقائيا، حتى لو كان وراءها الغرب كله أو الدول "المتقدمة جميعا. غير أن العكس أيضا صحيح جزئيا في الحالات التي تقتفي تخصيص تمويل كبير لتعزيز السياسات العالمية حول موضوع ما. فحيث إن المصدر الرئيسي للتمويل هو الدول الغربية، فإن ما لا ترضى عنه هذه الدول من قرارات وتوصيات قد لا يجد سبيلا للتنفيذ، وهو بالتالي معرض للفشل أو عدم القبول أصلا، تبعا للحالة. فعلى سبيل المثال، أسقطت أغلبية دول العالم الثالث بقيادة الصين غالبية الاقتراحات التي استهدفت تطوير القانون الدولي لحقوق الإنسان وتطوير آليات حماية هذه الحقوق، من وجهة نظر الدول والمجتمعات الغربية، وذلك في مؤتمر فيينا لحقوق الإنسان المنعقد في عام 1993. وفي المقابل، فشل مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة والتنمية المنعقد في ريودي جانيرو بالبرازيل عام 1992 بسبب رفض بعض الدول الغربية الموافقة على تحمل التزامات تمويل برنامج لإنعاش البيئة والتنمية لا يتفق تماما مع منظورها لهذه القضية. ويستنبط من هذا كله ـ على عكس ما يدعى الرأي الآخر لمؤتمر السكان والتنمية بالقاهرة ـ أن هذه المؤتمرات الدولية ـ التي هي أقرب إلى دورات انعقاد خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة ـ هي الآلية الأكثر ديمقراطية والتي تستقيم وتنسجم على أفضل نحو ممكن عمليا، مع الحاجة لتطوير نظام دولي أكثر عدالة وحرية وانفتاحا ومشاركة. شبهة مالتوسية جديدة؟ وتذهب دعاية نقاد مؤتمر القاهرة للسكان إلى أن الهيمنة الغربية تفرض منهجا في وضع وتطبيق سياسة سكانية عالمية تقوم على فكر المالتوسية الجديدة. ويدعي هؤلاء أن برنامج عمل المؤتمر قائم على هذا الفكر. ببساطة شديدة، فالمالتوسية هي اتجاه يزعم أن سكان العالم يزيدون بمعدلات أسرع من زيادة الموارد، وأن استعادة التوازن بين السكان والموارد تؤدي إلى التسامح مع آليات طبيعية أو صناعية لتخفيض نمو السكان من خلال المجاعات والحروب والجرائم.. وغير ذلك، أو من خلال استخدام مختلف صور القهر لتخفيض معدلات المواليد، وخاصة لدى الطبقات أو. المناطق أكثر فقرا. والمالتوسية الجديدة هي استمرار لهذا التحليل بوسائل أخرى، حيث يركز المالتوسيون الجدد على وسائل منع الحمل وتخفيض الخصوبة، وذلك على حساب التنمية، وقد انجرف الرافضون والمحرضون ضد مؤتمر القاهرة وراء هذه الفكرة إلى حد الدعاية ضد المؤتمر بالقول مثلا بأن هدفه هو إبادة البشر، وغير ذلك من أهداف شريرة. وهذه الأهداف هي إما العنصرية الغربية أو استمرار للحروب الصليبية ضد المسلمين أو نزع قوة العالم الثالث. وأصحاب هذه الرؤية لوثيقة مؤتمر القاهرة وأهدافه يتحسرون على الأيام الخوالي، وذلك بمقارنة وثيقة مؤتمر القاهرة عام 1994 بوثيقة مؤتمر بوخاريست عام 1974. فالأولى تعبر في رأيهم عن المالتوسية الجديدة، والأخيرة تعكس- في رأيهم- وجهة النظر التنموية للعالم الثالث. والأولى هي تعبير عن النظام العالمي الجديد، أما الأخيرة فقد كانت تعبيرا عن التطور الثوري في العالم الثالث، والعالم ككل. والحقيقة أنه ليس هناك طريقة لإنهاء خرافة تعبير وثيقة برنامج عمل مؤتمر القاهرة عن فلسفة مالتوسية أفضل من دعوة القارئ للاطلاع عليها بنفسه. فمن السهل أن يكتشف القارئ أن وثيقة القاهرة هي أشمل وأفضل وثيقة حول بناء سياسات عالمية- عبر توافق الآراء- حول المسألة السكانية وهي بهذا المعنى تعكس تطورا بارزا وإيجابيا للفكر العالمي. ويكفي في هذا الصدد أن نشير بسرعة إلى جوانب التجديد التالية: أولا: إن التنمية وبالتحديد التنمية المستدامة أو المدعمة ذاتيا هي نقطة الارتكاز الجوهرية للوثيقة كلها. وقد تناولتها الوثيقة في الديباجة (الفصل الأول)، وجعلتها منصة الانطلاق للسياسة السكانية العالمية في الفصل الثاني المخصص للمبادئ. كما أن مفهوم التنمية المدعمة ذاتيا تتخلل كل فصول الوثيقة الستة عشر وحول مضمون مفهوم التنمية نلاحظ أن التطورات الحديثة في الفكر العالمي والتي تعيد الإنسان والموارد البشرية إلى قلب العملية التنموية قد انعكس بوضوح كامل في الوثيقة، وخاصة في الفصل الثاني الخاص بالمبادئ، وعبر الفصول من السادس حتى الثاني عشر. ثانيا: إن الارتباط بين التنمية المستدامة والسكان والنمو الاقتصادي لا يظهر في الوثيقة مجردا من المحتوى الإنساني، إذ حققت الوثيقة ربطا لا نلحظه في أية وثيقة سكانية سابقة بين السياسة السكانية وحقوق الإنسان عموما، وحقوق المرأة بصفة خاصة. وذهبت الوثيقة أبعد من أية وثيقة دولية أخرى في الدفع نحو تمكين المرأة وتحقيق المساواة والإنصاف بين الجنسين، ويمكن القول إن هذه الوثيقة تتمركز حول تصحيح الاتجاهات العالمية نحو المرأة باعتبارها منصة الانطلاق الحقيقية في أية معالجة جادة وإنسانية وتقدمية لمسألة السكان. ثالثا: المنطق العام والهيكلية الموضوعية لوثيقة مؤتمر القاهرة لا يسمح بأية شبهة جادة لوجود فلسفة مالتوسية في المنظور العالمي للسياسة السكانية. وعلى النقيض تماما، فهذه الوثيقة بالذات ركزت على نحو غير مسبوق على تحسين الصحة العامة والحيلولة دون أية وفاة أو اعتلال من الممكن تجنبه. فإضافة إلى ما جاء بالفصل الخاص بالمبادئ (الثاني) من الدعوة لاتخاذ التدابير المناسبة بكفالة الفرصة الشاملة للحصول على الرعاية الصحية، فقد خصص الفصلان السابع والثامن لتحليل واف ووضع التوصيات المتكاملة لضمان توفير الخدمات الصحية على أساس المساواة بين الرجل والمرأة. كما خصص الفصلان الحادي عشر، والثاني عشر لمعالجة متكاملة لقضية الحق في التعليم والتنمية، ولدور التكنولوجيا ونشاط البحث والتطوير في تعزيز الأهداف الخاصة بإيجاد علاقة أفضل بين السكان والتنمية والبيئة والموارد البشرية، وخاصة من خلال استئصال الفقر والأسباب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تولده. ومن الواضح أن هذا كله لا يستقيم بأي معنى، إن لم يكن النقيض الكامل للفلسفة المالتوسية. والواقع أن المناط الوحيد لشبهة المالتوسية الجديدة في الوثيقة هو إشارتها إلى جعل هدف تحقيق نمو سكان العالم بأقل من المعدل الذي يمثل سيناريو متوسطا، تبعا لتقديرات الأمم المتحدة، بحيث يصل سكان العالم بعد عشرين سنة إلى أقل قليلا من 7,5 بليون نسمة. (وهم يقدرون في منتصف عام 1994 بـ 5,66 بليون نسمة). غير أنه لا يمكن القول بأن مجرد استهداف معدلات نمو سكاني أقل نوعا من المالتوسية، وإلا اعتبرنا وفقا للمنطق نفسه أن أي تدخل إنساني لتحسين نوعية المياه في الأرض مالتوسيا أيضا. والفارق الحاسم هنا هو أن المدخل الذي تدافع عنه الوثيقة لتحقيق هذا الهدف هو تحسين نوعية واتجاهات التنمية الاقتصادية والتركيز على الموارد البشرية وبصفة خاصة التعليم والصحة، وتمكين المرأة من الاختيار من خلال مجرد إتاحة تكنولوجيات منع الحمل على نحو اختياري وليس إكراهيا. العالم.. وثقافة الغرب لقد نجح نقاد مؤتمر القاهرة للسكان في تركيز انتباه الرأي العام العالمي والعربي على بعض المسائل ذات الصلة المسيسة بالتعدد الثقافي وتعدد نظم الأخلاق والممارسات الاجتماعية في العالم. غير أن الطابع التحريضي الغالب لخطاب الناقدين قد أدى إلى إهدار الفرصة لمناقشة الأسس والمرتكزات الفلسفية الأخلاقية والاجتماعية المحددة للاختيارات الصعبة حيال بعض من أكثر الأمور حساسية وتعقيدا في التطورات الاجتماعية المرتبطة بهذه الحقبة من التطور العالمي، وإتاحة قدر أكبر من المعرفة والمعلومات ذات الصلة على نحو واضح للرأي العام. وبسبب هذا الإبهام والتعتيم على مجمل الأسس الفلسفية للقضايا المثارة، نجح نقاد المؤتمر في إيهام الرأي العام برسالة أحادية جوهرها هو أن الغرب إنما يفرض قيمه ويصدر أمراضه إلى كل ثقافات العالم كجزء من التطويع الثقافي للعالم الثالث لمقتضيات النظام العالمي الجديد. ويشار هنا تحديدا إلى أن وثيقة المؤتمر قد أهملت دور الأديان والمعتقدات، وفرضت سياسة سكانية جامدة ومتجانسة على كل دول العالم دون مراعاة لخصوصيتها الثقافية والاجتماعية. وفي هذا السياق فهي تعمم ممارسات مثل إباحة العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج والأسرة القانونية المعروفة، وتقنين الإجهاض، وتشريع العلاقات الجنسية المثلية الشاذة.. وغيرها. والواقع أن هذه الاحتجاجات لا تخلو من بعض الوجاهة وبعض المصداقية، وقد تعامل معها المؤتمر نفسه بجدية شديدة على ما تستحقه من اهتمام وجدارة. ولا يمكن نفي قيمة التعددية والصراع الفكري الصحي حول مسائل حساسة تتعلق بصميم معاني الأخلاق في الحياة المدنية. غير أن المنهجية التحريضية التي روج لها نقاد الوثيقة لم تساعد بقدر ما عطلت مناقشة جادة وخلاقة وملتزمة أخلاقيا لتلك الجوانب الاصطلاحية والقيمية من الوثيقة. ولا يزال من
الممكن والضروري إتاحة مناقشة أفضل وأكثر رقيا لهذه الجوانب أمام الرأي العام. وحيث
لا تسمح المساحة المتاحة هنا بتناول التعقيدات الفلسفية والأخلاقية والدينية
والاجتماعية المتضمنة في صياغات وأحكام وثيقة المؤتمر، فسوف نكتفي هنا بإبراز بعض
النقاط المنهجية الأكثر أهمية. خلاف الثقافات والرؤى الدينية ومن الطبيعي أن تثور في هذا السياق خلافات أعمق بين الثقافات وبين الرؤى الدينية والأخلاقية المختلفة تجاه نفس القضايا والإشكاليات. ومن هذا المنظور ربما يكون النجاح في إصدار وثيقة تتضمن أحكاما حول تلك المسائل هو أمرا إعجازيا بحد ذاته بالنظر إلى التعددية والاستقطابية بين الرؤى الثقافية لهذه المسائل. والصعوبة الحقيقية هنا هي الكيفية التي يمكن بها التعاطي مع أساليب حياة وعادات شتى ومتباينة في مناطق حضارية وثقافية مختلفة من زوايا كثيرة، دون أن يتضمن ذلك فرضا قسريا لقواعد وأحكام متجانسة وواحدية على كل الثقافات والحضارات. ولدى تناول ممارسات أو مظاهر لأساليب حياة واختيارات معينة ذات صلة قوية ونتائج وانعكاسات واضحة على الأوضاع السكانية، تتمثل الصعوبة في الكيفية التي تعالج بها الأمم المتحدة النتائج السلبية لهذه الممارسات على الأهداف المرغوبة- إنسانيا وسكانيا- دون أن تتورط في تشريع وتقنين أو تجريم وإدانة هذه الممارسات. إذ لا شان للأمم المتحدة بإضفاء الشرعية أو نفي هذه الشرعية عن ممارسات تتم في الحيز الخاص والشخصي للغاية من الحياة الإنسانية. ولهذا السبب
تعاملت الوثيقة مع ممارسات معينة مرفوضة دينيا مثل الإجهاض أو السلوك الجنسي خارج
نطاق الأسرة القانونية كأمور تحدث بالفعل في مناطق معينة من العالم، وذلك دون أن
تضفي عليها الشرعية ولكن دون أن تتجاهلها أو تدينها أيضا. وقد كان هذا الموقف هو
موضع النقد والاحتجاج داخل المؤتمر وخارجه على أساس أن عدم الإدانة أو التجاهل قد
يسمح بتفسير يبيح هذه الممارسات. وبحكم تعقد التمايزات فإن الأحكام المتضمنة في الوثيقة حيال العديد من القضايا ليست بالضرورة متجانسة، وإنما يتحتم التعامل مع كل حكم أو صياغة من قضية ما على حدة. فعلى سبيل المثال فإن الوثيقة ترفض بوضوح تام وقطعي الإجهاض كوسيلة لمنع الحمل أو تنظيم الأسرة. كما أنها تؤكد أن إتاحة الوسائل المأمونة لمنع الحمل تقلل من لجوء بعض النساء للإجهاض، وتنهي الحاجة لهذه الممارسة القاسية. ومع ذلك فالوثيقة تعترف بواقع لجوء نساء كثيرات للإجهاض غير المأمون طبيا، وهو ما يعرض صحتهن للخطر ويفضي إلى وفاة مئات الآلاف منهن. ولأن تلك النتيجة غير مضمونة، فالوثيقة تنصح بتقديم خدمة طبية وآمنة لمن يلجأ من النساء فعلا إلى هذه الوسيلة. أي أن الوثيقة تتعامل مع الإجهاض فقط في حدود ما يمثله من خطر داهم على حياة آلاف من النساء، ومن وجهة النظر الصحية البحتة وليس من وجهة النظر الأخلاقية أو السكانية. الجنس.. تعليم وتهذيب وانطلاقا من نفس
المنهجية الواقعية البرجماتية التي تتعامل مع نتائج ممارسة أو سلوك ما وليس مع
مرغوبيته الأخلاقية تدعو الوثيقة إلى التعليم والتهذيب حول الممارسة الجنسية فيما
يتعلق بالذات بآثارها الصحية. فوفقا لتقديرات صندوق الأمم المتحدة للسكان تكاد
الأمراض المنقولة عبر الممارسة الجنسية في دول العالم الثالث تتجاوز عشرة أضعاف
معدلاتها في الدول المتقدمة. وحيث إن بعض الثقافات تقبل بالممارسة الجنسية خار إطار
الزواج القانوني وبعضها الآخر يرفضها، فالأمر المشترك فيما بين كل الثقافات يمكن
إيجاده في مقاومة الأمراض المنقولة عن طريق هذه الممارسة بالتعليم والتثقيف إلى
جانب الوسائل الطبية بالطبع. وعلى النحو نفسه تعاملت الوثيقة مع عدد من القضايا
المماثلة الأخرى. وهذا التحيز ليست له صلة فكرية بالتحيز للغرب. ذلك أن حركة المرأة والثقافة النوعية المرتبطة بها صارت عالمية بمعنى كثيف. وعلى حين نستطيع القول بأن الحركة النسوية قد هزمت- ولو مؤقتا- في الولايات المتحدة مثلا، فهي مزدهرة ومنتصرة- ولو مؤقتا- في كثير مش الدولة الإفريقية وبعض الدول الآسيوية حيثما لا تجد مقاومة شديدة من ثقافة دينية عميقة الجذور مثلما هو الحال سواء في الدولة الإسلامية أو في أمريكا ذاتها. والاستقطاب الثقافي هنا هو أساسا رأسي بمعنى أنه لا يشق العالم إلى غرب وشرق أو شمال وجنوب هـانما يشق كل المجتمعات والدول، بغض النظر عن درجة تقدمها أو فقرها وغناها. وهذا النوع من التمايزات (أو الانشقاقات) الثقافية النوعية والتي تقع على المحور الرأسي (أي تكون عابرة للتمايزات التقليدية بين شمال وجنوب وغنى وفقر وتقدم وتخلف) سوف يشكل على نحو متزايد أحد أهم ملامح التطور الثقافي العالمي في الحقبة المقبلة من التاريخ العالمي. وهو تطور يعكس بحد ذاته مدى التعقيد الذي أصاب نمط الحياة الحديثة، ومدى الصعوبة في إيجاد حلول للمشكلات المنبثقة في سياق التأقلم مع الأنماط البعيدة للعلاقات الدولية والظروف المتغيرة لكوكب الأرض والذين يعيشون عليه.
|
|