مولد عصري في جبال عيذاب!؟ زيارة للإمام الشاذلي في الصحراء الشرقية المصرية

مولد عصري في جبال عيذاب!؟ زيارة للإمام الشاذلي في الصحراء الشرقية المصرية

"أتريد أن تجاهد نفسك وأنت تغريها بالشهوات حتى تغلبك..؟ ألا فقد جهلت ، فالقلب شجرة تسقى بماء الطاعة، فلا تكن كالعليل يقول لا أتداوى حتى أجد الشفاء، فيقال له لا تجد الشفاء حتى تتداوى بالجهاد ليس معه حلاوة، ما معه إلا رءوس الأسنة فجاهد نفسك هذا هو الجهاد الأكبر".

قبيل الفجر بساعتين تصحو الصحراء على أصوات أهازيج غنائية ممطوطة الإيقاع وحزينة يحملها ليل الصحراء الرقراق فتستثير.شغف الإنسان الداخلي إلى طمأنينة الروح وسكينة القلب.

ها هم أتباع أبي الحسن ومريدوه والمتعلقون به تهل طلائعهم في موسمهم السنوي لزيارته. تتصاعد أهازيجهم من الناحية الأخرى للجبل فتسري عبر الليل الرقراق المضاء بملايين النجوم الشديدة القرب والمتناهية في البعد في الوقت نفسه، وعلى الصخور الحادة والمدببة للطريق الملتوي القادم من جبل الحفافيت تدرج عرباتهم التي تجرها الجياد والجمال، محملة بالدقيق والحلوى والذبائح. ومحملة بأشواقهم وحماساتهم ولهفتهم الظامئة، للقاء الرجل الذي مات منذ سبعمائة سنة!

ملمح قديم

يقدمون إليه في ذلك الموعد من كل عام من فجاج الأرض ومسالكها المتباينة، يعجب الإنسان لتباينهم كتباين تلك الطرق التي يسلكونها، عمال ورعاة وبدو وأثرياء ريفيون، وأفندية وأطباء وقضاة، من كل أرض فيها مسلمون من أتباعه، يجيئون قاصدين تلك البقعة من صحراء مصر الشرقية حيث كانت توجد مدينة حميثرا القديمة التي اندثرت الآن، وكانت محطة للقوافل على طريق الحج القديم في وادي عيذاب، بمواجهة مكة على البحر الأحمر، فيتحلقون حول ذلك البناء الصغير المتواضع في صحن الجبل الذي يحيط بالوادي ويلقون بأهازيجهم وغنائياتهم، وفي الفجر، مع وقفة عيد الأضحى، يذبحون الذبائح على عتبة ضريحه المتواضع، ويرفعونها لقبته التي تعشش العصافير - ويا للغرابة - في ثقوبها، فمن للصحراء يا ترى بالعصافير؟

رحلة قديمة

منذ ثلاثين سنة، في الستينيات من هذا القرن الموشك على نهايته، خلال رحلاتي في جبال الصحراء الشرقية بمصر، سمعت السؤال أكثر من مرة:

- متى تزور الشيخ؟

أيامها قال لي الجميع إن الرحلة شاقة لكن الزيارة واجبة، فعيد الأضحى على الأبواب وسوف تزدحم الطرق الجبلية بالبغال والجمال، وسوف تمتلئ ساحة الشيخ بخيام الزوار القادمين من أقاصي البلاد.

يركبون الطريق الطويل الصعب أياما وليالي ليقيموا في جوار الشيخ ليلة وقفة. عرفات ونهار العيد، يتبركون به ويقدمون له النذور، ويذبحون الذبائح على جدران ضريحه في الفجر، ويشاركون في حلقات الذكر التي تقام حوله، فينفضون خلالها عن قلوبهم همومهم ويتخففون. أما فقراء البدو فيجيئون سيرا على الأقدام، تتسلخ أقدامهم ويهترئ جلدها من مشقة الرحلة لكنهم لا يتخلفون عن المجيء، فالشيخ في نظرهم بركة الصحراء وظلها ونورها وهواؤها، الشيخ نور ونار، إضافة لهذا الرزق الذي يأتي به الزوار.

وقد دعاني الحاج ناصر - عمدة الصحراء في ذلك الحين - للزيارة في الصباح المبكر.

وفي الصباح المبكر كانت سيارة النقل التي نركبها ضئيلة وذائبة كأنها حشرة صغيرة تزحف على الصخور، متجهة إلى عمق الصحراء حيث يتصارع البدو على مناطق الماء بين شموخ الجبال، وحيث يصبح نور الشمس جحيما يذيب الجلود، وتصير بقعة الظل التي يلقيها على الأرض جبل ما نعيما لا يعدله نعيم.

كنا جالسين في العلبة الأمامية للسيارة حينما أخذ العمدة يوصى السائق بأن ينتبه للأشجار الجافة التي نمر بها لنجمع الحطب لجامع.

فهز السائق رأسه علامة الفهم والموافقة، بينما سألت الحاج عن جامع هذا، فمضى يحدثني عن ذلك العبادي الذي ولد بجوار ضريح الشيخ وأمضى في مقامه أكثر من تسعين سنة، لم يغادره لحظة واحدة، حتى أصبح علامة من علاماته، يعرفه جميع الزوار الذين يجيئون ويعرفون أنه يحب شيئين لا ثالث لهما، الحطب والملبن.. والملبن يسميه "هلاوة"!.

أخرجنا عيوننا من نوافذ السيارة ورحنا ندقق النظر في الصخور والوديان ونشير بأصابعنا للتوقف كلما رأينا غصنا متساقطا أو شجرة جافة، بينما السيارة تغوص بنا بين الجبال التي كانت تتوالى حولنا من الجانبين حتى خيل لنا أنه لا نهاية لها، وأن السائق قد ضل بنا الطريق. وبين الحين والحين كانت تبرز لنا كومة من العظام البيضاء على طرف جبل أو عند حافة واد، أو غصن جاف ترفرف في أعلاه قطعة صغيرة من القماش البالي، هي علامات الموت في الصحراء، فكومة العظام كانت جملا، إذا دققت فيها النظر تجدها منهارة متناثرة فتعرف أن الموت قديم، وأنه فاجأ الجمل وهو يمشي فتهالك على نفسه. وأحيانا كنا نجد الجمجمة مشرئبة تحملها عظمة العنق، فقد مات الجمل وهو جالس يتأمل تلك الصحراء في عظمة. وحين يموت الرجل يوارونه في التراب، وقد يموت الرجل بين غيره من الرجال، فيحملونه معهم إلى أهله، وقد يعثرون به ميتا وحده فوق صخرة، أو على حافة سهل، متشقق الفم من العطش مطفأ العينين من الحر والموت، بعد أن أضناه السير بحثا عن إنسان أو حيوان يهديه إلى نقطة من الماء.

وهكذا ظللنا نمضغ القلق والهواء الصحراوي الجاف يمتص عرقنا أولا بأول، دون أن يجسر أحدنا على أن يقطع الصمت على ذلك السائق الذي يقود سيارته باطمئنان واثق، وكأنه يعرف طريقه جيدا في تلك الجبال المتشابهة، إلى أن أشرفنا قرب الظهر على منحدر جبلي، هبطنا منه إلى ساحة صخرية، يتوسطها بناء صغير أصفر اللون، تمرح حوله بضعة جمال عارية البياض..

وما كادت عربتنا تدرج على المنحدر وتدخل الساحة حتى رأينا بئرا وحولها عشرات من بدو العبابدة يشربون ويملأون، وكان جامع في "عشته" المقامة من الصفائح وأعواد الحطب الجافة نحيلا عاجزا يبدو كأنه لا يستطيع الحركة، وخلفه أكوام صغيرة من هدايا الحطب، ذخيرته التي يستعين بها على قسوة الشتاء عندما يعزله وحيدا مع الشيخ.

دخلنا البناء المتواضع حيث مقام الشيخ، جدران كالحة من الحجر الرملي تحيط بساحة صغيرة مفروشة بالحصير دون سقف، ثم باب إلى اليسار يؤدي إلى غرفة ضيقة، تضم مقام الشيخ في وسطها، مقام متواضع مغطى بالحرير الأخضر والأصفر، ورأس المقام الشامخ أخضر، وحول المقام ممرات ضيقة تمرح فيها زنابير الصحراء التي تزن وتلدغ، وعلى الجدران قد علقت أو ألصقت مئات من الصور الشخصية والخطابات، هدايا الزوار وشكاواهم لصاحب المقام، أو على الأرجح رغبتهم في مجاورته في تلك العزلة النائية، وعلى رأس المقام كانت لوحة معلقة في برواز زجاجي رخيص، تضم موجزا تاريخيا لحياة صاحب المقام، القطب الشاذلي، كتبه أتباعه ومريدوه.

القطب الشاذلي

يقول الموجز:

القطب الشاذلي هو الإمام العظيم قطب الأولياء وإمام الأصفياء، من عمت بركته كل المسالك، العارف بالله والدال عليه، القطب الغوث الجامع الرباني الحسن العلوي، أبو الحسن علي الشاذلي إمام كل ولي، بن عبدالله بن عبدالجبار بن تميم بن هرمز بن حاتم بن قصي بن يوسف بن يوشع بن ورد بن علي بطال بن أحمد بن محمد بن عيسى بن محمد بن سبط المصطفى الحسن بن علي كرم الله وجهه.

ولد الشيخ العارف صاحب الأسرار العلمية والحقائق القدسية والأنوار المحمدية، أستاذ الأكابر والمتفرد في زمانه بالمعارف السنية والمفاخر، أوحد أهل زمانه علما ومالا وقدرا وهيبة ومعرفة ومقالا، أستاذ الطريقة الشاذلية، بقرية "غمارة" قرب مدينة "سبتة" الواقعة على بوغاز جبل طارق من بلاد المغرب الأقصى المعروفة الآن بمراكش في شمال إفريقيا، وذلك سنة 551 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

كان رضي الله عنه آدم اللون "اسمر" نحيف الجسم طويل القامة خفيف العارضين، طويل أصابع اليدين كأنه حجازي، وكان فصيح اللسان عذب الكلام متصفا بالأخلاق الفاضلة وعلو النفس والحلم والتواضع والزهد، كثير الخدمة لإخوانه حتى صار محبوبا عند الكبير والصغير.

انتقل رضي الله عنه من مسقط رأسه "غمارة" إلى مدينة تونس وهو صبي صغير فمكث بها مدة وتوجه منها إلى بلاد المشرق وحج مرات كثيرة وطاف بلاد العراق وبلاد المغرب واجتمع بكثير من مشايخهما وأقطابهما، فقد كانت سجيته إذ ذاك مصاحبة العلماء ودينه خدمة الأولياء.

كان يعتاد زيارة بيت الله الحرام في كل عام، وفي سنة 656 هجرية بدأ زيارته من مدينة القاهرة، وصحبه فيها سيدي أبو العباس أحمد بن عمر المرسي الأنصاري، خليفته الأكبر، وبعض خلفائه ونقبائه المقربين إليه. وكان يشعر بدنو أجله وأن هذه آخر زيارة له، إذ دعا صحبته ورفاقه على غير المألوف كل عام وقال لهم: "احملوا معكم فأسا حتى إذا ما توفي أحدنا واريناه التراب" فكان ذلك مكرمة منه وإشارة لدنو أجله وموته خلال هذه الرحلة.

وعند منطقة "حميثرا" خرجت روحه الشريفة هناك، في شهر ذي القعدة من عام 656 هجرية. وبذلك يكون قد - عمر رضي الله عنه وأرضاه - خمس سنين بعد المائة، ولقد دفن رحمه الله بمدينة "حميثرا" في صحراء "عيذاب"، وهي أقصى صعيد مصر من جهة صحراء سواكن..

ومن مآثره وبعض كراماته ظهوره رضي الله عنه ونشره سجل أشياخه المتقدمين وتأسيسه القواعد لأتباعه المتأخرين، وكان في صحراء عيذاب بالقرب من المدينة التي مات ودفن بها بئر صغيرة جدا وماؤها مالح، فغسل من هذه البئر فكثر ماؤها وفاض وهدأ وصار عذبا سائغا شرابه حتى يكفي الركب إذا نزل عليه وسميت من يومها ببئر الشاذلي.

مجاهدة هاكم

رجلا غادر وطنه زاهدا، فنما خلال الترحال، وأمكنه أن يخلص جسمه البشري من أثقال بشريته، فسما به وشف حتى أمكنه التحليق في الطريق إلى الله، ويؤكد أتباعه ومريدوه أنه وصل إليه؟ أبا الحسن الشاذلي، ذلك اسمه المدون بخط عربي ركيك على حائط مقامه الأخير تحت تلك القبة الصغيرة المتواضعة التي تحوي في ثوبها مئات من أعشاش العصافير، حيث لا توجد في الصحراء عصافير!

كان يقول: "أتريد أن تجاهد نفسك وأنت تغريها بالشهوات حتى تغلبك، ألا فقد جهلت، فالقلب شجرة تسقى بماء الطاعة، فلا تكن كالعليل يقول لا أتداوى حتى أجد الشفاء، فيقال له لا تجد الشفاء حتى تتداوى بالجهاد، ليس معه حلاوة، ما معه إلا رءوس الأسنة، فجاهد نفسك، هذا هو الجهاد الأكبر".

وفي الساحة الجبلية، على مرمى عشرين ذراعا من البئر، تجمع العبابدة الرعاة والفقراء تحت العشة المقامة من الصفيح والحطب، يداعبون جامع خادم الشيخ فيوهمونه أن بعضهم يسرق حطبه، فيهب جامع متخاذلا ويجري هنا وهناك على ساقيه العجوزتين الشديدتي الشبه بأعواد الحطب، وحين يجذ حطبه بخير يضحكون فيضحك معهم، لكنه يقع في الخدعة نفسها بعد دقيقة أو دقيقتين.

ذلك منتداهم أو مقهاهم، وتلك هي تسليتهم يكررونها طوال الأيام والشهور والأعوام في ذلك الفراغ الصحراوي دون أن يسأموا منها.

إنهم يجوبون الصحراء بأغنامهم وجمالهم ثم يعودون إلى منتداهم جوار مقام الشيخ، فيطلقون الجمال والأغنام تشرب وتمرح، ويجلسون حول الشاي وجامع، يشربون أيضا ويمرحون، بينما مئات الصقور الشرقية البنية الريش الصفراء المخالب والمناقير تحلق عالية قادمة من بئر شلاتين وجبل الأبرق، وعبر القمم المتألقة ببياض الريش في جبال زرقة النعام، لتحوم على الهضبات كأنها تحتفل بموسمها السنوي، تحوم في السماء دائرة في دائرة متسعة، مرة، ومرتين، وثلاثا، محاذرة أن تصطدم رءوسها المريشة بقمم الصخور ونتوءاتها، دورانا يتزايد انخفاضه في كل مرة تمهيدا للانقضاض فتختطف بمخالبها من الأرض بقايا الاحتفال الذي كان قائما وانفض برحيل الأتباع والمريدين والزوار، من أقدام الذبائح وأحشائها.

عبابدة وبشاريون

كانت الجبال منطوية على أسرارها والصحراء غامضة مغلقة على سكانها من قبائل البجاة، أقدم شعوب إفريقيا الذين جاءوها من آسيا، ويرجح الرواة أنهم من سلالة كوش بن حام، الذين هاموا على وجوههم بعد الطوفان. كانوا وثنيين إلى أن جاء الإسلام فاعتنقوه لكنهم ظلوا على بداوتهم. ولغتهم، ليكونوا جديرين بذلك العناد التقليدي المشهور عنهم، فعلى الرغم من قسوة الحياة في الصحراء وجدب الوديان معظم الحول وجفاف الآبار، إلا أنهم ظلوا لاصقين بصخور هذه الجبال يتكاثرون فيها وينقسمون إلى فروع وقبائل، منها البشارية، والعبابدة، والبوجوس، بنو عامر، يتناثرون حول الآبار والعيون الباقية على حالها من زمن الفراعنة، وأسلحتهم سيف طويل ودرع، ورمح أو خنجر، وسيفهم مصنوع مثل سيف أسير من الحروب الصليبية. يوسدون رءوسهم حينما يفترشون الأرض للنوم وسادة من خشب الشجر مصنوعة على غرار وسادة توت عنخ آمون الذهبية، ويهيمون بين الجبال وراء الإبل والغنم والعنز، ويشدون خيامهم التي تصنعها نساؤهم من سعف نخيل الدوم، في مناطق الرعي على السهل الساحلي من بئر الشلاتين في أرض مصر إلى حدود مملكة السودان. ويقعون أمامها يسوون الخبز على الصخور، ويرشفون القهوة السوداء المغلية، بينما ترعى الإبل نصيبها من نبت الصحراء العزيز الشحيح.

وفي المواسم كانوا يرسلون القوافل إلى السودان يكررونها طوال الأيام والشهور والأعوام في ذلك الفراغ الصحراوي دون أن يسأموا منها. إنهم يجوبون الصحراء بأغنامهم وجمالهم ثم يعودون إلى منتداهم جوار مقام الشيخ، فيطلقون الجمال والأغنام تشرب وتمرح، ويجلسون حول الشاي وجامع، يشربون أيضا ويمرحون، بينما مئات الصقور الشرقية البنية الريش الصفراء المخالب والمناقير تحلق عالية قادمة من بئر شلاتين وجبل الأبرق، وعبر القمم المتألقة ببياض الريش في جبال زرقة النعام، لتحوم على الهضبات كأنها تحتفل بموسمها السنوي، تحوم في السماء دائرة في دائرة متسعة، مرة، ومرتين، وثلاثا، محاذرة أن تصطدم رءوسها المريشة بقمم الصخور ونتوءاتها، دورانا يتزايد انخفاضه في كل مرة تمهيدا للانقضاض فتختطف بمخالبها من الأرض بقايا الاحتفال الذي كان قائما وانفض برحيل الأتباع والمريدين والزوار، من أقدام الذبائح وأحشائها. عبابدة وبشاريون كانت الجبال منطوية على أسرارها والصحراء غامضة مغلقة على سكانها من قبائل البجاة، أقدم شعوب إفريقيا الذين جاءوها من آسيا، ويرجح الرواة أنهم من سلالة كوش بن حام، الذين هاموا على وجوههم بعد الطوفان. كانوا وثنيين إلى أن جاء الإسلام فاعتنقوه لكنهم ظلوا على بداوتهم. ولغتهم، ليكونوا جديرين بذلك العناد التقليدي المشهور عنهم، فعلى الرغم من قسوة الحياة في الصحراء وجدب الوديان معظم الحول وجفاف الآبار، إلا أنهم ظلوا لاصقين بصخور هذه الجبال يتكاثرون فيها وينقسمون إلى فروع وقبائل، منها البشارية، والعبابدة، والبوجوس، بنو عامر، يتناثرون حول الآبار والعيون الباقية على حالها من زمن الفراعنة، وأسلحتهم سيف طويل ودرع، ورمح أو خنجر، وسيفهم مصنوع مثل سيف أسير من الحروب الصليبية. يوسدون رءوسهم حينما يفترشون الأرض للنوم وسادة من خشب الشجر مصنوعة على غرار وسادة توت عنخ آمون الذهبية، ويهيمون بين الجبال وراء الإبل والغنم والعنز، ويشدون خيامهم التي تصنعها نساؤهم من سعف نخيل الدوم، في مناطق الرعي على السهل الساحلي من بئر الشلاتين في أرض مصر إلى حدود مملكة السودان.

ويقعون أمامها يسوون الخبز على الصخور، ويرشفون القهوة السوداء المغلية، بينما ترعى الإبل نصيبها من نبت الصحراء العزيز الشحيح.

وفي المواسم كانوا يرسلون القوافل إلى السودان جنوبا، أو قنا على النيل غربا، فتبيع الإبل والغنم وتشتري البقول والتبغ، يتصل النجع بالنجع ويتحلق الرجال في شبه دائرة ويتفقون على المطلوب بيعه من الدواب، والمطلوب شراؤه من التموين والزينة، ثم يتهيأ المندوبون فيتسلمون مقاود الإبل، ويقودون القافلة عبر الدروب المطروقة التي سواها أجدادهم القدامى بسعيهم المنتظر بين الجبال.. فيصلون قنا على النيل في خمسة أيام، ويصلون جبل علبة المطل على مشارف السودان في تسعة أيام أو عشرة. وحين يقترب ميعاد العودة يخرج البشاريون والعبابدة وغيرهم ممن بقي بالصحراء للقاء القافلة على الماركة، يمضون وقتهم هناك يرصدون الأفق، عساهم يلمحون القافلة وهي تعود، يكون الحرمان قد أضناهم، والشوق إلى الأشياء القادمة من وراء عالمهم يحرك فضولهم، حتى تجيء القافلة فيقيمون الأفراح داخل نفوسهم الشجاعة الصبورة، ويطربون، وتصبح الصحراء خضرا كاملا إذا جاءت القافلة بالسجائر والعطور والبقول والحلاوة!

إن الشيء عندهم هو الشيء، والرجل عف اللسان كريم متأمل، لا يمكنه أن يكذب أو يسرق أو يزني، ومن يخطئ في واحدة من هذه الخطايا يحتقر، وترفض البنات زواجه، وإذا دخل مجلسا ووزعت فيه القهوة مد الساقي يده بالفنجانة موهما إياه أنه يقدمها له فإذا مد يده لتناولها سكبها الساقي على الأرض امتهانا لشأنه، فينصرف عن المجلس دون أن ينطق بحرف، وفي أغلب الأحوال يرحل عن الصحراء إلى بلاد لا يعرف أحد فيها جنايته.

لقد غرست فيهم الصحراء شتى الفضائل، فأخذوا يشهرون من هذه الفضائل سلاحا يواجهون به مخاطر حياتهم اليومية، إن الفضائل تمنحهم قدرة على الصفاء فيمتلكون حسا غريزيا مشبعا بالطمأنينة، يضيء في عقل البدوي حينما يضيع منه الطريق في رمال الصحراء الساخنة الناعمة، فيهتدي إلى طريقه، وتجعل قلبه يدق له إنذارا بالخطر وهو نائم في ليل الصحراء السحري حينما يقترب من جسده عقرب أو ثعبان.

وعلى طول الطرق الصخرية المحفوفة بالمراعي، كنا نلمح بعض نساء العبابدة في عباءاتهن الرمادية الفضفاضة، دون ملامح أو تفاصيل، لأن المرأة العبادية مغطاة من الرأس إلى القدم، ورغم ذلك فما تكاد عربتنا تقترب من المكان الذي نلمحها فيه حتى تختفي المرأة كأنما تبددت في الهواء، ثم نتبين أنها انزلقت إلى الأرض، ألقت بنفسها بين الصخور فأصبحت جزءا منها حتى لا تقع أنظارنا عليها. هي تولد وتعيش في الصحراء وتملك في روحها قدرة جبارة على الصبر والمجاهدة، ولا تقبل أبدا أن تتزوج عباديا يعيش في الحضر بجوار الزرع والماء، فهو في نظرها ضعيف، لم يقدر على مواجهة الصحراء فهرب منها إلى الحضر!.

وكان البدو العبابدة عموما لا يقيمون وزنا كبيرا لأقاربهم الذين يقيمون في الحضر، الذين انحدروا على مر الزمان إلى حافة وادي النيل واندمجوا في الصعيد وعاشوا على الزراعة، ولا يتكلمون عنهم باحترام كبير، لأنهم فضلوا الحياة السهلة اللينة بجوار الماء وهجروا الجبل والمراعي الخشنة القاسية التي تصنع الرجال.

كان ذلك منذ ثلاثين سنة، واليوم لا يزال ذلك العجوز القديم العم جامع، الذي تجاوز بعمره. بضع عشرات من الأعوام بعد المائة، لا يزال قابعا بطريقته المعتادة على فخذ ونصف كأنه مشرئب، ليرى بأذنيه بعد أن فقدت عيناه قدرتهما على الرؤية، يواصل ما يتشدق به على الناس ويفاخرهم بحراسته لمقام الشيخ العظيم الراحل في تلك المتاهة اللا متناهية، بينما هو في الحقيقة يحتمي به!.

وها هو موعد زيارة أتباع القطب ومريديه، لكن ما بال الزحام يختلف الآن في نوعيته عما كان عليه منذ ثلاثين سنة؟

لقد اختفت الحمير والبغال وحلت محلها عربات النصف نقل وعربات الأجرة، تجيء محملة بالأهالي من ريف الوادي، من المدن الغربية في الصعيد، قنا وإسنا وقفط وأبنوب، ومن بعض القرى التي تمتزج في ملامحها طبيعة الريف بطبيعة الصحراء مثل برديس ومرسى علم وسفاجا والقصير.

اختفى الأساتذة والأفندية وساد الطابع الشعبي، يتزاحم الركاب في صناديق تلك العربات جنبا إلى جنب خيامهم وأدوات معيشتهم، بما فيها أنابيب البوتاجاز ومواد التموين التي تكفيهم أيام الزيارة الثلاثة.

كما اختفت الأهازيج والأغنيات وسط الصياح والضجة التي يصنعها هذا الكم الهائل من الأطفال وصغار السن القادمين مع الزوار.

وما تكاد طلائعهم تهل على الساحة الجبلية التي كان المقام ينزوي ضئيلا وحيدا في مساحتها الصخرية، حتى نكتشف أن المكان نفسه قد تغير، فقد اتسع الضريح وأصبح مقاما كبيرا يستند إلى مسجد ضخم متسع حديث البناء، وقد أحاط بالمسجد والمقام سور كبير متسع، يحتوي في جنباته غرف الخدمة ودورات المياه ومظلات تحمي حلقات الذكر من شمس الصحراء اللاهبة.

كما امتدت الأبنية على أول الطريق من مدخل الساحة، وحدة صحية، ومدرسة ابتدائية ومجمع استهلاكي لمواد التموين. فخلال الأعوام الثلاثين، جرت في الصحراء مياه كثيرة وسيول، وزحف الحضر مع محاولات الدولة البطيئة لنقل الخدمات وتوصيل المرافق. كما ساهم البدو أنفسهم في مجالس الإدارة المحلية لتلك المناطق لدراسة مشاكلهم في الماء والتموين والرعي والزراعة وإيجاد الحلول لها. وكان لتلك الناحية من عيذاب، - حيث مقام الشيخ - نصيب الأسد باعتبارها منطقة جذب للسياحة الداخلية الدينية.

تصوف إيجابي

الطقوس لا تزال هي الطقوس، لكن الأداء اختلف، وضاعت منه تلك الرهبة الروحانية التي أحسسناها في تلك الزيارة القديمة بتأثير الفراغ الصحراوي والجبال المحيطة بالمقام المتواضع. الآن لا تكاد ترى الجبال، لقد استقرت عشرات العربات على امتداد الصخور حول الساحة وبدأ العشرات من ركابها في إنزال حوائجهم، ونصب خيامهم ومواقد طعامهم وأماكن قعودهم ونومهم، وامتلأ المكان بالجلابيب والملاءات وملابس الأولاد والبنات الملونة. وامتلأ أيضا بصخبهم ونداءاتهم على بعضهم البعض، وضاعت الطقوس في الهرج والمرج.

وكان يشق هذا الزحام والهرج، طريق طويل ممتد إلى المسجد الجديد والمقام، أقيمت على جانبيه دكاكين الباعة من كل صنف، ملابس ملونة وحلي وأدوات زينة وأدوات مطبخ وأدوات لعب للأولاد، كما أقيمت خيام الحواة والسحرة وألعاب "النشان" ولعبة المدفع الشهيرة التي يتبارى الشباب في دفع مدفعها محملا بأثقال الحديد الملونة.

كانت بالفعل مفاجأة كاملة، وكأنما تلك القرية القديمة قد عادت إلى الوجود تضج بالحياة وبالحركة.

ونودي بالنداء: كسوة المقام.. كسوة المقام؟

فتسارع الشباب والرجال إلى حيث وقف أمام خيمته رجل في الستين من عمره يحمل طيات من الحرير الأخضر، فأمسكوا بها من أطرافها وفردوها على امتدادهم وساروا بها في السوق حتى وصلوا إلى المقام حيث سلموها إلى الراضي وإخوته خدم المسجد والضريح، ليجهزوها حتى يتم خلع الكسوة القديمة ويكسى الضريح بالجديدة.

كان الحرير الأخضر يتماوج فوق الرءوس وهم يرددون الذكر والتكبير، وأنا أتساءل بيني وبين نفسي، أين ذلك المقام القديم الصغير الفقير بقماشه الأجرب، من هذا المقام المهيب المكسو وقد أحاطته حواجز الأرابيسك العالية، وفرشت أرضيته بالسجاجيد والبسط، وزينت جدرانه الداخلية بالآيات القرآنية؟

وأسأل عبدالراضي: هل تتغير الكسوة كل عام؟ فيقول لي: يحدث ذلك فقط عندما يفكر بعض الزوار أو أحدهم ممن أعطاهم الله، في إهداء المقام كسوة جديدة، وأسأله مرة ثانية: من الذي قام بهذه التوسعة وهذه الإنشاءات الجديدة، وهذا المسجد الكبير الحديث؟ ويقول عبد الراضي: خلال السنوات الماضية، عندما مهدت الحكومة الطرق وساهمت مع بعض شركات التعدين في إنشاء بعض المرافق، بدأ الزوار من عامة الناس في صعيد مصر، وبعض البلاد من وسط الدلتا، في التوافد للزيارة.

فعدت أسأله: وهل الزوار هم الذين قاموا بهذه الإنشاءات؟ أجاب: لا، الجامع، كتبنا لوزارة الأوقاف فساهمت مع محافظة البحر الأحمر في بنائه عندما بدأ الزوار يتكاثرون وبدأت المنطقة تصبح نقطة تجمع لبدو الصحراء، كما ساهمت فروع الطريقة الشاذلية في الفرش والتأثيث وإحياء المقام.

وأخذ عبدالراضي يعدد لي فروع الطريقة الشاذلية في أنحاء مصر والتي تحوز الصفة الرسمية من المشيخة العامة للطرق الصوفية، وهي على حد قوله: البرهامية الشاذلية، والقادرية، والنشابية والعقادية والطماوية والدندراوية والخفاجية والبياعية والشبراوية والناغية، وغيرها، أكثر من مائة طريقة.

وهي كما نلاحظ تحمل أسماء العائلات التي تقوم على الطريقة وتباشر دعوتها بين المريدين في المناطق التي تنشأ بها.

وأسأله عما يميز الطريقة الشاذلية عن بقية الطرق الصوفية، فيقودني إلى الشيخ أحمد عاشور مندوب السادة البرهامية الذي حمل الكسوة هدية للمقام هذا العام، فألقي عليه السؤال نفسه فيقول لي:

إن أبا الحسن الشاذلي وتلميذيه، القطب أبا العباس المرسي، وابن عطاء الله السكندري، أصحاب مدرسة الرسول عليه الصلاة والسلام، ودعوتهم الصوفية ليست من ذلك النوع الذي يدعو أصحابه إلى التواكل والتكاسل والعزلة عن الخلق والانقطاع عن المشاركة في الحياة العملية.

وذكر لي قولا مشهورا للشيخ الشاذلي يقدم به طريقته في التصوف بقوله: "ليس هذا الطريق بالرهبانية، ولا بأكل الشعير والنخالة، ولا بهجرة الصناعة وترك العمل، إنما هو بالصبر على الأوامر واليقين في الهداية والإخلاص في العمل لحياة الناس العامة".

وكان الشاذلي نفسه مثالا لإيجابية الحياة العملية، فعلى الرغم من كف بصره، فقد شارك في الحروب الصليبية، فدعا إلى الجهاد في موقعة المنصورة، وحفز الهمم وحرض على قتال المعتدين مما كان له أثره في نصرة المجاهدين.

دين ودنيا

اختلط الحابل بالنابل في تلك الساحة الجبلية التي كنت أعرفها شديدة السكينة والهدوء، فتحولت الآن إلى مولد وسوق كبير حافل بالبيع والشراء، وحافل بأدوات اللهو والتسلية، اختلط فيها صياح الصبية والأطفال في لهوهم ولعبهم بأصوات حلقات الذكر التي أقيمت في ظلال الضريح والمسجد.

وتذكرت تعليقا للدكتور حسن سعفان أستاذ الاجتماع بجامعة الأزهر على أحد الموالد يقول فيه: "يتناسى الناس أو ينسون أن الاحتفال بالمولد ليس إلا للذكرى والعبرة وتجديد الثقة بالله، وأن المحتفى به ليس إلا مجرد بشر كان مثاليا في أخلاقه، لكنهم يتقربون إليه بشكل يجعل منه شبه إله، وهذا أكثر ما يكون استنكارا من الدين الإسلامي". تذكرت ذلك التعليق وأنا أرى الزوار يتزاحمون على نوافذ المقام، ويلصقون وجوههم به ويهمسون إليه بشكاواهم ومطالبهم، ابتداء من طلبات الزواج من شخص بعينه، أو الرغبة في الحمل والإنجاب، إلى مشاكل العمل والمنافسة والكيد للآخرين، أو الرغبة في الانتقام منهم. وقبل أن يبدأوا في الهمس بطلباتهم وشكاواهم، يسقطون أموالهم في صناديق النذور التي تتصدر جوانب المقام. تلك الصناديق التي تستغرق من عبد الراضي وإخوته أياما وليالي بعد أن ينفض المولد وينصرف الزوار لإحصاء ما فيها من نقود. ولعل ذلك التساؤل القديم حول مصير تلك النقود التي يلقي بها الفقراء والأثرياء في صناديق النذور في تلك الآلاف من أضرحة الأولياء في أنحاء مصر وأنحاء العالم العربي كله. لا يزال مثارا، وقيل لي إن تلك الصناديق تفتح بحضور مندوب من وزارة الأوقاف، ثم تقسم تلك الأموال حسب قانون قديم، جزء للوزارة، وجزء لخدم الضريح أو المسجد بمن فيهم إمام الجامع وجزء لإعادة الترميم والصيانة كي يتجدد المظهر، ويتعاظم التأثير في الزوار، فتزداد عطاياهم وهباتهم.

 

صبري موسى







زيارة للإمام الشاذلي في الصحراء الشرقية المصرية





مدخل المقام بعد التجديد





دعاء وطلب.. أمنية أو مشكلة





جامع خادم المقام القديم- 120 سنة





الفاتحة، وطلب البركة





الفاتحة، وطلب البركة





الطواف بالهدايا والعطايا في الطريق للمقام





الكسوة الجديدة الخضراء، يطوفون بها سبع مرات حول المقام





وفود الطرق الصوفية تشارك في الاحتفال بمولد القطب الشاذلي





وفود الطرق الصوفية تشارك في الاحتفال بمولد القطب الشاذلي





أناشيد، وأذكار





أصبحت الساحة القديمة الشاغرة.. قرية عامرة





أبسطة بدوية.. ما تتميز به المنطقة





امرأة من قبائل البشارية في زينتها البدوية التقليدية





أعرابي





امرأة عبادية





درويش