لقد وصفه بوب
بقوله: "إنه أعظم وأحكم وأخس إنسان " كما وصفه الدكتور عبدالرحمن بدوي "بالخسة
والنذالة"، كذلك قال عنه العالم ا لأمريكي المعروف ول ديورانت: " نحن الآن أمام
أكبر عقل وأنشطه وأكثره مدعاة للفخر" ويقول أيضا: "إنه حظي بكل شيء إلا الشرف. ففي
سعيه وراء المناصب كثيرا ما ضحى بالمبادئ فاستغل نفوذه كمساعد للنائب العام لإصدار
الأحكام القضائية على الصورة التي يرغب فيها الملك، ودافع وهو حامل للأختام الملكية
عن أشد الاحتكارات تعسفا وظلما وحماها. وواضح أنه فعل ذلك إبقاء على رضا القصر
الملكي (بكنجهام) وقبل وهو قاض هدايا ثمينة من المتقاضين أمام محكمته ".
ومن مساوئ سلوكه
غدره بصديقه إيرل إسيكس فقد أطلعه على سره الذي يكمن في الانقلاب على الملكة
(إليزابيث)، وإذا بصاحبنا الفيلسوف يبذل كل ما لديه من مساع حتى أصبح من الذين
يحاكمون صديقه، ومازال كذلك حتى شارك في تنفيذ حكم الإعدام بصديقه.
وقد شغل هذا
السلوك مكانة في الأدب الإنجليزي. ذلك أن الثقافة العميقة تقتضي من صاحبها أن يكون
مدافعا عن القيم الإنسانية مؤمنا بالأخلاق التي من شأنها احترام تلك المبادئ. إذ إن
المثقف لا بد أن يكون دارسا لما تعنيه المبادئ الإنسانية، حين تكون موضع التطبيق،
ومن شأن ذلك أن يكون المثقف مدافعا عنها أعظم الدفاع.
وفي رأي المتواضع
أن أضر ما ابتلي به الإنسان هو ابتعاد المثقفين عن نصرة الحق والعدل، فإن ذلك يعني
تنكرهم لرسالة الثقافة التي تعني التبشير والدعوة إلى الخير والانتصار للحق
والعدل.
فالثقافة لا تعني
الإلمام بالتاريخ الأدبي والفلسفي والسياسي والاقتصادي وما إلى ذلك من الفنون
والمعارف والتي يصفها القدماء الأخذ من كل شيء بطرف، وإنما تعني ما ذكرناه، ولكن لا
بد لصاحبها من أن يلتزم التزاما صارما بالدفاع عن حقوق الإنسان، وعلى كل حال فإنه
من الأمانة للتاريخ أن نشير إلى أن فرنسيس بيكون قد أثرى الناحية الفكرية بما ألف
من كتب تتضمن أراء أثرت في التفكير الفلسفي وذلك بأن نبه إلى المنهج التجريبي
الجديد الذي به انتهى عهد الفلسفة المدرسية الوسيطة وبدأ عهد العلم الطبيعي الحديث،
فقد كان المنهج السائد هو القياس الأرسطي الذي لا ينتج علما جديدا لأن النتيجة
تضمنته في المقدمات، وصدقها راجع إلى المقدمات لا إلى الواقع، أما بيكون فمذهبه
قائم على الملاحظة والتجربة ويبدأ ببيان مواطن الخطأ في التفكير
البشري.
والحق أنك إذا
أخذت تتأمل أقوال هذا الفيلسوف الذي أشرنا إلى ما قدم من آراء قيمة أغنت التفكير
الفلسفي إذا تأملت آراءه تقف حولها حائرا أشد الحيرة، فمن ذلك قوله في وصف الثقافة
"إنها متعة الأغبياء وسائر الناس، وأن المتفوقين لا تهمهم الثقافة في شيء" ويقول
أيضا: "أن تصرف الكثير من الوقت على الدراسات لهو كسل وتوان وأن تستعمل الدراسات
كثيرا جدا من أجل الزخرف والبهرجة فهو تصنع وتكلف، وأن تصدر أحكامك كليا استنادا
إلى قواعدها فهذا مزاج العالم ونزوته".
ألا يحق لنا أن
نتساءل كيف يعتنق هذا الفيلسوف المتفوق مثل هذه الآراء التي تعني أن الثقافة ترف،
أو هي شيء يشبه العبث حسب أرائه؟.
وفي ظني أن
اعتناق بيكون لهذه الآراء يعود إلى تعلقه الشديد بعشق المناصب الرفيعة، ولو كان
الوصول إليها يقتضي منه أن يتنكر للحق والعدل.
رسالة
الثقافة
ولست في حاجة إلى
القول بأن دنيا الثقافة مليئة بأشخاص لا يهتمون إلا بمكاسبهم الذاتية. مما جعل
الإنسان لا يظفر بها ينبغي أن يظفر به من وراء الثقافة التي بذل في اكتسابها جهودا
ثقافية ومادية مضنية.
على أننا ينبغي
أن نتنبه إلى أن الثقافة قد ظفرت بمكاسب لا بأس بها. نظم المواثيق والعهود الدولية
التي تمس حقوق الإنسان قد أتت من التوسع في أن الثقافة ليست تعني ما أشرنا إليه قبل
قليل من أنها ترف أو شيء يشبه العبث. ويغلب على ظني أن الثقافة ستظفر بمكاسب ستعود
على الإنسان بالخير وإن كان ذلك لن يكون بالسرعة التي يتمناها الخيرون.
ومن المحقق أن
الثقافة لا يمكن أن تؤدي رسالتها إلا إذا كانت تعيش في ظلال شجرة الحرية، ففي هذه
الظلال يستطيع الإنسان أن يعبر عن أرائه، وهذا من شأنه إظهار ما يملكه المبدعون
والمتفوقون من طاقات وإبداع. وفي تصوري أني لا أعدو الصواب إذا قلت إن سؤالا ربما
يلح على أذهان الذين يتمنون من صميم أفئدتهم أن يكون مسير حياة هذه الأمة في الطريق
الصحيح.
ومؤدى هذا
السؤال: هل مثقفونا يقومون بما ينبغي أن يقوم به المثقفون من العمل بما تقتضي
مفاهيم الثقافة الصحيحة؟.
وجوابي على ذلك
أن ما تعانيه أمتنا من أزمة يكمن في أن فئة قليلة من مثقفينا اتخذوا مواقف صحيحة من
نمرة الحق والعدل وقالوا كلمتهم صريحة في أسباب ما حدث من زلزال أحدث خللا عظيما في
حالة الأمة العربية.
أما الكثيرون من
مثقفينا فإنهم اتخذوا مواقف مختلفة، بعضها كان غير واضح وبعضها كان مع الظلم
والعدوان، ولن تكون مسيرة حياتنا صحيحة إلا إذا كانت مواقف الكثرة من مثقفينا صريحة
واضحة، إلى جانب الديمقراطية والحرية.