حَتى يصبح الطفل نافعاً لنفسهِ ومجتمعه
بين أشهر الميلاد الأولى وسني النضج يمر الطفل بأوقات وأطوار، قد تتقلب كثيرا بين الراحة والتعب، بين السعادة والألم، وبين النجاح والفشل. ولكن ذلك كله محكوم إلى حد كبير بالبيئة الأسرية والاجتماعية التي نشأ فيها، وبنوع العلم الذي تلقاه.
تبدأ حياة الطفل - في واقع الأمر - من الشهور الأولى للحمل، لذا فالعناية بالأم الحامل تعد عناية بالطفل. وبالولادة يبدأ الطفل في ممارسة نشاطاته الفطرية، وأهمها التنفس والتغذي والإفراز والنوم.
ثم يعود ليحرك يديه ورجليه، ويحاول القبض على الأشياء، ليتعرف على ما يصادفه، خاصة أن كل ما يحيط به يجدد فيه الرغبة في المعرفة وحب الاستطلاع. ولأن مرحلة الطفولة المبكرة تعد أساسا لتكوين شخصية المستقبل، وتحديد سلوكه، لذا يجب العناية به في السنوات الأولى من عمره، فالتربية إذن تبدأ منذ ولادة الطفل.
والتربية ليست مقصورة على مكان أو زمان بعينه، وإنما هي عملية تكاد تلاصق عمر الطفل وتسايره. طوال حياته، فهو في هذه المرحلة المبكرة على الأخص يكون قابلا للتشكيل، فاحتياجاته تلح عليه دائما، وإمكاناته تنتظر الوقت الملائم لانطلاقها.
ولا تنحصر مهمة التربية في مساعدة الأطفال لكي يعيشوا حياة راضية فحسب، بل ليصبحوا رجالا يعتمدون على أنفسهم، لكن هذا النوع من التعليم يستلزم توفير كثير من المرافق التربوية، والنشاطات الثقافية، حتى تصبح التربية المستمرة أسلوبا للحياة.
مسئولية الأسرة
لا تقف مسئولية الأسرة في تنشئة الطفل عند سني حياته الأولى فقط، بل إنها مسئولة عن إعداد أبنائها للمجتمع إعدادا مباشرا. ومع التعقد في المعرفة المتاحة، والنمو الاقتصادي والاجتماعي، أخذت المدرسة في الظهور والانتشار، واحتواء الطفل في سنين تتفاوت في مدتها، ووضعت الأسرة نفسها أمام مسئولية تعليم أبنائها في مؤسسات متخصصة لذلك. وعليه يمكن القول بأن للبيئة التي ينشأ فيها الطفل أثرا عظيما على تكوينه ونمو أفكاره، ونشاطاته، وتكوين أخلاقياته التي يستمدها ويكسبها من خلال العلاقة السائدة بين والديه، ومن تخاطب المتعاملين معه داخل الأسرة ونوع لهجاتهم. ومن معايشة الطفل لتصرفات أهل البيت تتكون سنوات عمره الأولى التي تلازمه طوال حياته، ذلك أنه من خلال تفاعله مع البيئة التي حوله، وما تقدمه له من مثيرات يكتسب خصائصه الشخصية كفرد من أفراد المجتمع الذي يعيش داخل إطاره.
يعرّف بعض العلماء التعليم بأنه نشاط من قبل الفرد ة يؤثر على نشاطه المقبل، ومعنى ذلك أن التعليم يعد سلوكا يقوم به الفرد، من شأنه أن يؤثر على سلوكه المقبل، فيحسنه ويزيده قدرة على التكيف، بينما يعرفه آخرون بأنه عبارة عن عملية اكتساب الطرق التي تجعلنا نشبع دوافعنا أو نصل إلى تحقيق أهدافنا.
وهذا يأخذ دائما شكل حل المشكلات، وتفسير التعليم - بناء على الرأي الثاني - يشمل موقفا ما، ونشاطا يقوم به الفرد استجابة لذلك الموقف.
والتعليم - غير المقصود - من أكثر الظواهر النفسية شيوعا، فالأمهات يعلمن أطفالهن، والأطفال يعلم بعضهم بعضا، والصانع يقوم بتعليم الصبية، وكل منا يتعلم بمفرده عددا لا حصر له من الأشياء.
برامج العنف
أما المجتمعات التي أقامت المؤسسات الخاصة لعملية التعليم، ونعني بها المدارس، فهي مسئولة عن أن تسلك أكفأ السبل للتعليم، ولكن هذا لا يعني أن المدارس وحدها هي الميدان الذي تتم فيه عملية التعليم، فهناك المنزل والملعب والمصنع، وأماكن اجتماعية أخري عديدة، كما أن لوسائل الإعلام المختلفة دورا كبيرا مهما، لما تتسم به من قدرة على التنوع والجاذبية التي أصبحت أكثر من غيرها قدرة على جذب انتباه الطفل من خلال البرامج التي تزوده بالثراء والتشويق. ناهيك بالطبع عن البرامج التي تقدم فقرات كاملة تتصف بالعنف كالمصارعة والملاكمة، وما تكنه من عدوان وضرب بالرصاص أو إسالة الدماء أو السرقة والنهب أو الاختطاف وغير ذلك.
السلوك السوي
هو السلوك العادي المألوف في غالبية الناس، والشخص السوي هو الذي يتطابق سلوكه مع سلوك الشخص العادي في تفكيره ومشاعره ونشاطه وانفعالاته.
ومن الملاحظ ان اكتساب السلوك الاجتماعي لم يخضع للتجريب النفسي بالقدر الذي خضع له اكتساب الفرد للمهارات والتذكر، والعلماء يدركون أن الأفراد يتعلمون كيف يفضلون بعض الأشياء على بعضها الآخر، كما يكتسبون الميول والقيم ويتعلمون كيف يكونون لأنفسهم صورة عن أنفسهم، لذلك يجب الاهتمام بتربية الأطفال وغرس السلوكيات السوية في سني حياتهم المبكرة.
بناء الشخصية
ينبغي أن يهيأ للطفل المناخ التربوي الذي يساعده على الحصول على المعرفة التي تتناسب مع عمره، ويجد فيها إجابة شافية عما يدور في خلده من أسئلة، كثيرا ما يقابلها الكبار بالصد والرفض، دون أن يعلموا أنهم يقتلون أهم ملكة في هذه المرحلة، وهي حب الاستطلاع التي لو استمرت مع الطفل لأصبح شخصا يفكر تفكيرا علميا ناقدا، وأصبح قادرا على الإبداع وارتياد المجالات العلمية والمعرفية دون أن يكون هيابا أو مترددا، كما ينبغي توافر الفرص التي تساعد على نمو القوى العقلية والجسمية والنفسية، حتى يستطيع الطفل أن يساير الحياة العلمية والثقافية، في مراحل عمره المختلفة وحتى يمكن أن يسهم في تنمية مجتمعه ويشارك في تطويره.
لكل ما سبق نجد أن من الأهمية بمكان إشباع حاجات الطفل النفسية، خاصة ما يتعلق بالانتماء إلى الوطن وكذلك إلى الأمن والاستقرار، كما يتسنى تعليم التفاعل الاجتماعي واحترام حقوق الآخرين والتعاون معهم وحب العمل الجماعي.
ومن هنا يتضح أن للطفل في مراحله الأولى إمكاناته وقدراته، وله مطالبه واحتياجاته، يسعى لإشباعها، وهو ما يؤدي إلى استمتاعه بطفولته، وهو ما يؤدي أيضا إلى نموه نموا سليما، وهذا ما يدعونا إلى القول بأن التعليم والنمو عاملان متداخلان، يؤثر كل منهما في الأخر لأن النمو - وما يصحبه من نضج - شرط أساس من شروط التعليم، به يكون التمرين والتدريب، وبدونه لا يكون له أثر فعال في اكتساب أي مهارة أو خبرة، والأدلة على ذلك واضحة جلية في النواحي الحركية والعضلية.
خروج المرأة للعمل
إن خروج المرأة للعمل يعد سببا من الأسباب التي تلقي على المجتمع بمؤسساته المختلفة مسئولية أكبر، تحتم عليه توجيه الرعاية والاهتمام البديلين للأطفال، لغرس السلوك السوي، خاصة في وقت وجود الأطفال بمفردهم في أثناء وجود الوالدين في العمل، مما يجعل مهمة التربية والتعلم من الأمور الصعبة. كما أن ساعات العمل الطويلة التي يقضيها الوالدان في العمل، بعيدا عن أبنائهما، هي بمثابة جواز مرور إلى انفصال العاطفة عنهما، وانكماشها إلى الحد الذي قد يدعو الأبناء إلى معاشرة أهل السوء. وعندما يصل الأبناء إلى هذه المرحلة الخطرة، فلا بد أن ينعكس هذا بالتالي على صحتهم العامة التى أهملت نتيجة لاتساع المسافة بين الآباء والأبناء.
وسائل الإعلام
ونتيجة لتغير العصر الذي نعيشه الآن أصبح لوسائل الإعلام والاتصال الدور الأكبر في حياة الصغار والكبار على السواء، لدرجة أنه قد ثبت أن حوالي ثلث عمر الإنسان الذي عاصر التلفاز يقضيه في مشاهدة برامجه، وهذا دليل واضح على أن تأثير وسائل الإعلام. والاتصال أصبح يوازي تأثير المدرسة على الطفل، إن لم يكن يتفوق عليه، فالتربية المستمرة، هي الوسيلة المؤكدة النافعة في سبيل مواجهة مشكلات العصر في انفجار معرفي وثورة علمية تقنية، حتى أصبحت هي الفلسفة التربوية الصالحة لهذا العصر.
إن كل ما سبق ذكره يضع أمامنا المبررات الضرورية التي تحتم علينا الاهتمام البالغ بالطفل في مراحله الأولى، أي ما قبل المدرسة، ومرحلة التعليم أساس، حتى يصل إلى بر الأمان، بما يمكن غرسه في شخصيته من سلوك سوي، يمكنه من تحقيق أهدافه الخاصة وأهداف مجتمعه الذي يعيش فيه.