كتاب الشهر: الواقعية القذرة تيار أدبي تحبه أمريكا وترفضه كامل يوسف حسين

كتاب الشهر: الواقعية القذرة تيار أدبي تحبه أمريكا وترفضه

المؤلف: مجموعة من الكتاب
هذا الاصطلاح يشعرك بالجدة والصدمة في آن واحد. فهو يعبر عن جهد تيار كامل من الكتاب والفنانين الأمريكيين يتميزون بالغضب وبالرغبة في التعبير عن الحياة اليومية والناس المهمشين في المجتمع. إن عمر هذا التيار يبلغ الآن عقدا من الزمن وينتظم تحت لوائه العديد من الكتاب، ولكن التأصيل النقدي له مازال بعيدا.

ليس عجيبا أن بيل بوفورد، رئيس تحرير مجلة "جرانتا" الذي صاغ هذا الاصطلاح في العدد الشهير من مجلته الصادر في العام 1983 والذي حمل العنوان العام "الواقعية القذرة: كتابات جديدة من أمريكا" قام بتعريف القارئ بالاصطلاح وبالتيار وبالكتاب جميعا في أقل من صفحتين. وعندما عاد في عدد المجلة الصادر في العام 1986 تحت العنوان العام "مزيد من القذارة فن القص الأمريكي الجديد" قدم النصوص مباشرة، دونما كلمة واحدة، في معرض التقديم أو التعقيب أو التحليل.

ما الذي يعنيه هذا؟.

إنه يعني ببساطة أن الاصطلاح تمت صياغته والتيار تم تقديمه عبر كلمة تعريفية موجزة ودونما جهد نقدي حقيقي، في التأصيل وإيضاح الخصائص وتشريح الأشكال واللغة والعالم السردي الذي يقدمه لنا كتاب هذا التيار. بل إن بيل بوفورد عندما يعرفنا بكتاب هذا التيار يأتي على ذكرهم على سبيل الحصر، دون أن يحدثنا، بأي قدر من العمومية، عما يربط هؤلاء الكتاب معا، ويجعلهـم صانعي تيار أدبي، بكل ما يحمله هذا التعبير من ثقل.

وبقدر ما أعلم، فمان جهد التأصيل النقدي هذا لتيار الواقعية القذرة لم يتم القيام به حتى الآن، بشكل منهاجي دقيق، على الأقل ليس على نحو ما تم القيام به في حالة اصطلاح الواقعية السحرية.

فما الذي نجد أنفسنا حياله هنا؟.

الإجابة ليست لنا، وإنما هي لبيل بوفورد نفسه، الذي لا يتردد في القول، في افتتاحيته الشهيرة، التي أشرنا إليها:

"إنها واقعية قذرة غريبة، تدور حول الجانب المتعلق بالبطن من الحياة المعاصرة، ولكنهـا واقعية مؤسلبة للغاية وذات طابع شديد الخصوصية، تتدفق إليها المعرفة، على نحو شديد الدأب، هن المفارقة المثيرة للقلق والمراوغة أحيانا، بحيث إنها تجعل الروايات الواقعية الأكثر تقليدية التي كتبها، على سبيل المثل، أبدايك أو ستايرون، تبدو منمقة، بل وباروكية بالمقارنة معها".

أتمنى أن يغفر لي القارئ طول هذا المقتطف، ولكنني حرصت على إيراده- حرفيا تقريبا- لتتضح للقارئ طبيعة المشكلة التي نواجهها هنا، فبيل بوفورد يعمد إلى تعريفنا بالواقعية القذرة، لا بتقديمها لنا واضحة، ومفهومة، ومتبلورة، وإنما من خلال التعريف بالسلب، من خلال القول إنها مفارقة ومختلفة ومباينة للواقعية الأمريكية التقليدية.

ليكن. دعنا نقبل هذا على مضض. ولكن في أي أرض يضرب هذا الاختلاف جذوره؟ ليس لدى بوفورد الكثير مما يقدمه، في معرض الإجابة عن هذا السؤال. لكننا يمكن أن نضع أيدينا على وجهين للاختلاف بين الواقعية القذرة، كتيار مستقل في الأدب الأمريكي، وبين الكتابات السابقة لها في الولايات المتحدة، بل وفي بريطانيا نفسها. الوجه الأول هو معمار القص، والوجه الثاني ليس إلا لغة القص. ولكن سنلاحظ، على الفور، أن بوفورد عندما يوضح هذين الوجهين سيعتمد، مرة أخرى، أسلوب التعريف بالسلب.

بعيدا عن البطولة الشامخة

إنه يقول عن الواقعية القذرة، من حيث الوجه الأول: "إنها ليست فقط مفارقة لأي شيء يكتب حاليا في بريطانيا، وإنما هي بالمثل مفارقة، على نحو ملحوظ؟ لما يفهم عليه القص الأمريكي عادة. إنها ليست بطولية، ولا شامخة، والطموحات الملحمية عند نورمان ميللر أو سول بيلو تبدو بالمقابل منتفخة، وغريبة، بل وزائفة. إنها ليست تجريبية بصورة واعية مثل الكثير من الكتابة التي يطلق عليها أنها ما بعد حداثية، أو ما بعد معاصرة، أو ما بعد تفكيكية، والتي نشرت في الستينيات والسبعينيات. وأعمال جون بارث ووليام جاديس وتوماس بينشون تبدو مليئة بالادعاء بالمقارنة بها "إنها ليست فنا للقص مكرسا لصياغة الطرح التاريخي الكبير"

ليكن، إن هذا هو ما ليس عليه معمار القص في الواقعية القذرة بحسب ما يراه بيل بوفورد، فهل يقترب ولو بمقدار خطوة من التعريف بالإيجاب؟.

ربما، فالموضع الوحيد الذي يتلمس فيه بوفورد ملامح الواقعية القذرة في ذاتها، وليس من خلال مفارقتها لغيرها، يقول فيه: "إنها فن للقص على نطاق مختلف، مكرس للتفاصيل المحلية، العناصر العاطفة للقلب، القلاقل الصغيرة في اللغة والإيماء، ومن المناسب تماما أن الشكل الأولي لفن القص هذا يتمثل في القصة القصيرة، وأنه على نحو ملموس تماما جزء من حركة إحياء القصة القصيرة الأمريكية. ولكن هذه القصص هي قصص غريبة، بعيدة عن التجميل، لا أثاث فيها، إنها تراجيديات تدور في أماكن رخيصة الإيجار، حول أناس يشاهدون التلفزيون نهارا، ويقرأون الروايات الرومانسية الرخيصة، ويستمعون إلى الموسيقى الريفية وموسيقى القرب، إنهن نادلات في مقاه على جوانب الطرق، وموظفو تحصيل في محال السوبر ماركت، وعمال بناء، وسكرتيرات، ورعاة بقر لا يجدون عملا، يلعبون البنجو، ويلتهـمون شطائر التشيزبرجر، ويصطادون الغزلان وينزلون في فنادق رخيصة، ويشربون الكثير، ويتعرضون للمتاعب، غالبا لسرقة سيارة، أو تهشيم واجهة عرض، أو سرقة حافظة نقود. إنهم من كفتاكي، أو ألاباما أو أوريجون، ولكن بالأساس يمكن وأن يكونوا من أي مكان، إنهم ضائعون في عالم حافل بالغذاء الذي يلحق الضرر بمن يتناوله، وبالتفاصيل القاهرة المنتمية للنزعة الاستهلاكية الحديثة ".

هذه البانوراما الهائلة، التي يرسمها لنا بوفورد بضربات سريعة، كأنها ضربات فنان يحاول أن يلتقط بفرشاة مجنونة ضوءا قاهرا، لا يفتأ يتحرك، فينتقل، ويهرب من محاولة الإمساك به، تستمد قيمتها من الإشارة، من الإيحاء، من ضرب الأمثلة، من الإحالة، وليست من التأصيل والتحليل والتعمق ومحاولة الإمساك بالجوهر، فتلك مهمة من سوء الحظ أنها تقع على كاهلنا نحن.

ولكن ماذا عن لغة الواقعية القذرة؟.

ذلك أو الوجه الآخر الذي يبذل بوفورد حدا أدنى من الجهد في محاولة تلمسه. فهو يقول، عن كتاب هذا التيار:

"كثيرون، مثل ريتشارد فورد، أو ريموند كارفر، أو فردريك بارثلمي، يكتبون بلغة شديدة الصراحة، لا تعكس شعورا بالدهشة، ثم الوصول جمها إلى أبسط الأساليب، فالجمل مجردة من الزخرفة، وتحكم سيطرتها التامة على الموضوعات والأحداث البسيطة التي تطلب منا أن نكون شهودا عليها. أما ما يبدو أنه يتحدث أكثر من غيره فهو ما لا يقال، ضروب الصمت، ألوان الحذف، صنوف الإلغاء"

هذا التيار، تيار الواقعية القذرة، لا يمكن بوضعه في مثل هذا الإطار إلا أن يثير فضولنا، أن يدعونا للاقتراب منه، أن يحفزنا لفك مغاليقه، ولكن من هم الذين يشكلون صميم هذا التيار في الأدب الأمريكي الذي لايزال برغم انطلاقه منذ سنوات ليست بالقليلة موضع جدل محتدم في الولايات المتحدة ما بين تقدير لكتابه وما بين رفض الدور الكبرى نشر أعمالهم باستثناء وحيد هو ريموند كارفر، الذي رحل عن عالمنا، وربما بسبب هذا الرحيل المأساوي.

المشكلة الحقيقية هي أن بوفورد لا يحدد لنا بقدر أكبر من الوضوح ما الذي يربط هؤلاء الكتاب، وإنما هو يكتفي بإيراد قائمة حصرية لهم، وهم: ريموند كارفر، ريتشارد فورد، جين آن فيليبس، إليزابيث تالينت، فريدريك بارثلمي، بوبي آن ماسون، توبياس وولف، ماري روبيون، آن بيتي، ريتشارد بيتس، جين تومسون، ستيفن ديكسون، لويز إريدرك، ريتشارد روسو، إيلين جيلكريست، روبرت أولمستيد، جوي وليامز.

وربما كان من ملامح سوء حظ اصطلاح الواقعية القذرة، الذي يضم تحت مظلته هؤلاء الكتاب جميعا، أن الاصطلاح نفسه يوحي بظلال أخلاقية من الواضح أنها ليست مندرجة في جوهر تصور الاصطلاح نفسه، ولكن طريقة نحته تنثر هذه الظلال نثرا، وتبدو كما لو كانت حكما مسبقا على العالم الذي تدور حوله، بينما هذا العالم هو، في جوهره، أمريكا الأخرى، التي تحرص الدوائر الرسمية الأمريكية على ألا يراها العالم الخارجي، أمريكا الريف الوحشي، أمريكا الضواحي المجردة من الروح، أمريكا الطرقات المفتوحة بلا انتهاء، أمريكا الضائعين والمشردين والذين غاب عنهم الحلم، لأنهم يعيشون لا في عالم كابوسي، وإنما في عالم يفتقر لأدنى مقومات الحلم.

حياة وحشية

ربما لهذا، بالضبط، فإن أعمال هؤلاء الكتاب عرفها العالم من الطبعات اللندنية، وليس الطبعات النيويوركية، الصادرة عن دور صغيرة، وبعدد محدود من النسخ، والكتاب الوحيد في المكتبة العربية من أعمال كتاب الواقعية، وهو رواية "حياة وحشية" لريتشارد فورد، الذي ترجمه كاتب هذه السطور، منقول عن طبعة هاربر كولينز اللندنية، وليس عن طبعة أتلانتك مونثلي بريس النيويوركية، والتي لم أفلح في الحصول عليها، برغم مطاردتي لها سنوات طويلة، حيث كان الرد على كل استفسار عنها هو أنها نفدت، ولم تتم إعادة طبعها.

ومن ملامح سوء هذا الاصطلاح أن من أطلق على أدبهم لم يترددوا في محاولة التمرد عليه، والخروج من دائرته صراحة. وفي مقال يعد من أشهر أدبيات الواقعية القذرة، كتبه ريموند كارفر بعنوان "صداقة" عن صلته بريتشارد فورد وتوبياس وولف، لا يتردد في أن يجعل الاستهلال على النحو التالي:

"آه، يا فتى! هل يستمتع هؤلاء الأشخاص بوقتهم! إنهم في لندن، وقد قدموا لتوهم قراءة لأعمالهم في قاعة امتلأت على سعتها في "ناشيونال بويتري سنتر". ومنذ بعض الوقت عمد النقاد وكتاب مراجعات الكتب إلى وصفهم بالواقعيين القذرين. ولكن فورد، ووولف، وكارفر لا يحملون هذا على محمل الجد، وإنما هم يتبادلون النكات حوله، تماما كما يتبادلونها حول الكثير من الأمور الأخرى، فهم لا يحسون بأنهم جزء من مجموعة".

وما يلاحظه كارفر في هذا المقال الشهير بروح مرحة تحمل من الدعابة أكثر من الجد، على الرغم من أنه لا يتردد في الفقرة الثانية من المقال نفسه في إنكار أنه يشكل مع صديقيه جزءا من حركة أدبية، سوف يلتقطه أندرو سيزار في مقال في صحيفة "الجارديان " ليتناوله بضربات أقرب إلى مبضع جراح منها إلى قلم ناقد، في تناوله لأعمال توبياس وولف، حيث لا يتردد في القول:

"من المفترض أن توبياس وولف ينتمي إلى مدرسة الواقعية القذرة، في الكتابة الأمريكية الجديدة...

ويبدو هذا بشكل عام تصنيفا بعيدا عن أن يقدم يد العون، فصوت وولف ليس إلا صوته الذاتي، وهو ينبعث مدويا من تقليد أقدم عهدا من تقاليد الكتابة الأمريكية ".

وهذا الابتعاد بكتابات وولف، ومحاولة ردها إلى آفاق بعيدة عن الواقعية القذرة، وأقدم عهدا منها، هو بالضبط ما تحاول القيام به جوديث تشيرنيك، في مقال مناظر لها في "الأوبزرفر"، حيث لا تتردد في القول:

"إن قصص توبياس وولف القصيرة تضعه في صميم تقليد أمريكي قوي يعود في إيغاله رجوعا من هيمنجواي وفيتزجرالد إلى جاك لندن ومارك توين ".

هذه الملاحظة نفسها ستضعنا في مواجهة سؤال على جانب كبير من الأهمية، لا بد لنا من التعامل معه بشكل من الأشكال إذا أردنا أن نصل إلى حد أدنى من الدقة في تلمسنا لملامح الواقعية القذرة، وهذا السؤال هو: ما هي الخلفية التاريخية التي تشكل الأرض التي انبثقت منها الواقعية القذرة وهل يمكن لهذه الخلفية أن تساعدنا في فهم السر في أنها لم تصبح قط جزءا من التيار الرئيسي للكتابة الأدبية الحديثة في الولايات المتحدة؟.

لقد سبق لي القيام بالتصدي لعلامة الاستفهام هذه مرتين، على الأقل، المرة الأولى في المقدمة التي قدمت بها ترجمتي للنص الكامل لـ "ثلاثية نيويورك" لبول أوستر. والمرة الثانية في المقدمة التي صدرت بها ترجمتي للنص الكامل للعمل الوحيد من أعمال كتاب الواقعية القذرة المترجم إلى اللغة العربية، وهو رواية "حياة وحشية " لريتشارد فورد.

ومع ذلك فلابأس هنا من إلقاء نظرة عجلى على هذا البعد، قبل أن نتصدى للسؤال الأكثر أهمية، والذي يدور حول المسيرة المستقبلية لتيار الواقعية القذرة.

انحسار الأحلام

الواقعية القذرة جاءت، تاريخيا، في أعقاب انحسار أحلام الستينيات الكبيرة، وفشل الماوية، ووصول انتفاضات الشباب إلى الصفر، وتحول حركات العصابات والمقاومة اليسارية إلى أحزاب وحيدة في الشارع وسدة السلطة، في الكثير من أرجاء العالم، وبالتالي فهي وريثة كل هذه الخيبات، ولكنها لا تحملها كاللعنة وتمضي بها، فالكثير من كتابات الواقعية القذرة بعيد تماما عن أن ترتمي عليه ظلال أيديولوجية بهذا الوضوح، لكن هذا الميراث يشكل الزاد المعرفي الذي يتم حمله على الطريق، في رحلة هائلة تبدأ دون أن يبدو في الأفق أن هناك نهاية لها، ولعله ليس من قبيل المصادفة أن جانبا ليس بالهين من أعمال الواقعية القذرة يتخذ الطريق ساحة له.

قد يبادر معترض إلى القول بأن الكثيرين من كتاب الواقعية القذرة، الذين كتبوا عن الطريق، ومنهم ريتشارد فورد، على سبيل المثال، برغم إدمان الكتابة عن الارتحال والطريق وشخوص عالم السيارات والموتيلات، لم يصلوا إلى بلورة معنى روحي لهذه الرحلة الممتدة بلا انتهاء، ولم يصلوا إلى حس بالتمرد على قوانين المؤسسة الأمريكية، ولكن ربما كان الرد المنطقي هنا هو أنه: خلافا لروائيين، مثل هنري ميللر وجاك كيرواك وغيرهما، فإن كتاب الواقعية القذرة يكتبون في عصر اضمحلال وانهيار الأيديولوجيا، لا كأسلوب في التغيير السياسي فحسب، هـانما أيضا كحلم بأبسط المعاني، ومن هنا فإن من الصعب- ربما إلى حد الاستحالة- مد خطوط مباشرة بين أعمالهم وبين رؤى أيديولوجية محددة وواضحة ومتبلورة بشكل قاطع، كما نجد في كتابات أجيال سابقة.

لقد كان بمقدور هنري ميللر أن يكتب عن أمريكا باعتبارها حلما انقلب إلى كابوس كافكاوي، كابوس لم يزدد ساخرا في وصفه بأنه كابوس مكيف الهواء، ولكن كتاب الواقعية القذرة يرفضون مقولة الحلم الأمريكي الذي انقلب إلى كابوس، لأنهم يضربون أقدامهم على نحو أكثر صلابة في أرض الواقع، ويدركون انتفاء مقومات الحلم في الأرض الأمريكية.

إن هذا هو، بالضبط، ما يكتب عنه كارفر في "سكوتا من فضلكم " و"ما الذي نتحدث عنه حينما نتكلم عن الحب " و"كاتدرائية" وهو ما يتناهى إلينا من خلال قصصه المختارة، التي يضمها مجلد "من حيث أنادي " الذي يقع في 430 صفحة.

وعالم الطريق الخالي من أبسط مقومات الحلم والمجرد من الروح الإنسانية هو ما يتناهى إلينا من روايات فورد الخمس: حياة وحشية- كاتب الرياضة- قطعة من قلبي- منتهى الحظ السعيد- زير النساء.

ودنيا الخارجين من محرقة فيتنام والضائعين تحت سقف حياة تفتقر إلى مبرر الاستمرار وإنسانية التواصل هو ما نتلمس ملامحه في رواية توبياس وولف القصيرة "لص الثكنة" وروايته الطويلة "حياة هذا الفتى". ومجلد قصصه الذي يقع في 448 صفحة.

وليست بعيدة عن هذه الأجواء أعمال جين آن فيليبس: المغامرات الحقيقية للرولنج ستونز- الأحلام الآلية- البطاقات السوداء- المسارات السريعة.

أما لويز إريدريك فهي ترتاد العالم نفسه، ولكن تحت الأفق الوحشي للحياة الأمريكية كما تتبدى في معارك الهنود الحمر، وهو الموضوع الذي حاولت تشريحه على امتداد رباعيتها، التي أصدرت لتوها آخر أجزائها: عقار الحب- ملكة الشمندر- مسارات- قصر البنجو.

والقائمة طويلة، وممتدة، بلا انتهاء، لكنها تتلمس ملامح شتى في الوجه الأمريكي نفسه.

مستقبل الواقعية القذرة

هذا يفرض علينا سؤالا منطقيا: إلى أين تمضي حركة الواقعية القذرة؟.

دعنا نعترف، ابتداء، بأن هذا السؤال هو من الصعوبة إلى حد يكاد يكون من المستحيل معه القول بإمكان بلورة إجابة محددة عنه، ربما في المرحلة الراهنة على الأقل، وربما لسنوات مقبلة كذلك.

مع ذلك دعنا نغامر بمحاولة طرح بعض الملاحظات، التي قد تقدم في مجموعها مشروع إجابة مستقبلية، قد تتكامل في مواجهة هذا السؤال الصعب، ذات يوم ومع تكامل عطاء تيار الواقعية القذرة نفسه.

لا يمكن القول بحال إن تيار الواقعية القذرة قد استنفد أغراضه، فعلى الرغم من مرور أكثر من عقد كامل على صياغة الاصطلاح نفسه، إلا أن الحركة التي يختزلها تندفع بقوة وباقتدار، وعلى الرغم من فقدها رصيدا حقيقيا برحيل ريموند كارفر عن عالمنا في العام 1988 متأثرا بإصابته بسرطان الرئة، إلا أن دما جديدا يتدفق في عروق الحركة، مع انضمام كتاب شبان إلى تقاليدها في الكتابة، ومع إضافة نجومها للمزيد من الأعمال إلى رصيدها ورصيدهم الإبداعي.

من الصعب التنبؤ بإمكان استيعاب أعمال الواقعية القذرة فيما يعرف بالتيار الرئيسي للأدب الأمريكي. وكما أسلفنا القول ليس من قبيل المصادفة أن إبداعات هؤلاء الكتاب تنشر في إنجلترا أو في دور نشر صغيرة في الولايات المتحدة، ولكنهم يملكون مصدر قوة هائلا، يتمثل في صلتهم الوثيقة بعدد من عباقرة السينما غير التقليديين، ومن المؤكد أنه ليس من قبيل المصادفة أن المخرج روبرت التمان قد استلهم روح فيلمه الذائع الصيت "مختصرات " من عشر قصص من أجمل أعمال كارفر، كما أقبل الجمهور على رواية وولف "حياة هذا الفتى" إلى حد التخاطف بعد قيام روبرت دي نيرو بتحويلها إلى فيلم ناجح.

تتعرض الواقعية القذرة لخطر حقيقي، وداهم، ولا يمكن التقليل من شأنه بحال، هو خطر الانحصار داخل عالمها، والعكوف داخل هذا العالم على تقليد الذات، وهو الخطر نفسه الذي قضى على الواقعية الأمريكية، ودفع كاتبا في قامة هيمنجواي إلى الانتحار، وتجاوز هذا الخطر يتوقف على مدى قدرة كتاب الحركة على المزيد من الحفر في ينابيع الإبداع، وربما كان الوعي بهذا هو وحده الذي يفسر الحرص الاستحواذي من جانب ريتشارد فورد على أن يقدم في كل عمل جديد عالما جديدا ومختلفا وأفقا مغايرا لما قدمه في عمله السابق مباشرة.

لا يتردد كتاب ما يعرف بالتيار "السوريالي المستنقعي " وهو أحدث تيارات الأدب الأمريكي حتى كتابة هذه السطور، وفي مقدمتهم مارك ريتشارد، ودونالد انتريم في القول بأن أعمالهم ستبلغ من التألق حد وضع تيار الواقعية القذرة في هامش الظلال المنسية، ولكن مثل هذا الطرح يبدو أقرب إلى التفكير بالتمني منه إلى خارطة لآليات الإبداع الأدبي الحقيقي والمؤثر والفاعل.

وأيا كان الطريق الذي ستشقه الواقعية القذرة فإنها تظل حركة جديرة بالمتابعة وبالدراسة وبالتأمل، وبمحاولة الفهم، ربما لأنها أقرب إلى نسيج الحركات الإبداعية في عالمنا الثالث مما يتصور الكثيرون.

 

كامل يوسف حسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف العدد الثامن من مجلة جرانتا الذي لفت الأنظار للواقعة القذرة





غلاف العدد التاسع عشر من مجلة جرانتا المخصص للواقعبة القذرة





غلاف رواية الأحلام الآلية لجين آن فيليبس





غلاف رواية حياة وحشية ليرتشارد فورد وهي العامل الوحيد من كتابات الواقعية القذرة المترجم للعربية