تفسير جديد... لإخفاق قديم قراءة في كتاب:

تفسير جديد... لإخفاق قديم قراءة في كتاب: "تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية"

المؤلف: الدكتور محمد جابر الأنصاري
يأتي هذا الكتاب وسط بحر متلاطم من المعاناة الأيديولوجية والتمزق السياسي وجلد الذات. وإذا لم يكن الكتاب، وعن جدارة، بداية وعي علمي عربي جديد بالذات وبالمشاكل الحقيقية التي تعرقل الوحدة العربية والنهضة الشاملة فإنه بلا شك أحد الإسهامات الأساسية الجديرة بالمطالعة في هذا المجال.

بهدوء العالم وتواضعه، يقول الباحث في تقديمه إنه يهدف إلى" لفت انتباه الوعي العربي إلى أن الأزمات السياسية المتلاحقة التي يعانيها العرب ليست وليدة الحاضر الراهن وحده،. وإنما هي أعراض لتراكم واقع موضوعي طويل الأمد". ويضيف د. الأنصاري، إن عدم التنبه العلمي إلى الجذور الحقيقية للمشاكل سيؤدي ربما إلى تكرار ظاهرة آب/ أغسطس 1995، عندما قامت العراق باحتلال دولة الكويت، وانقسمت الأمة العربية بمثقفيها وحركاتها وسياسييها وجماهيرها إلى معسكرين متواجهين بسبب الأزمة.

ويلح على ضرورة التعمق في فهم الخصوصية العربية. إلا أن هذه الخصوصية ليست محاولة لادعاء تميز مطلق للتاريخ العربي أو لتركيبة الأمة النفسية والاجتماعية، بقدر ما هي "خصوصية المعوقات والأعباء والموروثات المجتمعية. إنها خصوصية موقعها وموضعهـا في المكان، وخصوصية تجربتها في الزمان". ويستحق كتاب د. الأنصاري من أكثر القراء ريبة في مصطلح "الخصوصية العربية" ألا يصرف النظر عن مواصلة قراءته، فلطالما استخدمت "الخصوصية" هذه، ولا تزال، لتبرير بعض أشكال التعصب والغلو والاستعلاء. ويلمس اَلْقَارِئ بوضوح صراحة الباحث في التحليل، وقوة الأدلة التي يسوقها والأفكار الجديدة التي يوردها، والتي تسلط أضواء ساطعة على جوانب لم تستكشف من تاريخنا وواقعنا بما فيه الكفاية، ويراه بَادَلَا ما يسعه من جهد، محاولا الاستفادة من "القوانين العامة" المستمدة من التاريخ العالمي وتجارب الأمم، و"القوانين الخاصة"، التي جهلناها أو تجاهلناها في معادلة الفهم ومناهجه.

ولد الدكتور الأنصاري في البحرين عام 1939، وحصل على شهادة الدكتوراه في الفكر العربي والإسلامي الحديث من الجامعة الأمريكية في بيروت 1979 . ويقع كتابه الحالي، الذي سبقته عدة كتب أخرى في شؤون الفكر العربي والقضايا العربية المعاصرة، في أربعة أقسام موزعة على ثمانية فصول، وهو صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ( بيروت 1994).

ولا نريد في محاولتنا هذه أن نقدم الكتاب بشكل أكاديمي جاف، أو التعريف بالكتاب باستخدام بعض الجمل والعبارات والتحليلات النظرية المعقدة. فطبيعة الموضوع الذي يعالجه الكتاب قضية تمس حياة وربما نضال، عدة أجيال عربية متلاحقة، ولا يمكن حصر هذا الموضوع في بعض المساجلات النظرية التي ينهمك فيها أول الفكر والاختصاص، وسنحاول كذلك أن نشير قدر المستطاع إلى بعض الاقتباسات والشواهد اللماحة والتي يزخر الكتاب بها وبذلك نشرك قراء مجلة العربي الكرام في المشارق والمغارب، في الاطلاع على هذا الكتاب القيم.

والقسم الأول من الكتاب مقدمة تحليلية مسهبة في " تكوين العرب السياسي"، يتناول الباحث فيها تاريخ العرب منذ ظهـور الإسلام، حيث يصل إلى نتيجة مؤلمة مفادها أن العرب نجحوا حضاريا ولكنهم فشلوا سياسيا. فتاريخ العرب والإسلام، كان عبارة عن تسابق تراجيدي خطير بين بناء حضاري وصح انتحاري.. بين بناء حضاري في الدين والعلم والعمران والفكر، والثقافة والفنون، وصراع انتحاري في السياسة والسلطة والدولة ". وتردت العلاقة بين المثقفين وولاة الأمور حتى أن حجة الإسلام الإمام الغزالي أوصى المسلمين بعدم مخالطة الحكام أو رؤيتهم، "لأن رؤيتهم ومجالستهم ومخالطتهم آفة عظيمة". وذهب الشيخ ابن تيمية إلى "أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة".

من هنا، يقول د. الأنصاري،"نشأ توتر دائم في تاريخ العرب والإسلام بين انتماء عقيدي وثقافي وحضاري شامل وبين انتماء سياسي واقعي متجزئ وهو توتر مازال قائما إلى اليوم بين الانتماء الديني أو القومي الواسع وبين الانتماء القطري المتحدد". ولم يستفد المسلمون حتى من المجال الرحب الذي تركه الإسلام مفتوحا لاجتهادات المسلمين في الأمور السياسية كمفاهـيم الدولة والسلطة وتنظيماتها وإدارتها ومشاكل انتقال وتداول السلطة أو التحاور مع المعارضة والتعايش معها. وعمت روحية الاستسلام للواقع حتى أن فقيها مثل نجم الدين الطرطوسي، من فقهاء العصور المتأخرة قال "لا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا علينا، وندعو لهم".

وبرغم أن الإسلام- يقول الباحث- علم المسلمين كيف يتعايشون ويتسامحون مع أصحاب الديانات الأخرى من أهل الكتاب، وقدم للعالم نماذج فريدة في مجال التسامح، إلا أن المسلمين أنفسهم لم يأخذوا بهذه التعددية في تعاملهم السياسي فيما بينهم، وقد ظلت الدولة بأجهزتها ومؤسساتها وآلياتها وتقاليدها السياسية من أبرز الكيانات التي تحتاج إلى، اهـتمام خاص من المسلمين عموما. وينهي د. الأنصاري الفصل الأول من الكتاب بتشاؤم بالغ، إذ يحذر من أن "السلطة في أزمة وأن المعارضة في أزمة وأن الدولة في أزمة، وكذلك الثورة في أزمة وأن الحكومات في أزمة وكذلك الحركات الشعبية والأحزاب في أزمة، سواء من حيث الوعي السياسي أو الأداء السياسي".

و إذا نظرنا اليوم إلى واقعنا العربي المؤلم، وطبيعة الصراعات الدائرة فلربما رأينا في هذا الوصف والتشخيص عين الحقيقة.

الصحراء... لا الاستعمار

يناقش الباحث من ثم عوامل التفكك التي وقفت حجر عثرة في سبيلي توحيد العرب، وفي هذا المجال يكتشف صحراء بلا أبعاد: "إن الصحراء هي العامل الانفصالي الأقوى في الحياة العربية وهي تسيطر على 90 في المائة من مساحة الوطن العربي ولا يوجد بلد عربي غير صحراوي (عدا لبنان) إن الفراغات الصحراوية الخالية من أي حياة قد منعت نشوء نسيج حياتي عضوي بدورة تفاعل واحدة ومتكاملة في المنطقة العربية لمجتمع موحد ولدولة موحدة ثابتة، متواصلة منذ القدم إلى اليوم. كما أن هذه القطيعة الصحراوية، بروح العزلة والتباعد المتأصلة فيها، كانت الخلفية الجغرافية الطبيعية التي نشأت وفرخت فيها التعدديات العشائرية والمذهـبية والإقليمية المحلية المتباعدة والمتنافرة التي غدت مع تراكمات التاريخ كيانات مختلفة قائمة بذاتها".

إن الصحراء والقيم العشائرية وتسلط البادية على الحواضر والجفاف العام الواسع الانتشار، هي أكبر الحقائق الحضارية أو السوسيو- تاريخية في المنطقة العربية، والتي أدت مع مرور الزمن إلى ترسخ التفكك وإجهاض المحاولات الوحدوية المختلفة التي بذلها العرب والمسلمون. ولم تتسبب الصحراء في قطيعة المكان، بل ولدت كذلك بموجاتها التصحرية المتتالية قطيعة أخرى في الزمان حيث دفنت على مر العصور مدنا وحضارات ودولا بأكملها.

ولقد استطاع العرب خلال قرون صدر الإسلام الثلاثة أن يمسكوا بتوازن دقيق إدارة البوادي والحواضر. إلا أن الموازين سرعان ما انقلبت في العصور اللاحقة، ووقعت الحواضر العربية كلها تحت هيمنة البوادي العربية أولا، ثم البداوة الآسيوية، التركمانية والسلجوقية والمغولية والتركية في القرون اللاحقة، وإذا استثنينا القرون الثلاثة هذه، "فإن تاريخ العرب والإسلام كان تاريخ السيطرة السياسية للقوى البدوية، عربية أو أعجمية" .. بما في ذلك مصر! يقول الجغرافي المصري المعروف جمال حمدان في كتابه شخصية مصر "إن مدينة القاهرة أكبر مدينة صحراوية في العالم". ويصف مصر بأنها "أكبر وأكثر الدول صحراوية في العالم بلا استثناء بما في ذلك دول الجزيرة العربية فنحن دولة الصحراء الأولى في العالم، بمثل ما إننا دولة النهـر الأولى".

وكان عالم الاجتماع العراقي، د. علي الوردي، قد أشار إلى ما قد يدعم الرأي القائل بقوة الاتحادات العشائرية في المجتمعات الزراعية العربية، فيقول إن الشعب العراقي بدوره " واقع بين نظامين متناقضين من القيم الاجتماعية، قيم البداوة الآتية إليه من الصحراء المجاورة، وقيم الحضارة المنبعثة من تراثه الحضاري القديم." وتطرق د. الوردي كذلك إلى ظاهرة المد والجزر بين البداوة والحضارة في المنطقة العربية التي " تتميز عن جميع مناطق العالم بكونها قد جمعت منابع البداوة والحضارة بشكل خاص على نطاق واسع جدا. ولهذا صح القول بأن المجتمع العربي هو أكثر المجتمعات في العالم معاناة للصراع بين البداوة والحضارة وتأثرا بهما... على مدى الأجيال". وقد يكون في هذه الملاحظة بعض التعميم لأنها لا تأخذ بالاعتبار أوضاع بعض مجتمعات ودول وسط آسيا كأفغانستان والجمهوريات الإسلامية وغيرها. ويربط د. الأنصاري الماضي بالحاضر في مجال بيان تأثير البداوة في الأوضاع العربية المعاصرة، إذ "تأتي الشواهد الأخيرة في ارتداد الكثير من الحركات والأحزاب والأنظمة (التقدمية) أو "التحديثية العربية، على السواء، إلى جذورها العشائرية والقبلية لتشير إلى مدى عمق المفعول القبلي في البنية المجتمعية العربية إلى اليوم" وإذا تأملنا خريطة التجزئة السياسية العربية على امتداد الوطن العربي كله، يضيف د. الأنصاري في تصريح خطير، " فسنجد الصحراء هي عامل التجزئة الأول والأكبر، قبل الاستعمار وغيره من عوامل التجزئة".

بل إن الباحث ينسب إلى الاستعمار الأوربي، في طرح جريء، دورًا مجهولا نسبيا، حيث أدت الحماية الأوروبية للعواصم والمدن العربية عسكريا وسياسيا إلى " تحررها من السيطرة الرعوية التركية والمحلية" ، وإلى "إنشاء المدارس والجامعات الحديثة، وتطبيق النظم العصرية وتكوين الأحزاب" وما أن رحلت القوة الاستعمارية الحامية حتى انهار البناء، بعد أن "تسربت إلى قمة السلطة والقوة فيها العناصر والقوى والعصبيات الريفية، من فلاحية وعشائرية وطائفية".

وليست هذه المرة الأولى التي يشير فيها مفكر عربي إلى جوانب إيجابية من المرحلة الاستعمارية، إذ أشاد الكاتب المعروف محمد كرد علي في بعض كتبه بفضل فرنسا على الحركة العلمية مثلا، إذ أنشأت المدارس والجمعيات والمجامع العلمية في لبنان وسوريا ومصر، وبين كذلك ما جنته سوريا من مكاسب اقتصادية واجتماعية في عهد الانتداب، إذ وطد الفرنسيون الأمن، وأنقذوا الفلاح من السخرة التي عاش فيها قرونا، وخففوا عنه الضرائب وفتحوا له المستشفيات ثم عبدوا الطرق وشيدوا المصانع وأصلحوا الإدارة والقضاء.

الدولة القطرية... ضرورة

أدى التفكك العربي عبر التاريخ على فشل مختلف المحاولات التي بذلت لتوحيد هذه المناطق والدول وحدة نسيجية متماسكة كبلاد الصين مثلا، وحجمنا كحجمها تقريبا. وأدى التفكك الناجم عن قسوة الطبيعة والجفاف والتصحر واستمرار الصراع بين المناطق الحضرية والبدوية إلى نتيجة أخرى لا تقل خطورة في رأي الباحث، ألا وهي "هلامية الدولة في التاريخ والواقع العربي"، حيث نرى " أن مفهوم الدولة- بمعناها المؤسسي الكياني الشامل- هو من أكثر المفاهيم غموضا واضطرابا والتباسا في الوعي العربي". بل إن جذر كلمة الدولة في اللغة العربية هو دال- يدول، بمعنى الوجود المؤقت واحتمال الزوال القريب بعكس كلمة State الثابتة في اللغات الأجنبية. وفي حين لجأت الجماهير والطلائع العربية الوحدوية إلى كل وسيلة ممكنة لتحقيق الوحدة المنشودة بلا فائدة، كان " السبب الموضوعي - البسيط والأساسي في الوقت ذاته - لقيام " دولة عضوية " في الصين يعود في تقديرنا إلى الجغرافيا الطبيعية للصين - بأنهارها ووديانها وزراعتها الكثيفة الممتدة وقراها ومدنها المترابطة - قد سمحت بنشوء قاعدة قومية حضرية متصلة الحلقات تتصف بوحدة التفاعل الحياتي والمعيشي". ويشك الباحث في أن يكون العرب عبر تاريخهم قد عاشوا في ظل "الدولة" حتى بخضوعهم للعثمانيين، فالأرجح أن هذه الفرصة لم تتح لأي شعب عربي إلا بعد قيام الدولة الوطنية القطرية "التي تمثل أول تجربة دولة مباشرة في حياة كل عربي"

ويقف د. الأنصاري في بقية الكتاب بصلابة ودون حرج، في موقف قومي وحدوي فريد من نوعها، إلى جانب الدولة القطرية والكيانات العربية. ويقول الباحث في فقرة شجاعة مدافعًا عن الدولة القطرية العربية: "ظل الكثيرون من العرب ومفكريهم وحركاتهم في العصر الحديث ينظرون إلى واقعهم القطري التعددي ستزول بمجرد إعلان الوحدة. وبدل أن يدرسوا الجذور التاريخية والعوامل الجغرافية والتكوينات المجتمعية لهذه التعددية القطرية، ويكتشفوا قوانينها وآلياتها وكيفية التعامل معهـا لتطويعها وتوجيهها للمصلحة القومية، والوحدة القومية في النهـاية، فإنهم ظلوا مكتفين بشجبهـا وإدانتهـا وهجائها- مقابل كيل المديح للوحدة- بينما هم في واقع الأمر محكومون بذلك الواقع التعددي الانقسامي والصراعي دون القدرة على تخطيه وتجاوزه". ويرى الباحث في الدولة القطرية ميزات عديدة ودورًا تاريخيًا فريدًا لا بد لنا من الاعتراف لها به. فهذه الدولة إلى جانب أنها تجربة العرب الأولى مع الحياة السياسية الحديثة، فإنها في الواقع أنقذت المجتمعات العربية من التفكك الطائفي والعشائر. " إن قيام العربية السعودية في الجزيرة العربية، كقيام الدولة العراقية في وادي الرافدين، يمثل خطوة توحيدية متقدمة... وفي حالة السعودية، بالذات، فإن التوحيد شمل أقاليم عربية واسعة ومتباعدة لم تتوحد فيما بينها منذ فترات طويلة وهي أقاليم نجد والحجاز، والإحساء، وعسير، الأمر الذي يجعل الدولة السعودية تمثل ظاهرة "توحيدية" أكثر اتساعًا على الصعيد السياسي القومي".

ويلاحظ د. الأنصاري أن الفكر القومي الوحدوي، بسبب نشوئه في منطقة الهلال الخصيب "قد أغفل دراسة التجربة السعودية، من حيث هي تجربة توحيد قطري مركزي ذات دلالة قومية".

جدل في الإقطاع

وفي القسم الثالث من الكتاب، يصل الباحث إلى الذروة في اكتشاف الدور التاريخي لما اعتدنا على تسميته حتى الآن بالتفكك القومي والإقليمية والتشرذم، حيث يفرد د. الأنصاري فصلين كاملين، يحاول أن يثبت فيهما عدم مرورنا بمرحلة تشبه مرحلة الإقطاع في أوربا، وأن ما أنجزته مرحلة الإقطاع للأمم الأوربية من نضج وترسيخ مؤسسات، قد يتحقق للعرب على يد الدول العربية العشرين الحالية، لأن الدولة القطرية، فيما يرى، مرحلة إقطاعية مؤجلة في عصر الرأسمالية العالمية والسيادة الدولية. وهكذا، فإن التجزئة العربية في الواقع، "ظاهرة تاريخية طبيعية تتطلبها خصوصية التطور التاريخي المرحلي للمجتمعات العربية، باعتبارها مرحلة لا بد منها لتحقيق التنمية الداخلية في هذه المجتمعات. وبتفسير كهـذا، يمكن أن نتجاوز الفرضيات المكررة والمستهلكة بشأن التجزئة العربية باعتبارها مجرد مؤامرة استعمارية أو خلافًا بين الحكام، أو عرضًا من أعراض الشقاق السرمدي في الطبيعة العربية". ويكتشف الباحث كذلك "ملامح إقطاعية" في الدول العربية القطرية الراهنة، مقارنة بإقطاع أوربا واليابان، حيث إن كليهما في أوربا العصور الوسطى والدولة القطرية العربية، مثل الإطار العام والبوتقة لتحويل الولاء من القبيلة والطائفة والمحلة إلى الكيان السياسي العام، كما أن السلطات الراهنة في الكيانات القطرية العربية لا يبدو أنها أقل سلطوية من السادة الإقطاعيين في كياناتهم التاريخية. وإذا أدت المرحلة الإقطاعية إلى تذويب الفوارق القانونية الداخلية ضمن الإقليم الواحد في أوربا، فإن الكيان القطري العربي يعمل الآن على سيادة قانونه وأنظمته بما يتجاوز الأعراف القبلية والمحلية في تركيبته السكانية وأطرافه المختلفة وا لنائية، باسم الدستور والقانون الوطني العام. ويختتم د. محمد جابر الأنصاري كتابه بالجزم " بأن ما يوجد العرب من روابط الدين واللغة والثقافة والحضارة والشعور لهي مقومات حقيقية قائمة في حياتهم، ولكن يجب عدم تحميلها أكثر مما تحتمل. فهذه الروابط المعنوية على أهميتها في توحيد الأمة لا تكفي وحدها.. وإذا كان الحب العذري وحده لا يكفي لتأسيس بيت وإنشاء عائلة وإنجاب ذرية وتربيتها، بل لا بد من مقومات واقعية وعملية لتجسيد ذلك الحب على أرضية الواقع، فإن الروابط المعنوية بين ال عرب ستبقى كالحب العذري المعلق في الفضاء".

ويقدم كتاب د. الأنصاري مساهمة مهمة في تطوير وإنضاج التوجه الواقعي في الرؤية القومية. فهو يقول لنا في تحليل مبتكر إن الصحراء العربية " أخطر قوة انفصالية في الوطن العربي"، ويطالبنا بعدم اللجوء إلى النقد التهربي بلوم الاستعمار، ويحذرنا من الشعور بالإحباط والخجل عندما تتحكم الميول الانفصالية والتوجهات القطرية الانعزالية بالنخب العربية الحاكمة أو تفشل التجارب الوحدوية. فهذه الظواهر والأسباب لا بد أن تفهم بشكل علمي وأن تحترم من العرب عمومًا والقوميين الوحدويين على وجه الخصوص وإلا "فإن الأيديولوجيات والشعارات ستظل تطفو وتنحل بعزل عن الواقع.. ولن تترك إلا المزيد من مشاعر الإحباط"

ويقضي كتاب د. الأنصاري على أي ضرورة لقيام وحدة عربية من أي نوع في المستقبل المنظور، فمثل هذه الوحدة ستعرقل في الواقع وبموجب مقدمات الباحث، عملية الإنضاج السياسي التي تقوم بها الدولة القطرية تمهيدًا للوحدة عندما تتهيأ الظروف. وإذا كانت الدولة العربية تلعب دورًا إقطاعيًا وتزرع في الجماهير قيم الولاء والارتباط بالمصالح الوطنية العامة، فهل هي بحاجة ذات يوم إلى طبقة برجوازية قومية توحدها سياسيًا وتدمج أسواقها ومصالحها الاقتصادية؟ وإذا كانت الليبرالية السياسية والديمقراطية التعددية فلسفة هذه الشريحة الاجتماعية المترقبة، فلربما أخفقت في تقدير الباحث، ذلك أن د. الأنصاري يشكك في جدوى الديمقراطية وقدرة التعددية على حل الأزمة العربية. وإذا جربت الدول العربية هذه الوصفة فإنها سـترتكب نوعًا من الانتحار الذاتي.

فالمشكل "أن كيان الدولة العربية- من حيث وجودها كدولة- ما زال لا يحتمل التعددية الديمقراطية، لأن التعدديات العصائبية المترسبة لم تصهر بعد في بوتقة الدولة الحديثة والمجتمع الحديث. وهذا النوع القديم من التعددية سرعان ما يغطي التعددية الديمقراطية ويحل محلها بشكل يتجاوزها إلى ما يشبه الفوضى أو الحرب الأهلية".

إن دفاع د. الأنصاري عن الكيان القطري مدخلًا قوميًا عروبيًا للوحدة يشبه منهج ديكارت الذي يبدأ بالشك ليصل إلى الإيمان، أو موقف من يرى في الوثنية وعبادة الكواكب، على ما فيهما من بدائية وضيق أفق، مرحلة لا بد أن تسبق الوحدانية.

ولا جدال في أن العديد من آراء الباحث في واقع العرب وعوامل التفكك والمصاعب القائمة في وجه وحدتهم، جدير بأن يكون بداية نظرة جديدة إلى الكثير من المسلمات وفي الحقل- النظري والعملي للفكرة القومية وقضية الوحدة العربية بل وكذلك الوحدة الإسلامية. وقد آن الأوان، في رأي الباحث،لأن يولي الإسلاميون هذا الجانب ما يستحق من عناية، "لأنه الأضعف في تفكيرهم ".

إن آراء وتحليلات د. الأنصاري تحدث في الفكرة القومية والأهداف الوحدوية من التداعيات والانهيارات أكثر مما يعتقده أو يرغب به الباحث شخصيًا أو يتوقعه القارئ المتعاطف. كما أن العديد من النظريات التاريخية والقومية التي تضمنها الكتاب بخصوص القبلية والدور التاريخي للإقليمية وجوهر التاريخ الإسلامي، قد تثير جدلًا عاصفًا إن تمت توسعتها ونقدت النظرية القومية من خلال مستخلصاتها. وهكذا يجد قارئ كتاب د. محمد جابر الأنصاري نفسه عروبيًا كان أم إسلاميًا أم خارج الإطارين، في نهاية الأمر، حائرًا من جديد بين مستلزمات الدولة القطرية ومثالية الأهداف الوحدوية وتوجهات العصر الديمقراطية، والعلاقة الجدلية بين هذا الثلاثي، تلك العلاقة التي بدت للكثيرين متماسكة بدهية في العقود الماضية، وإذا هي الآن، وبخاصة بعد قراءة هذا الكتاب، في غاية التعقيد.

أليس هذا بعض ما يفعله فينا الكتاب الجيد؟.

 

خليل حيدر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب





د. محمد جابر الأنصاري