الجد والحفيد

الجد والحفيد

كان يتردّد دائمًا للتحدث مع ابن ابنته، حفيده، السنوات التي تفرّق بينهما تزيد على الخمسين سنة، كان ينظر إليه، يناديه ليجلس بقربه، على حافة سريره، يبتسم، ومرارًا تنقلب ابتسامته إلى ضحكة، يستغرب الحفيد ضحك جدّه ويقول في سرّه إنه الخرف، أو الجنون، يحزن ويبقى قربه، يتبادلان النظرات التي تحمل حديثًا طويلاً وحكايات وذكريات.

أسئلة كان يطرحها الحفيد على نفسه، عن حياة جدّه وعن شبابه، سمع كثيرًا من قصص شبابه من أمّه عن أبيها. يقول له الآن ماذا في رأسك؟ ماذا تفكّر، هل الماضي حاضر دائمًا في ذاكرتك؟ عندما لا يجيب الجد يسأله إذا كان يرغب ويشتهي شيئًا. يتابع الحفيد: أخبرتني أمي أنك كنت عاشقًا دومًا، كل حياتك، أخبرني، قل شيئًا، أنت والمرأة، كيف؟ مَن كانت أول.. ضحك الجد وكأنه قرّر أن يقول شيئًا: اسمع.. انظر.. النافذة انفتحت والأهواء عاتية، ولا نسيم، لاحت منها صورة امرأة، غمزتني، الموت، امرأة كنت أعرفها، أعتقد أنها صورة أعرفها، وجهها ليس غريبًا علي، لست أدري، لكن هذا الشيء، المرأة غمزتني، اختفت ثم لاحت، قلت لنفسي قبل أن تعود وتظهر، رأيت أن أقول يا ابني، يا جدّي، يا حفيدي، ما تريد سماعه منّي، نعم قال الحفيد، أنا بشوق إلى سماعك، إلى.. أجابه الجد: ليس عندي ما أقوله.. أو.. بلى، ثم ظهرت علامات حزن على وجهه، ماذا تريد أن أخبرك به؟ ليس عندي ما أقوله.. بلى.. اسمع.. اسمع جيدًا، لا تستمع إلى كل مَن فتح لك فمه وأخرج كلمات، ساعات تمر، وتسرع، والشباب يمضي، يلوح ويمضي، الشباب لا يبقى طويلاً، ساعاته وأيامه تسرع. ثم فجأة وقف عن الكلام وأغمض عينيه، قام الحفيد واقترب منه وهمس في أذنيه: جدّي يا الله، افتح عينيك.. ما بك؟ فتح الجد عينيه المتعبتين، وقال وكأنه عائد من مكان بعيد: لا تستمع إلى الكلمات، استمع إلى صداها، ثم بعثرها، إن لم تجد فيها ما يرضيك، لن ترضيك سوى كلمات تأخذ منك كل اهتمامك، هي كلمات نادرة.. نادرة.

ثم انتقل الجد إلى موضوع آخر، وكأنه يخاطب حفيده ويحكي لنفسه ما في قلبه، قال: المال يا جدّي هو زينة، ثم ضحك، وبعد لحظات تابع.. زينة تزينك وتجمّلك وتجعل منك إنسانًا محبًا ومحبوبًا ومقرّبًا من القريب والبعيد، وتأخذ منك كل ما يعكّر من صفاء وجهك ولسانك وجسدك، ويقوّي من عزيمتك وروحك.. ولا.. اسمع يا ابن ابنتي الحبيب، هل ترى.. هل ترى ما أراه؟ اسمع.. لا تسمع كل ما كنت أقوله.. المال ليس كل شيء.. هل فهمت؟ المال ليس كل شيء في الحياة..انظر هل ترى ما أراه؟ أجابه الحفيد: نعم يا جدّي.. كلا.. لا أرى شيئًا.. ماذا ترى أخبرني، هل عدت ترى صورة امرأة؟ تمتم الجد: الموت.. شبح.. امرأة.. ضباب.. اسمع.. إن أطعت شعورك وغرائزك فأنت رابح، وإن لم تطعها فالندامة والحسرة، الحياة تنفلت في كل وقت وتنعدم، لا تتركها تفلت منك، امسك بها، بلذّاتها، لن تجد بديلاً عنها.. هل سمعت؟

قال هذا الجد وكأنه زاد عنفوانًا أو أن العنفوان قد عاد إليه وأصبح لصوته رنة أصوات الشباب، ثم تابع: تنفلت منك وأنت متحسّر، تندم على ما لم تفعله، البحث عن شعور اسمه الحب، هذا الشعور العجيب الممزوج بكل المواد التي في الإنسان، في جسده، وطال سكوته، ثم فتح عينيه ونظر إلى حفيده: قلت لك ألا تسمع ولا تنصت لكل ما يقال من أشياء لست واثقًا من صحتها. لكن الحفيد سأله: ما هو الحب؟ أريد أن أقول كيف كنت والحب؟ أجابه الجد: إن بحثت عن الحب فلن تجده، هو يأتي هكذا، دون موعد، تسأل ما هو الحب؟ هو الدّاء والدّواء.. دواؤه فيه من اللذة ما يخوّلك التعلّق بالحياة، دواء هذا الداء هو أن تطيعه وتعبده، يا جدّي.. قال الحفيد: لم أفهم؟ أجابه الجد: أقول الحب هو داء ودواء، الدواء داء، ودواء الدّاء أن تقبل بالدّاء وتعيش معه وتسعد به وتتألم. هزّ رأسه الحفيد وكأنه فهم. توقّف الجد عن الكلام وراح في غيبوبة ثم عاد بعد دقائق وقال: العمل.. العمل.. اعمل كي تعيش اليوم، واترك الغد لناس الغد، كل يوم له نافذتان، نافذة يدخل منها النور، ونافذة للظلمة.. اختر دائمًا النور لترى، لئلا تقع على الأرض وتبقى وتطمرك الأرض بترابها، قف وارفض طاعة الرّكود، واطرد الكسل من جسدك، جسدك هو كل ما تملك، هو ثروتك الوحيدة وهو فقرك أيضًا إن لم تحافظ على سلامته، الفرح لا يفرّق ما بين وجه الفقير ووجه الثري، غنى الإنسان في ذاته، ليس المال سوى إحدى السبل المؤدية إلى الساعات الأخيرة من حياة الإنسان، كلنا نصل إلى نهاياتها، وإن لم نرد هذا الوصول. سأل الحفيد:

.. ولكن.. المال؟ أجابه الجدّ: المال والبنون.. هل سمعت؟ المال والبنون.. لا أدري ماذا أقول.. المال، وأنت يا بني.. ماذا يعني..؟ الحفيد: مَن؟ الجد: المال والبنون. الحفيد: مال مَن وبنون مَن؟ الجد: المال كل المال وهو إن لم تستطع استعماله وتسخيره لسعادتك وفرحك فهو قاهر لك وكذّاب. الحفيد: والبنون؟ الجد: يا حبيبي لا تسلني عن سر البنين، أنا لم أعد منهم، ولم أفهمهم، ولم أفهم سر المال. الحفيد: هل للمال سر؟ الجد: المال هو رغبة الإنسان، رغبة تحقق رغبات الإنسان، وفي سبيله تسيل دماء وتقع حروب كما يعم السلام والفرح... والفرح؟ سأل الحفيد:

لم يجاوب الجد، راح يتمتم كلمات مبهمة ثم غاب دقائق طويلة، ولما عاد إلى وعيه تابع قائلاً: هل تعتقد أني أفهم ما يتفوّه به لساني؟ ألم أقل لك ألا تستمع إلى كل مَن فتح لك فمه، هذا يفسد لك وقتك ويضيّعه. قال الحفيد: سأفتح النافذة يا جدي. الحرّ في كل أرجاء الغرفة، الشمس دخلت وزادت الحر، وأصبح لا يطاق.

لم يجب الجد، ولم يقل شيئًا، دخل من النافذة نور ورديّ ونسيم هادئ يحمل معه ضبابًا غلّف سرير العجوز الذي ظهرت على محيّاه ابتسامة تعبّر عن راحة وصمت وسكينة.

 

 

أمين الباشا