كاسبار فريديريش «شجرة الغربان»

كاسبار فريديريش «شجرة الغربان»

كاسبار دايفيد فريديريش هو قائد الحركة الرومنطيقية الألمانية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، ويعتبر اليوم أهم رسامي هذه الحركة على الإطلاق. وُلد فريديريش في شمال ألمانيا عام 1774م، ودرس فن الرسم في كوبنهاغن بالدنمارك حتى العام 1798م، ليعود بعد ذلك إلى دريسدن في ألمانيا حيث طوَّر شخصية فنية مستقلة تماماً عما كان قائماً حوله آنذاك.

كانت أوربا آنذاك غارقة في التصنيع، وفي تبدل معالم الحياة الاجتماعية والبيئية التي بدت للرسام تجنح بجنون متعاظم نحو المادية والحسابات الباردة، وتبتعد أكثر فأكثر عن النفس والعاطفة. فكان فنه ردة فعل على مادية العالم من حوله الغارق في واقعية الحياة اليومية وحساباتها الباردة، وانضم إلى حفنة، كانت محدودة العدد أولاً، من الرسامين، من أمثال وليم تورنر وجون كونستابل، في تمجيد الطبيعة. وفي حين أن هذين الأخيرين مثلاً، كانا يرسمان الطبيعة الواقعية في لحظات تجليها، شطح فريديريش صوب الطبيعة المتخيلة. ولهذا قال مرة عام 1830م: «عليك أن تغمض عين جسمك، كي ترى اللوحة بعين روحك».

تتميز معظم أعمال هذا الفنان بحضور واضح للسماء الغنية بالألوان والغيوم، وللضباب تارة وللعواصف تارة أخرى، ولأشجار السنديان العارية من الأوراق في العديد من لوحاته، ومن بينها «شجرة الغربان» هذه.

في هذه اللوحة، نرى شجرة معمرة، عرَّاها الزمن من أوراقها ليحول أغصانها إلى شبكة من الخطوط المتعرجة والمتشابكة سوداء اللون بفعل تقدمها على سماء وردية وبرتقالية تناقض في سكينتها حركة الأغصان العنيفة. ولو تأملنا جيداً، للاحظنا أن الأغصان الصغيرة والفروع تتجه من اليسار إلى اليمين بعكس اتجاه الجذع من اليمين إلى اليسار، كأن هذا الجذع أصر على مقاومة حركة الرياح التي لوت الأغصان الصغيرة في الاتجاه المعاكس.

إنها شجرة على شفير الموت، كما يدل على ذلك الجذع المتفسخ والجذوع الباقية من أشجار كانت في ما مضى هناك.. باتت مأوى للغربان السوداء، بكل ما لهذه الغربان من رمزية لفصل الشتاء المقبل، وللوحشة والموت. أما التلة التي تنتصب فوقها هذه الشجرة فهي مجرد خلفية داكنة تعزز المناخ الحزين والمنكسر الذي يشع من هذه اللوحة، ولكنه لا يلغي الأمل. هذا الأمل الممثل في سكينة السماء بألوانها الزاهية، كشاهد وقور وهادئ على صخب الحياة والمقاومة والموت.

فأمام هذه اللوحة، كما هو الحال أمام معظم لوحات فريديريش، يمكن للمزاج أن يقرأ أكثر بكثير مما يمكنه أمام أعمال الكلاسيكيين الذين سبقوا فريديريش وأعمال النيوكلاسيكيين الذين تلوه. فالمهم عنده في اللوحة، ليس جمال الطبيعة على الإطلاق، بل الخطابات المختلفة على الصعد الأخلاقية والوجدانية وحتى الدينية التي يمكن للطبيعة أن تلقيها على المشاهد.

بعيد وفاته، كاد فريديريش أن يدخل عالم النسيان، بفعل عقلانية الحداثة التي رافقت الحركة الصناعية في ألمانيا. ولكن معرضاً أقيم عام 1906م في برلين، وضم 32 لوحة من أعماله، أعاد لفت النظر إليه.

فأعجب به التعبيريون، ودرسه جيداً السورياليون والوجوديون، واعترف به الجميع أستاذاً للمدرسة الرومنطيقية على مستوى العالم، وليس في ألمانيا فقط.

 

 

عبود عطية





كاسبار فريديريش: «شجرة الغربان»، (1822)، (59 × 74 سم)، متحف اللوفر، باريس