احتفاء تركي بالسينما الفلسطينية: فلسطين.. حسرة السلام

احتفاء تركي بالسينما الفلسطينية: فلسطين.. حسرة السلام

بعدما استيقظ العالم، صبيحة يوم 31 / 5 / 2010، على أخبار اقتحام السفينة التركية «مرمرة»، من قبل جند الاحتلال الإسرائيلي، والانتهاء بهم إلى مقتل تسعة من ركابها الأتراك، كان من الطبيعي أن تأتيني رسالة إلكترونية من السيدة التركية «باشاك أمير»، تعتذر عن صدور القرار بتأجيل موعد «مهرجان اللوزة الذهبية السينمائي الدولي في أضنة»، حتى إشعار آخر، إذ «لا يمكن أن نقيم مهرجانات سينمائية، فيما الشعب التركي حزين»!.. دون أن يمنعها هذا من أن تردف قائلة إن قناعتها الشخصية، ترى بأن الوقت، وعلى الرغم مما يتلبسه من أحزان، كان مناسباً لتأكيد العزم على الاحتفاء بفلسطين، من خلال سينماها!

يومها، كان قد مضى قرابة شهر من المراسلات والترتيبات والتحضيرات، بيننا، للمشاركة في الندوة الحوارية المرافقة لفعاليات «التظاهرة الخاصة بالسينما الفلسطينية»، بعنوان «فلسطين.. حسرة السلام»، تلك التظاهرة التي أرادت إدارة المهرجان أن تكون ضمن فعاليات الدورة السابعة عشرة من المهرجان، التي كان موعدها بتاريخ 13 / 6 / 2010.

جاءت حادثة السفينة «مرمرة»، إذن لتؤجل المهرجان ثلاثة أشهر، لينعقد لاحقاً في الفترة من 20 إلى 26 / 9 / 2010، ولم تكن السفينة «مرمرة» - كما سيظن البعض- سبباً يدفع مهرجاناً سينمائياً تركياً، ينعقد في مدينة أضنة، وسط جنوب تركيا، للاحتفاء بالسينما الفلسطينية، بعرض نخبة من أبرز أفلامها، واللقاء ببعض من صنّاعها، ومناقشة واقعها، وتقصي همومها.

ربما جاءت تلك الفكرة، أصلاً، تناغماً مع الدور السياسي الإقليمي الذي بدأت الدولة التركية تأخذه في السنوات الأخيرة، خاصة وأن «مهرجان اللوزة الذهبية السينمائي الدولي في أضنة»، ينعقد بإشراف من مجلس محافظة مدينة أضنة، وبلديتها، بالتعاون مع وزارة الثقافة في أنقرة، وبتمويل من مجموعة واسعة من رجال الأعمال والمستثمرين والمؤسسات الحكومية والخاصة في أضنة.

كان من الطبيعي، وقد انعقد المهرجان في موعده الجديد، ولم تزل ذكرى الشهداء الأتراك التسعة ترن في الآفاق، أن يكون لحضور السينما الفلسطينية وقعها الخاص، على المستوى الرسمي والشعبي، على السواء.. فهناك، في أروقة المهرجان، وفي دروب المدينة، لن تعدم فرصة أن يقترب منك رجل تركي، شاباً أو كهلاً، ليخبرك بإنجليزية ركيكة أنه مستعد للموت فداء فلسطين، على الرغم من أن المقام مُخصص أصلاً لحديث السينما، وليس «حكي سياسة»!

حضرت نخبة من الأفلام الفلسطينية الجديدة، التي قام ببرمجتها العراقي انتشال التميمي، فاستطاع بخبرته الواسعة أن يختار نخبة من الأفلام الفلسطينية المتميزة، يتقدمها الفيلم الروائي الطويل: «الزمن الباقي»، للمخرج إيليا سليمان، وهو الفيلم الذي نافس بقوة على جائزة مهرجان كان السينمائي الدولي 2010، وكان مرشحاً بقوة للفوز بالجائزة الكبرى، التي أفلتت منه، مثيراً الكثير من الأسف لخروجه خالي الوفاض من ذاك المحفل السينمائي العالمي الكبير.

المخرج الفلسطيني: إيليا سليمان، الذي سبق له أن نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة، من مهرجان كان السينمائي الدولي عام 2002، ونال جائزة أفضل مخرج في الشرق الأوسط من مهرجان أبوظبي السينمائي 2009 يعود مع فيلمه الجديد «الزمن الباقي»، إلى العام 1948، عام النكبة، ليروي من خلال سيرة ذاتية، له ولوالده، وقائع ما جرى في فلسطين، حينها، والتحولات الصعبة التي شهدتها، في السنوات التالية. وذلك من خلال فيلم سينمائي بديع، أدهش مشاهديه بقوة أسلوبيته، وتألقه الإبداعي.

وجاء فيلم «المرّ والرمان»، الروائي الطويل للمخرجة نجوى النجار، ليستكمل جانباً آخر من الصورة المضيئة للسينما الفلسطينية، إذ تدور أحداثه في الزمن الراهن، من خلال زوجين فلسطينيين شابين، يتعرض الزوج للاعتقال، فيما يتعين على الزوجة أن تخوض غمار تجربة البحث عن الذات، إلى حدّ قارب الوقوع في الغواية، قبل أن تستعيد شتات روحها، وتعود إلى زوجها، دون أن ينسى الفيلم الإشارات القوية لممارسات سلطات الاحتلال، وتعلق الفلسطيني بأرضه وزيتونه!

بينما جاءت مشاركة المخرج رشيد مشهراوي من خلال أحدث أفلامه الروائية الطويلة «عيد ميلاد ليلى»، الذي سبق له أن نال جائزة أفضل سيناريو من مهرجان أبوظبي السينمائي عام 2008، حيث تدور أحداث الفيلم حول حكاية قاضٍ فلسطيني يعود إلى رام الله بعد سنوات من العمل في الشتات والمنفى. هذا القاضي المحترف، ذو الخبرة المتميزة، لن يجد أمامه سوى العمل سائقاً لسيارة أجرة، وقد تلكأت مهمة تعيينه في وظيفته التي يستحق، بسبب البيروقراطية، والفساد، والمحسوبيات.. تلك التي يشكل الاحتلال الإسرائيلي المؤسس الأصيل لها!..

أما على صعيد الأفلام الوثائقية، فقد تم عرض نخبة من الأفلام المتميزة، يتقدمها فيلم «كما قال الشاعر»، للمخرج نصري حجاج، حيث يقوم بمحاكاة شعرية بصرية، تستند إلى قصائد الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، وفي مسعى لخلق معادل بصري سينمائي إبداعي، يمكن له أن يتناول هذا الشاعر الظاهرة، بحق. بينما يذهب المخرج كمال الجعفري في فيلمه الوثائقي «مرآة الذاكرة»، للحديث عن الحال الذي تعيشه مدينة يافا، بعد نيف وستين سنة من الاحتلال الإسرائيلي، حيث تحولت تلك المدينة التي كانت تدعى «عروس المتوسط»، إلى مدينة أشباح، تكاد تخلو من سكانها الفلسطينيين، المحاصرين بممارسات الشرطة الإسرائيلية، وإجراءات المصادرة التعسفية للبيوت والأراضي، في سياسة لئيمة تهدف إلى التخلص مما تبقى في مدينة يافا من عرب فلسطينيين، والعمل على تحويل المدينة الفلسطينية العريقة، إلى مجرد هامش مكاني لمدينة تل أبيب.

وفيما تذهب المخرجة ليانا بدر، عبر فيلمها الوثائقي «مفتوح مغلق» للحديث عن الحصار، والإغلاق، وجدار الفصل العنصري، انطلاقاً من معاناة الأطفال وتلاميذ المدارس، فإن المخرج نيكولاس ودايموف يحقق فيلمه «عايشين»، بإنتاج قناة الجزيرة، لرصد صور من واقع الحياة الصعبة في قطاع غزة، الواقع بين فكي الحصار والإغلاق من جهة، والعدوان الوحشي والقصف الناري القاتل، من جهة أخرى.

وفي رابع أيام المهرجان؛ يوم الجمعة 24 / 9 / 2010، كان الجمهور التركي على موعد مع الندوة الرئيسة للحوار بصدد صناعة الأفلام الفلسطينية: ما الذي قامت به، وما يواجهها من صعوبات، ومعيقات، وكيف لسينما أن تقوم تحت الاحتلال، أو في الشتات؟!.. ولقد شارك في الندوة كل من: المخرجة ليانة بدر، المخرجة نجوى النجار، الصحفية اللبنانية فيكي حبيب، المخرج نصري حجاج، وكاتب السطور.

على مدى ثلاث ساعات من النقاش والحوار، كان الحديث متفاعلاً بحرارة عن السينما الفلسطينية، بدءاً من إلقاء الضوء على تاريخها، ولادة ونشأة وتطوراً، وأبرز المراحل التي مرت بها، خاصة مرحلة سينما الثورة الفلسطينية، التي كانت تتولاها وترعاها وتمولها وتنتجها مؤسسات الثورة الفلسطينية، ومن ثم مرحلة السينما الفلسطينية الجديدة، التي انطلقت مع تجربة المخرج ميشيل خليفي، والمخرجة مي المصري، مع بداية الثمانينيات من القرن العشرين، واستمرت صاعدة حتى اللحظة الراهنة، محققة الكثير من القفزات الفنية والتقنية، والكثير من النجاحات.

تحدثت المخرجة ليانا بدر، وهي التي تعمل الآن مستشارة في وزارة الثقافة في السلطة الفلسطينية، وسبق لها أن كانت مسئولة عما يمكن تسميته «مؤسسة السينما الفلسطينية»، عن أبرز الصعوبات التي يواجهها السينمائيون الفلسطينيون، خلال تحقيق أفلامهم، ليس بسبب نقص التمويل، فقط، وإنما أولاً بسبب ممارسات جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي لا يكتفي بمنع التصوير، أو مصادرة الكاميرات والأشرطة، بل يصل به الأمر أحياناً إلى منع السينمائي الفلسطيني من الدخول إلى فلسطين.

وكشفت المخرجة نجوى النجار عن جوانب من معاناتها الشخصية، خلال تحقيق أفلامها السينمائية، إذ تعرضت للمنع حيناً، وللمضايقات في أغلب الأحيان، ولكن هذا لم يمنعها من العمل الدؤوب لصنع سينما فلسطينية خالصة. بينما تحدث المخرج نصري حجاج عن تجربته الخاصة، حيث أمكن له، وهو المولود في الشتات؛ في مخيم عين الحلوة، أن يعود إلى قريته، في إصبع الجليل، أقصى شمال فلسطين، وهي القرية المحتلة والمدمرة منذ عام 1948، ذاك الذي دفعه في مجرى البحث في غياب الفلسطينيين، وموتهم في الشتات، وعدم تمكنهم من العودة إلى فلسطين، حتى ولو جثثاً، وهو ما رصده حجاج في فيلمه «ظل الغياب».

الصحفية اللبنانية، فيكي حبيب، شاءت - وهي الوحيدة غير الفلسطينية بين المتحدثين في الندوة - أن تقدم شهادة جريئة عن تجريتها الشخصية، هي الفتاة التي ترعرعت في سنوات ما بعد الحرب اللبنانية، وكانت السينما الفلسطينية بوابتها لإعادة فهم الواقع الفلسطيني ومعرفة الفلسطينيين بعيداً عن الصورة الإعلامية، وذلك بعد سنوات من تربية، أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها كانت تؤسس للنفور من الفلسطيني، على الأقل بسبب انغماسه في وحول الحرب الأهلية اللبنانية، وملابساتها.. وهو ما دعا كاتب السطور للقول في ختام الندوة: «لو لم يكن من دور للسينما الفلسطينية، سوى تصحيح صورة الفلسطيني.. لكفاها مجداً».

 

 

بشار إبراهيم






الزمن الباقي





عيد ميلاد ليلى





كما قال الشاعر