المهدي أخريف وعبد الرحيم العلام.. أنا مدينٌ لبحر أصيلة

المهدي أخريف وعبد الرحيم العلام.. أنا مدينٌ لبحر أصيلة

يعتبر الشاعر المغربي المهدي أخريف أحد أهم الأصوات الشعرية في المغرب وفي العالم العربي، وأحد مؤسسي الحداثة الشعرية في المغرب. نشر أشعاره الأولى في نهاية ستينيات القرن الماضي، وساهم منذ السبعينيات في تحديث المشهد الشعري المغربي والعربي، بكتاباته ودواوينه الشعرية، سواء المنشورة ضمن أعماله الشعرية الكاملة، أو الصادرة في مرحلة زمنية تالية.

  • أنا مدين لأصيلة بما استقر في نفسي من ولع به مكين منذ الطفولة...، مدين لبحرها ومدين لسمائها، ولغيومها وصفائها، لحيطانها وألوانها وحقولها أيضًا.
  • لماذا اعتبار قصيدة النثر هي الشكل الوحيد المؤهل لامتلاك مستقبل الشعر؟
  • ترجمتي لبيسوا لم تكن حدثا عابرا في حياتي ككاتب ومترجم، كانت لقاء مهمًا ومؤثرًا

بدأ الشاعر المهدي أخريف الكتابة عام 1964، ونشر أول نص له في جريدة «العلم» المغربية عام 1967، قبل أن يتوالى ظهور نصوصه الشعرية والنثرية في عديد المنابر الصحفية والثقافية، المغربية والعربية والأجنبية. وللشاعر أخريف عديد المشاركات في مؤتمرات ومهرجانات أدبية في العالم العربي وأوربا وأمريكا اللاتينية.

ترجمت بعض أشعار أخريف وكتاباته النثرية إلى لغات أجنبية عدة، من بينها الألمانية والإسبانية والإنجليزية والإيطالية والفرنسية واليونانية والهولندية والبرتغالية. وظهرت أعماله الإبداعية ضمن سلسلة الأعمال الشعرية الكاملة التي تصدرها وزارة الثقافة المغربية، حيث أعيد نشر عديد أعماله الشعرية المنشورة سلفا في دواوين شعرية في جزأين العام 2003، والشاعر المهدي أخريف، إلى جانب ذلك كله، هو مترجم وناثر وناقد أدبي وجمالي، افتتن بترجمة الشعر العالمي، من ذلك ترجمته الشهيرة والرصينة للأعمال الشعرية الكاملة للشاعر البرتغالي الكبير فيرناندو بيسوا، المنشورة تحت عنوان «كتاب اللاطمأنينة»، والصادر في عدة طبعات في المغرب ومصر، فضلا عن ترجمات شعرية عديدة لشعراء آخرين من أمريكا اللاتينية وأوربا، صدرت بالمغرب وخارجه، وهي لفيرناندو بيسوا، وأكتافيو باث، وخوستو خورخي بادرون، وألبيرتو كاييرو، وأنطونيو جامونيدا، وألبارو دي كامبوس، وخوان خيلمان، وغيرهم.

في هذا الحوار، يقربنا الناقد المغربي عبد الرحيم علام من فضاءات الشاعر أخريف من عديد المجالات التي تشغل اهتماماته الشعرية والفكرية والنقدية والتأملية، كما يسلط الضوء على محطات أساسية في تجربته الحياتية والإبداعية.

  • ما الذي يعنيه بالنسبة لك - كشاعر -الانتماء إلى مدينة ساحلية وهادئة كأصيلة، باختيارك لها فضاء للإقامة والإبداع، وبلورة سؤال الثقافة والفن والجمال؟ وهل لهذا الفضاء الشاعري بامتياز تأثير ما على ذلك الطفل الذي كنته لمعانقة عالم الشعر والجمال؟

- لم أولد في وسط شعري. لا أحد في عائلتي كانت له صلة بالشعر لا من قريب ولا من بعيد.. من أين جاءتني بذرة الشعر لا أدري.. لعلها ولدت معي كما ولدت مع آلاف الآلاف من الناس ممن لم يكتب لهم أن يكونوا شعراء بالفعل، فاكتفوا بأن يكونو شعراء بالقوة، شعراء بالصمت أو بالذوق أو ماشاءوا.

مولد البذرة فيَ جرى في فردوس طفولتي الأولى في«خندق الأجنة»، فردوس مازالت طبيعته الجبلية البليكية (نسبة إلى وليم بليك) حية، مرسومة في وجداني إلى اليوم، لكن فقط في أصيلة أمكن لبذرة الشعر في أن تزهر وتثمر.

في أصيلة كتبت قصائدي الأولى في سن مبكرة جدا، استلهمت فيها الطبيعة البحرية، وقلدت الشابي وجبران ومحمود حسن إسماعيل ومصطفى المعداوي... لكن مدخلي الحقيقي إلى الشعر وإلى الكتابة عموما كان هو الحب والعشق. لقد دفعني دفعا إلى كتابة رسائل ملتهبة، ملتاعة كنت أضع فيها كل ما يخالجني وما لايخالجني أيضا من أحاسيس وخيالات، وأصبها في لغة مختلفة عن الإنشاءات المدرسية الأسبوعية. هذه الرسائل التي كنت أكتبها لتصل إلى الفتاة التي أحببتها (أو ظننت ذلك وهي لم تصل أبدًا إليها) تحولت بالتدريج إلى كتابات مستقلة نثرية تارة وشعرية تارة أخرى، كتابات كل غايتي منها هو مايتحقق لي فيها من متعة واندهاش وألم أيضا.هكذا اكتشفت عالم الشعر وعالم الكتابة في منتصف الستينيات في أصيلة ثم في مدينة القصر الكبير، وفي أمكنة وجغرافيات أخرى حقيقية ومتخيلة.

لكن أصيلة بالذات قبل وبعد غيرها من الأمكنة هي التي صنعتني شاعرا وكاتبا ومترجما أيضا، صنعتني وصنعتها أنا، خلقتها وخلقتني. علاقتي بها علاقة خلاقة وغير اعتيادية أو روتينية على الإطلاق، أنا أعيد اكتشافها في كل لحظة تقريبا أرى فيها مالا أراه فيها، أعيد بناء علاقتي مع مدن العالم التي أحبها، مع القاهرة أولا، مع مدريد، باريس، بغداد، دمشق، قرطبة، الرباط ، الصويرة، العرائش.

جئت إلى أصيلة في سن الخامسة، لم أعش فيها سوى سبع أو ثماني سنوات متصلة، إذ أجبرتني سنوات الدراسة - الثانوية والجامعية، ثم العمل بالتدريس لعدة سنوات في مدن أخرى - على ترك المدينة لما يقرب من خمس عشرة سنة. وحينما عدت إليها مع مطلع الثمانينيات عدت مزودا بخبرة من سافر إلى إيثاكا، عدت إليها هذه المرة لا لأصارع وأنافس، بل فقط لأحلم وأتامل وأعيش بطريقتي الخاصة الحصة المتبقية لي من الحياة، ذلك أن السفر الإثاكي الصعب منحني كنزا عظيما هو القناعة: قناعة الشغف الخالص بالأشياء لذاتها بالقراءة بالمعرفة، بالكتابة بالترجمة وبكل الأشياء الصغيرة وخصوصا الإصغاء الدائم للمعلم الأكبر: البحر الأطلنطيكي الذي علمني أسرار الإيقاعات وأسرار اللغات، وخاصة لغات الصمت الكامنة في ملفوظاته الصاخبة.

أما «باب البحر» فهو أول أعمالي الشعرية المنشورة (صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت عام 1988)، ومن المصادفات العجيبة أن أول مقال صدر عنه قبل أن أتوصل بنسخي منه ظهر في الكويت بالذات في مجلة «الطليعة».

بالمناسبة لدي ديوانان سابقان لـ «باب البحر» زمنيا، لم يكتب لهما النشر، أولهما «عشق بدائي» وثانيهما «وردة في الرماد»، وثمة ديوان ثالث كتبت قصائده بعد «باب البحر»، «اختطفه» مني ناشر تونسي ولم يظهر له أثر إلى اليوم، ولم أتحمس لنشره هنا بعد ظهورعملي الشعري الثاني «سماء خفيضة».

  • ديوانك الأثير هذا، أقصد «باب البحر» أثار بعد صدوره ردود فعل ومواقف نقدية لافتة، منها اعتباره من قبل الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح أنه يشكل تجربة رائدة في مجال قصيدة النثر في المغرب؟

- إذا كان عبد العزيز المقالح قد رأى في» باب البحر» تجربة مغربية رائدة في قصيدة النثر، فأنا لا أقاسمه الرأي، وأحسبه كان كريما معي ومجاملا إلى حد كبير، ذلك أن قصائد هذا الديوان تفتقر تماما إلى المقومات الأساسية لقصيدة النثر التي أعتبرها فنا شعريا صعبا وشديد الخصوصية. قصائدي تلك هي تمرينات ثرثارة نثرية شعرية في آن في الاحتفال بالمكان والتأريخ له، وكنت وقتها حديث عهد بالعودة، عودة الابن الضال إلى حضن والده البحر.

  • في هذا الإطار نفسه، وكما هو معلوم انشغل الشعراء والنقاد العرب، على حد سواء، بقصيدة النثر وقصيدة التفعيلة، وذلك بين منتصر لهذه أو لتلك. نود في هذا الحوار أن نقترب من رأيك أنت في هذا الخلاف المتشعب حول هذا الموضوع؟

- الخلاف النقدي الرائج منذ عقدين على الأقل عندنا حول قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة مفيد وحتمي، يفرضه الواقع الشعري الطافح بالتجارب والتحولات. أنا مع هذا الانشغال النقدي سواء أتى من النقاد أم من الشعراء، أتابع وأصغي، غير أنني مع الشعر قصيدة نثر كان أم تفعيلة، وفي الوقت نفسه ألاحظ أننا نضيق على أنفسنا كثيرا في هذا الجدال الخصيب حينما نحصر الصراع أو الخلاف بين نوعين أو شكلين من الشعر بينما الواقع - الواقع الشعري ذاته - يظهر لنا أن ثمة تجارب شعرية وأنماطا وأشكالا أخرى عديدة كائنة وممكنة تتخلق يوميا من داخل ومن خارج التفعيلة وقصيدة النثر. مثلا إذا كان مايكتبه الشاعر المغربي مبارك وساط يندرج تماما في قصيدة النثر، فإن ماكتبه الشاعر المصري المرحوم محمد صالح في أعماله الشعرية اللا تفعيلية يؤسس لكتابة شعرية مغايرة لقصيدة النثر، وكذلك الشاعر المغربي محمد بنطلحة يكتب قصيدة مجاوزة في تصوري قصيدة النثر. ثم لماذا هذا الدفاع المستميت عن هذا الشكل أو ذاك كما لو كان عقيدة أو دوغما؟ لماذا اعتبار قصيدة النثر هي الشكل الوحيد المؤهل لامتلاك مستقبل الشعر؟ قصيدة النثر التي حققت مكتسبات كبيرة شعرية عربية، وغيرت الذائقة وسبل تلقي القصيدة، فعلت ذلك بخيارات جذرية، وبالحرية والتجريب، وبالتحرر من المطلقات والقضايا الكبرى، وبالانحياز للهوامش واليومي، للعب الحر باللغة والنحو والبلاغة والإيقاع، ولكنها ليست المحطة الأخيرة، محطة الوصول.

شخصيا، أرى أن المسألة الخلافية ينبغي ألا يكون موضوعها الوزن أو اللا وزن، بل الشعر أو اللا شعر (وهذا أيضا يثير جدلا من مستوى مختلف)، الإيقاع أو اللا إيقاع. سأضرب مثلا بشاعر أساسي في تيار قصيدة النثر هو سركون بولص، فتجربته على جذريتها في الانتماء إلى الشكل الذي اختاره لم تلغ الحدود الفاصلة بين قصيدة النثر والتفعيلة على الأقل من جهة الوزن، إذ لا نعدم في أعماله اللجوء إلى التفعيلة بتنويعات وتوزيعات معينة في قصائد مختلفة، أبرزها استخدامه، في آخر ديوان له وهو «عظمة أخرى لكلب القبيلة» لتفعيلة بحر الكامل (متفاعلن) في أربع صفحات من 49 إلى 53 في قصيدة: (أنا الذي) وفي مقاطع أخرى، ثمة مثال دال آخر هو سعدي يوسف المعروف باستراتيجيته الشعرية في هدم الحدود بين الأشكال، بالانتقال من التفعيلة إلى السرد النثري، إلى الشعر النثري الخالص، إلى تقنية الكولاج، إلى تنويع اللغات والأصوات وتوظيف التنقيط... ومحمود درويش نفسه وهو الملتزم باستخدام الوزن التفعيلي بصرامة، كثيرا ما يلجأ إلى تفجير وتكسير البنية النمطية للإيقاع بما يبثه من فوضى «نثرية » في أوصال النص بفضل قدرته المدهشة على تطويع اللغة والشكل الشعري معا لغنائيته الآسرة المتجددة. وفي نثره الشعري دائما كما في «أثر الفراشة» أو «في حضرة الغياب» مثلا نعثر على صنائع عجيبة لما يمكن أن يفعله شاعر خلاق بالشعر خارج الحدود المصطنعة للشعر.

أما أنا، فبالرغم من أنني محسوب على شعراء التفعيلة. فإنني معني بما هو أبعد من التفعيلة وما بعدها. معني بتعميق السًبر والحفر في مناطق القصيدة وطبقات تشًكلها. أنا مع عبارة الشاعر المغربي محمد الميموني التي تقول: ما تظهره يخفيك. فكثيرا ما يعمل الصوت العالي للقصيدة على إخفاء العمق أو تفتيته، وهذا ما يفتح المجال أمام القارئ لإعادة اكتشاف المخفي أو اللامرئي في العمل الشعري. إن القصيدة تتشكل بين تداخلات نصية عديدة ولغات أيضا، فيها السرد والنقد والشطح والتوهيم والتضمين والميثافيزيقي والميثولوجي الشخصي والعام واليومي والتقطيع والاسترجاع والتكثيف ... إلخ.

مجال الكتابة الشعرية أعمق إذن وأوسع من أن يظل حبيس الجدل بين نمطين هما مجرد إمكانيتين شعريتين لا أكثر.

  • وماذا عن كتاباتك النثرية؟

- كتاباتي النثرية تصب في تجربتي الأدبية بصفة عامة، إنها بدورها تمارين من نمط مختلف، أنا لست محمود درويش الذي تكاد تمحى الحدود بين نثره وشعره بما يطبعهما من غنائية وجمالية.

تمرين النثر عندي غير تمرين الشعر.. تمرين النثر تمارين: منها النقدي، ومنها السردي، منها التأملي، ومنها التحليلي القرائي... إلخ. فكتاب مثل «فقاعات حبرية» ينتمي إلى الكتابة النقدية وهو خليط من «بورتريهات» لشخصيات وقراءات لأعمال أدبية ونصوص تأملية نقدية، بينما كتاب «حديث ومغزل» هو باقة من نصوص سردية تحتفي بشخصيات ووقائع محلية نصف واقعية ونصف خيالية.

  • لكن أين نصنف كتابًا مثل «بديع الرماد»؟

- هناك من النقاد من رأى في «بديع الرماد» شخصية بيسوية مرآوية. جوابي هو نفسه الذي قدمته في حوار سابق: من حق الناقد والقارئ أن يعتبر بديعا مرآة أوشخصية ثانية للمؤلف. وهناك من القراء النابهين من سلم بالوجود الواقعي لبديع الرماد واستقلاله عن المؤلف مصدقًا تمامًا رواية هذا الأخير. أعتقد أن ثمة التباسًا لاسبيل إلى رفعه بينهما، أولا لأن «بديع» مصر منذ ثلاثين عام أو يزيد على إخفاء قناعه الحقيقي عن الأنظار، والظهور فقط بقناعه الآخر الذي به يوقع أعماله الأدبية.

أعرف أن بعض الكتاب - سامحهم الله - ينظرون إلي بعين الارتياب في هذه الحكاية كلها، لأنهم يعتبرونني متورطا بل متواطئا مع المؤلف في صنع الالتباس إلى الحد الذي جعل كاتبا مثل الصديق الدكتور محمد برادة ينكر وجود شخص اسمه «بديع الرماد» بالرغم من لقائه به مرتين في مدينة العرائش، معتبرا ذلك خدعة مدبرة من جانبي ومن جانب شقيقي الشاعر أحمد هاشم الريسوني.

شخصيًا أرى أن من مصلحة الأدب أن يحتفظ «بديع الرماد» بهذا الغموض المحبوب محجوبا في الواقع، مرئيا تماما في النص. أذكر أن المرحوم محمد شكري سألني قبل وفاته بشهرين عما إذا لم يكن «بديع الرماد» أخا أصغر للشاعر المرحوم المختار الحداد، وكان جوابي: حتى لو وافقت على أنه أخو المرحوم فإن ذلك لن يغير في شيء صورة الأخ المزعوم في النص، نص: «بديع الرماد».

  • يلاحظ أيضا اهتمامك الخاص بالتشكيل، وأنا، هنا، أستحضر تلك العلاقة الوطيدة القائمة بين الشعر من ناحية والتشكيل من ناحية ثانية.
    فهل لك أن تقربنا، انطلاقا من تجربتك الشعرية التي حاورت بعض نصوصها هذا الفن المؤثر، برشاقة مبدعة لافتة، من طبيعة هذا التناغم القائم بين هذين العالمين، انطلاقا من تجربتك الخاصة؟

- فأما التشكيل، فأنا مدين لأصيلة بما استقر في نفسي من ولع به مكين منذ الطفولة، مدين لبحر أصيلة وسمائها، لغيومها وصفائها، لحيطانها وألوانها وحقولها أيضا، وأنا مدين كذلك للصداقة التي تجمعني بأبرز فنانيها التشكيليين وعلى رأسهم خليل غريب. طبعا أصيلة باتت مشهورة باعتبارها مدينة الفنون التشكيلية بفضل موسمها الثقافي الدولي الذائع الصيت، لكن مالايعرفه الكثيرون هو أنها أيضا مدينة الشعر بامتياز، لأن عدد الشعراء المعروفين فيها على مستوى المملكة لا يقل عن عدد الرسامين (بالمناسبة فالشاعر أحمد هاشم الريسوني أعد كتابًا كبيرًا يضم دراسات وقراءات عن«شعراء أصيلة» من أحمد عبد السلام البقالي (1931 - 2010) ومحمد البوعناني (مزداد عام 1929) إلى كريم حوماري (1973 - 1997) وحورية غيلان (مزدادة عام 1984)، الكتاب سيصدر أواخر 2010. تجربتي مع التشكيل والتشكيليين في أصيلة انعكست خبراتها وتلاوينها في قصائدي بناء وصورًا ورؤى، من «باب البحر» إلى «محض قناع». تجلت في حواراتي الإبداعية من داخل الشعر مع أعمال بعينها مثل أعمال الفنان خليل غريب في قصائد «تخطيطات» التي تشغل حيزا مهمًا من ديواني «ترانيم لتسلية البحر»، وكذلك في ديواني «قبر هيلين» الذي يحتفي بالتشكيل ومحاورة أعمال سهيل بنعزوز ويونس الخراز والبلجيكي ماغريت. وبالإضافة إلى كتابي «يونس الخراز: نزوات في الرسم والحياة» كتبت عشرات المقالات عن الفن التشكيلي على مدى أربعين سنة بالتمام والكمال (أولى هذه المقالات يعود إلى 1970 نشر في الملحق الثقافي بجريدة «العلم» المغربية، عن رسام من أصيلة اسمه «العربي البوفراحي». هناك بالطبع شعراء مغاربة وعرب كثيرون حاوروا تجارب تشكيلية معينة في أعمالهم أو كتبوا عنها أو أنجزوا مشاريع إبداعية مشتركة مع فنانين تشكيليين معروفين.

  • تعتبر اليوم من بين أهم مترجمي الشعر العالمي إلى اللغة العربية، بعد تجاربك مع ترجمة نصوص أساسية من مدونة الشعر الإسباني والمكسيكي والأرجنتيني والبرتغالي، وخصوصا بعد نجاح تجربتك العميقة والممتعة مع ترجمة أشعار الشاعر البرتغالي الكبير فيرناندو بيسوا، التي تركت أصداء طيبة وحققت إقبالا متزايدا عليها، داخل المغرب وخارجه.
    فلم الانخراط في هذه المغامرة تحديدا، أقصد مغامرة ترجمة الشعر؟ ولماذا بيسوا على وجه خاص، وما هي القيمة الشعرية المضافة التي تضيفها ترجمة الشعر عموما لباقي الشعراء؟

- ترجمة الشعر عندي مثلها مثل الكتابة، ضرب من ضروب التمرين، بل إنها كثيرا ما تصبح تمرينا في الكتابة نفسها يستلزم من المكابدة والمعاودة ماتستلزمه الكتابة الإبداعية الشخصية أحيانا، خاصة عندما يتعلق الأمر بنصوص شعرية كبرى تستحق أن تولى ماهي جديرة به من واجبات الضيافة في اللغة العربية. أنا أعتبر نفسي دائمًا مترجمًا هاويًا، معظم ماترجمته، ترجمته لنفسي بدافع الشغف والمتعة، وبما يساير ويخدم تجربتي وخياراتي الجمالية وبما يخدم المصلحة الشعرية العامة أيضا.

لكنني في الوقت نفسه مع الترجمة الاحترافية، فردية أو جماعية، فقد مارستها في عمل أو عملين، كما أنني تعلمت الكثير من تجارب خاصة في ترجمة مختارات من شعري مع مترجمين محترفين في فرنسا وإسبانيا. ومما تعلمته في هذه التجارب أن القصائد قصائدي على الأقل التي فشلت في امتحان الترجمة لا تستحق أن تعيش في لغتها الأصلية.

ترجمتي لبيسوا لم تكن حدثا عابرا في حياتي ككاتب ومترجم، كانت لقاء مهمًا ومؤثرا. البعض من الأصدقاء رأوا في «تفرغي» لسنوات عديدة لترجمة أعمال الشاعر البرتغالي إضعافا لعملي الشعري في الصميم. لكنني خيبت التوقعات، فقد خرج شعري معافى وغانما من هذه التجربة. أما شعر بيسوا، فقد ظفر بحياة مشعة تليق به في لغتنا العربية. فهو كاتب استثنائي في الأدب المعاصر كرس حياته بعكس القاعدة السائدة لنفي ذاته وحجبها عن الأنظار خدمة للأثر الأدبي. ولأنه كان يعتبر الشهرة شأنا خاصا بالممثلات والمنتجات الصيدلية فقد زهد في نشر أعماله الأدبية في حياته، باستثناء كتيب شعري بعنوان «رسالة»، تاركا لنا صندوقا كبيرا يحوي عددا هائلا من الأعمال والنصوص والرسائل والمقالات والروايات والمسرحيات والقصص في مجالات ومواضيع متعددة متباينة تمضي من الفلسفة والنقد إلى اللاهوت والتنجيم إلى السياسة والاقتصاد والعلوم الهرمسية، ولعل ما ظهر منها شعرا ونثرا إلى اليوم في أكثر من 17 مجلدا يشمل حوالي 20 ألف صفحة من أثر يتكون حسب المختصين مما يناهز 28 ألف صفحة. ولعل حال بيسوا ينطبق عليه قول المتنبي:

أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جرَاها ويختصم

  • ثمة ترجمات كثيرة للشعر العالمي إلى اللغة العربية، لكنها لا ترقى كلها إلى المستوى المطلوب، إذ كثيرا ما جاءت ترجمات حرفية وغير وفية للنصوص الأصلية، الأمر الذي يفقدها قيمتها الشعرية الأصلية.
    ففي نظرك، وانطلاقا من تجربتك اللافتة في هذا المجال، ما هي طبيعة الأخطاء التي يقع فيها عادة مترجمو الشعر من لغات أخرى، وهل كل شعر قابل لأن يترجم من لغة إلى أخرى؟

- ينبغي الإقرار بأن ترجمة الشعر، وخاصة الأوربي منه في نماذجه العليا في حالتنا هذه، إلى اللغة العربية، ليست بالعمل سهل المضمون والنتائج، فهي تستلزم أحيانا ضروبا من المكابدات والمعاودات لاتقل عما تسلزمه الكتابة الشعرية ذاتها. لذلك كان الشعراء مؤهلين، نظريا على الأقل أكثر من غيرهم لهذه المهمة الجليلة، خاصة إذا سلمنا بأن من أبرز عيوب بعض الترجمات العربية للشعر العالمي عدم احتفالها بالإيقاع الشعري كما ينبغي (أتحدث هنا عن الإيقاع الأكبر للأثر والإيقاعات الصغرى حسب توصيف هنري ميشونيك) أو عدم اكتراثها بتجسيده في الترجمات المنجزة. والأمثلة عندي كثيرة من ترجمات شعرية متداولة للوركا وكفافيس وإليتس و بودلير ونيرودا.

  • كان الشاعر العربي سعدي يوسف قد بشر ذات مرة بأن مستقبل الشعر العربي يوجد في المغرب، كما سبق للشاعر العربي الراحل محمود درويش أن أثنى كثيرا على النقد الشعري في المغرب.
    ففي نظرك إلى أي حد كان هذان الشاعران الكبيران محقين في رأييهما، بالنظر لوضعية الشعر ونقد الشعر في المغرب، مقارنة بالوضع نفسه في أقطار عربية أخرى؟ وهل لايزال لهذه الأحكام ما يبررها اليوم؟

- وضعية الشعر ونقد الشعر معا متقدمة في المغرب، لأن المعرفة الشعرية والتجربة الشعرية معا تتقدمان على صعيد واحد، على الطريق نفسه. طريق السؤال - طريق الكتابة.

وهما معا نجحا في اختراق الحصن الأكاديمي منذ زمن بعيد نسبيا عندما اتخذ شعراء مغاربة حداثيون من المتن الشعري المغربي الحديث موضوعًا لأطروحاتهم الجامعية، ثم من بعد للمقررات الدراسية في كليات الآداب المغربية، بدءا من الرباط إلى مارتيل إلى الجديدة إلى بني ملال وغيرها. إن الانشغال المزدوج لكثير من الشعراء المغاربة البارزين من أجيال مختلفة بالإبداع الشعري والنقد الشعري معًا أغنى وعمق التجربة الشعرية المغربية إلى حدَ بعيد، خصوصا إذا علمنا أن بعضهم يمارس الترجمة الشعرية، كما أن أغلبهم على معرفة واسعة ودقيقة بالشعر الغربي في لغاته الأصلية (الفرنسية والإنجليزية والإسبانية بوجه خاص). لقد كان لمحمد بنيس دور رائد شديد التأثير في هذا السياق، وكذلك لبعض مجايليه، ولنقاد شعراء وشعراء نقاد من أجيال لاحقة حسبي أن أذكر من بينهم: خالد بلقاسم، نبيل منصر، أحمد هاشم الريسوني، عبد اللطيف الوراري.

أما الشعر المغربي، فقد عرف تحولات مذهلة منذ الثمانينيات إلى اليوم على مستوى الكتابة والتجريب والبحث. لم يعد المشرق مرجعًا وحيدًا. الحوار مع شعر العالم أصبح العنوان الأبرز اليوم للشعر المغربي الذي اتسع الاهتمام بترجمة أعمال شعرائه في لغات أوربية كبرى، كما حظي شعراؤه باحتفاءات وتكريمات متعددة في أوربا. وفي العالم العربي أيضا.. مستقبل الشعر العربي إذن يبدو «مشرقا» في المغرب - بعد الفن التشكيلي طبعا- لكن ليس في المغرب وحده، لأنني أعرف على الأقل أن وضعية الشعر ونقد الشعر في بلدان عريقة في «تقاليد» الشعر مثل مصر التي أعتبر نفسي على معرفة جيدة نسبيا بوضعها الشعري، أو لبنان، أو سورية مثلا غنية بالتجارب والمغامرات الجديدة التي يصنعها شعراء جدد ومتجددون.

  • سيصدر لك قريبا كتابان جديدان، قد يبدوان ربما مختلفين عن اهتماماتك الشعرية والفنية، بما أنهما يندرجان في مجال الهندسة المعمارية، ويقتربان بمتعة ودهشة من اهتمامات مهندسين معماريين مغربيين كبيرين، يتعلق الأمر بكتاب: «رشيد الأندلسي، شاعر العمارة»، وكتاب: «عبد الواحد المنتصر، المهندس الإنسان».
    فما سر هذا الانجذاب لديك نحو عالم الهندسة، ونحو هذين المهندسين تحديدا، علما بأن ثمة من يقول إن الشعر نفسه هندسة؟

- السرَ هو الصداقة التي تجمعني بكليهما منذ زمن بعيد، والتي أتاحت لي فرصة التعرف على عالم كنت أجهله تماما، يمت بصلة قوية إلى الفن والإبداع، عالم العمارة والعمران.

عبد الواحد ورشيد معماريان لامعان من «الجيل الثاني» من المعماريين المغاربة... هما معا من أبناء الدار البيضاء وبها يعيشان، ويمارسان عملهما، كلاهما درس في فرنسا: عبد الواحد في المدرسة العليا للعمارة في مدينة ليل، ورشيد في المدرسة الخاصة للهندسة المعمارية في باريس. مرجعاهما في المعمار ينتميان إلى أمريكا اللاتينية: فمعلم رشيد وأبوه الروحي يدعى إدوارد جاليانو (أستاذ في مدرسة باريس). كذلك الأستاذ عبد الواحد، وقدوته في العمارة هو المفكر والمعماري الكبير الكوبي الأصل: ريكاردو بورو (أستاذه في مدرسة ليل). وهما معا عملا في العديد من المشاريع المشتركة إما مع منهدسين آخرين كما في تجمع «روافد» الذي أسندت إليه منجزات كبرى: أبرزها مشروع تهيئة ضفة وادي أبي رقراق، الفاصل بين مدينتي الرباط وسلا، وإما في مشاريع ثنائية لاشك في أن أهمها على الإطلاق حتى اليوم: هو «المكتبة الوطنية للمملكة المغربية» التي كانت موضوع استطلاع ضاف وموفق من إنجازك استضافته مجلة العربي في أحد أعدادها السابقة.. لقد شكل فوز رشيد وعبد الواحد بالمشروع في مباراة دولية نظمتها وزارة الثقافة بإشراف الشاعر الوزير محمد الأشعري، وبإجماع أعضاء اللجنة من كبار المعماريين العالميين حدثا بارزا في تاريخ المعمار المغربي الحديث، حيث كانت المرة الأولى التي يتكلف فيها المهندس المعماري المغربي بإنجاز من هذا المستوى، في الوقت الذي نرى فيه المسئولين عن المشاريع المعمارية الكبيرة في العالم العربي لايمنحون ثقتهم في الغالب إلا للمعماريين الأجانب.. لقد أصبحت المكتبة الوطنية للمملكة المغربية اليوم بفضل إبداع رشيد وعبد الواحد معلمًا حضاريًا بارزًا في عاصمة المملكة، وتحولت في وقت وجيز إلى القلب النابض للنشاط الثقافي والعلمي على الصعيد الوطني.

الكتابان اللذان سيصدران قريبا هما ثمرة هذه الصداقة الوطيدة إذن. وهما يقدمان الأوجه المتعددة المهنية الفنية الثقافية والإنسانية لكل واحد منهما.

ويقدمان أيضا بعض أوجه الاختلاف بينهما في الممارسة والتصور. لقد سلكت في هندسة وبناء الكتابة مسلكين متباينين فرضتهما تجربتا الحوار والمجالسة والمعايشة لكل منهما. وأنا سعيد بما أنجزناه نحن الثلاثة في الكتابين معا، سعيد بما تعلمته منهما، واثق بقيمة الدروس التي سيقدمانها للقارئ العربي عند صدورهما قريبا.

 






الشاعر المهدي أخريف والناقد عبد الرحيم العلام في فضاء الأدب (عدسة: حسن الشركي)





 





 





 





المهدي أخريف (إلى اليسار) جالساً مع عبد الرحيم العلام في أصيلة