رسالة إلي
شيء يشبه الحُبّ
"هذه مجموعة من الرسائل كتبتها ولم يقدر لها أن تصل إلى أصحابها والحمد لله".
سيدتي
أنا واثق أنك أنت من دون الناس جميعاً لن يتاح لك أن تقرئي هذه الرسالة قط، ولن تلفت نظرك من قريب أو من بعيد، وليس ذلك لأن الشقة قد بعدت بينكما حتى لتوشك أن تكتمل عشرين عامًا بالتمام، ولكن لأسباب أخرى عديدة غير ذلك، وما أظنك تتصورين أنه رغم هذه العشرين عامًا مازال يذكرك كثيرًا (حتى لقد قال له بعض أصدقائه إنك ستظل تذكرها حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين كما قال أخوة يوسف لأبيهم يعقوب) رغم ما قد أصاب حياته في تلك الفترة الطويلة التي انتقلت به من الأربعينيات إلى الستينيات من تطور خطير ومن أحداث جسام.
وما أظن أنه يخطر على بالك أنه كلما ذهب إلى تلك المدينة البعيدة التي التقيتما فيها وتعارفتما وترعرعت علاقتكما وتوثقت، ما أظن أنه يخطر على بالك وهو يرى الناس غادين رائحين لا يلوون على شيء أنه ينتظر دائما أنه سيراك فجأة بين أمواج الناس التي تتدفق من حيث لا يحتسب ولا تحتسبين، ثم يذهب به خياله ليرسم صوراً عديدة - لا صورة واحدة - لذلك اللقاء المفاجئ بعد كل هذه الأعوام الطوال، وبعد كل ما نال حياتك من تغيير، وكل ما تعاقب على حياته من أطوار وأطوار، وعلى كثرة ما ذهب إلى تلك المدينة البعيدة الكبيرة الجميلة، وعلى كثرة ما "حملق" في وجوه الغادين والرائحين، وعلى كثرة ما تخيل هذا اللقاء فإنه لم يقدر له أن يراك قط أو أن يعرف شيئًا عنك، غير ما عرفه من سنين طويلة من أنك أصبحت زوجاً لطبيب وأما لأولاد.
وهو واثق أنك لا تذكرينه كما يذكرك وأنك لا تشعرين بشيء مما يشعر به نحوك؛ لأنه هو الذي غدر بك - في ظنك - وجرحك جرحًا كان غائرًا قبل أن تمحو السنون كل ما كان له من آثار.
وإذا كنت تذكرينه فأنت تعرفين جيدًا أن قلبه لا يستطيع أن يعيش بغير الحب، أو بغير ما يخيل له أنه ذاك، وقد خيل له بعدك وبعد سنين خلت منذ أن افترقتما فراقاً لا رجعة بعده أنه قد أحب، ولم يكن الأمر معه إلا أنه صادف من أحبته وأحب منها ذلك الشعور، ولكنه بيقين لم يعرف بعدك ما عرفه معك، ذلك الذي أصبح ذكرى بعيدة عسيرة المنال ككل الذكريات.
وقد سألته ذات مرة وهو يحدثني عنك: هل أنت الآن سعيد أنك عشت هذه التجربة الخصبة التي تذكرها فتتحدث عنها كثيرًا؟.
والعجيب أنه لم يرد بسرعة كما كنت أنتظر، والأعجب أنه لم يكن حاسماً في جوابه. قال لي: لست أدري، لقد فاجأتني بالسؤال، لقد عشت أياماً هي السعادة بعينها معها، ولكن هذا ليس هو سؤالك، إنك تسألني عن شعوري الآن بعد كل هذه السنين، هل أنا سعيد الآن لأنني عشت تلك التجربة، أليس هذا هو سؤالك؟ قلت له نعم هو ذاك.
وعجبت وأنا أسمعه يقول:
لست أدري. إن النفس البشرية غريبة عجيبة الأطوار، أحيانا أتصور أن ما أصاب حياتي من اضطراب لم يكن ليكون لولا أني خضت تلك التجربة وعشت تلك العلاقة وذقت طعماً للحياة لم أذق مثله قبلاً قط. لو أنني ما عرفتها ولا عشت تلك التجربة معها فمن يدري لعل حياتي كانت ستسير على ما كانت عليه: يسراً في يوم وعسرًا في يوم آخر كما هي حياة بني البشر أجمعين وقد يتخللها ما يتخلل حياة الكثرة من الرجال من الهنات الهينات التي لا تترك أثرًا في نفس أو في قلب، وقصاراها أن تريح الجسد حينًا أو ترهقه حينًا، فالأمر في مثل هذه الهنات الهينات سواء. أحيانًا أقول ذلك لنفسي وأتمنى لو أن ما كان ما كان.
ولكن صدقني إذا قلت لك إنني أفزع من نفسي عندما يلم بها ذلك الخاطر وأمسي كأنني أهنت تلك الذكرى الغالية، ويثور ذلك الجانب "الرومانسي" لكي يقرعني ولكي يصور لي أنني بغير تلك التجربة الخصبة الثرية ما كنت لأعرف طعم ذلك الشعور العميق النبيل الذي يسمونه الحب. ثم أنتكس ثانية وثالثة ورابعة لأقول وماذا جنيت في حياتك من وراء ذلك الحب؟، لقد كنت سعيدًا آنذاك يا صاحبي، ولكنني بعد انتهاء التجربة وبعد أن حدث ما حدث في حياتي من اضطراب عنيف لا أستطيع أن أقول لك صادقًا شعوري نحو تلك الفترة. هل أقول ليتها ما كانت أم أقول إنها أغلى ما في الحياة من ذكرى، وهل الحياة إلا مجموعة ذكريات؟.
سيدتي
هذا هو حال صاحبنا بعد هذه السنين الطوال فهل من سبيل إلى أن أعرف بعض ما في نفسك تجاهه إن كان مازال في نفسك تجاهه شيء قط؟.
أغلب الظن أنك ككل النساء قد فرغت من أمره تمامًا، وأن طيفه لم يعد يزورك في يقظة أو في منام وأن ذكرى ما كان من أمركما لا تلم بك لماما أو غير لمام، غاية الأمر أنك قد تمرين ببعض المعالم أو بعض الحدائق أو شيء من متاحف الفن، أو مكان من تلك المزارات التي كنتما تترددان عليها في تلك المدينة الجميلة الكبيرة البعيدة، أو حولها، غاية الأمر أنك قد تمرين بشيء من ذلك فتبتسمين ابتسامة لا تخلو من مرارة أو من سخرية أو من بعض شجن أو من خليط من ذلك كله ثم ما تلبثين أن تنصرفي عن ذلك كله في عجالة عاجلة فما ينبغي لك أن تنصرفي عن حاضرك المليء إلى ماض قد لا يحمل لك غير شعور بالندم وغير ذكرى بالغدر والهجر، ومالك ولهذا كله وحولك أولادك ومعك رفيق حياتك، والحياة تسير رخاء وادعة لا صخب فيها ولا فتور.
أنا غير واثق من شيء من ذلك كما قلت لك، ولكنها مجرد ظنون وخواطر لا تجد لها ما ترتكز عليه من واقع، لكن الذي لا شك عندي فيه أن صاحبنا رغم ما قد أصاب حياته من عنت واضطراب يرجع كثير منه إلى ما كان بينكما بطريق مباشر أو غير مباشر لا يتمنى لك غير الخير وغير السعادة وغير الحياة الدافئة الهنيئة.
ومع ذلك يا سيدتي دعيني أقل لك ما قلته له ذات مرة: ألا يجوز أن يكون افتراقكما على نحو ما افترقتما فيه خير كثير عن ذلك الفرض الآخر الذي كان يمكن فيه أن ترتبط حياتكما معًا، ثم تكتشفا بعد فوات الأوان أنكما ارتكبتما خطأ فادحًا، وأنكما حطمتما وهمًا جميلاً رائعًا، واخترتما واقعًا لم يصدق مع أحد قبلكما لكي يصدق معكما أو مع أحد بعدكما.
ألا ترين معي أن ذلك النظام الاجتماعي الذي يقال له الزواج - على ما فيه من ضرورة اجتماعية - هو في الأغلب الأعم نهاية غير سعيدة لتلك الخيالات والذكريات والمشاعر المليئة بالسعادة وتهاويم الحب والخيال.
أنا واثق أنك لست في حاجة إلى أن أواسيك أو أعزيك أو أسري عنك بمثل هذا الكلام، فأنت بعيدة كل البعد عن أن تكوني في حاجة إلى شيء من ذلك كله، وأنا واثق أيضًا أن صاحبنا - رغم اختلاف ظروفه عن ظروفك - ليس في حاجة إلى شيء من ذلك كله أيضًا، وأن ما كان قد أصبح جزءًا من ماض بعيد يتحرك هنا أو هناك عندما يصادف أحدكما فترة من فراغ أو هبوط عاطفي، وأنه لولا ذهابه إلى تلك المدينة البعيدة الكبيرة بين الحين والحين، ما كان قد جرى بيننا ذلك الحديث، وما كان قد أتيح لهذه الرسالة أن تكتب قط، تلك الرسالة التي قد يقرؤها كثيرون كثيرون ولكنك أنت دون الناس جميعا كما قلت في بداية هذه الرسالة لن تقرئي منها حرفًا واحدًا وأوشك أن أقول إنك لن تسمعي عنها شيئًا قط. وهذه هي الدنيا.
سيدتي
أفاء الله عليك من السعادة والرضا بقدر مَا تستحقين ، وأفاء الله على صاحبنا من الهدوء وراحة البال بعض ما يستحق. وأنا واثق ثقة لا حدود لها أنه يستحق من ذلك الشيء الكثير.
والله يحفظك ويرعاك.