مفاعل نووي انشطاري إلى القمر نحو نهاية هذا العقد!

في إطار المشروع الجديد لاستيطان القمر، مشروع «أرتميس»، الذي بدأت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا بالإعداد الفعلي له عام 2017، لا شك أن الأولوية القصوى هي تأمين الطاقة الكافية والمستدامة لهذه القاعدة بغية تدفئتها لتجنب التجلّد أثناء الليل القمري الطويل الذي يستمر 14.5 يومًا أرضيًا، وتنتفي فيه بالتالي الطاقة الشمسية، بينما تنخفض الحرارة إلى حوالي 130 درجة مئوية تحت الصفر... وكذلك تلزم طاقة كافية لتشغيل كل أجهزة الاستكشاف والاتصال والتنقل والحفر، عدا متطلبات الفريق البشري من الرواد الذين سوف يتناوبون على الإقامة في تلك القواعد، كما يتناوبون اليوم على الإقامة في المحطة الفضائية الدولية.
الشمس كانت منذ البدء المصدر الأساسي للطاقة في كل الأقمار الصناعية والمسابير والمركبات التي أُطلقت إلى القمر والمريخ وبقية الفضاء البعيد. لكن ارتباط هذه الطاقة بتموضع المركبة تجاه الشمس تطلّب دائمًا تأمين مصدر إضافي يسمح بتعويض النقص في حالة غياب الطاقة الشمسية كليًا أو عدم كفايتها لأيامٍ عديدة متتالية.
الطاقة النووية في الفضاء حلمٌ قديم وإنجازات متدرّجة!
التكنولوجيا النووية كانت دائمًا حاضرة في أذهان صنّاع القرار في الدولتين العملاقتين، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، منذ ستينيات القرن الماضي، وتسابقوا لتطوير إنتاج طاقة نووية إضافة إلى الشمس على متن مركباتهم ومسابيرهم الفضائية وأقمارهم الصناعية، ما يؤهّلهم الذهاب إلى أماكن أبعد ولفترة أطول والقيام بعمليات علمية أكثر تعقيدًا.
وقد خطّط الباحثون، منذ ذلك الحين، لتطوير استخدام الطاقة النووية في الفضاء ضمن ثلاثة ميادين: أولًا بطاريات النظائر النووية المشعة لتوليد الطاقة بشكل مستدام لسنوات أو عقود عديدة. ثانيًا دفع الصواريخ الفضائية بقوة الانشطار النووي. وثالثًا تطوير مفاعلات انشطارية نووية صغيرة الحجم وقابلة للحمل على متن المركبات الفضائية في رحلاتها إلى القمر وما بعده.
في البداية، اعتُمدت أولًا البطاريات الكيميائية وبطاريات الليثيوم-آيون، ثم البطاريات الذرية التي تستخدم موادَّ مشعة لتوليد الكهرباء. فالنظائر المشعة نوويًا تطلق تلقائيًا أثناء تحللها الطبيعي جسيمات مشحونة كهربائيًا، كأشعة «ألفا» و«بيتا»، التي يمكن استثمارها في إنتاج الكهرباء باستخدام الحرارة المرافقة عبر مولدات ترموديناميكية (حرارية - حركية)، كما في محولات «ستيرلنغ». في مثل هذا المحرك هناك مقصورتان، إحداهما حارة متصلة بمصدر إنتاج الحرارة والأخرى باردة. وفرق الحرارة بين المقصورتين يتم تحويله إلى طاقة حركية أولا ثم كهربائية عبر حركة عامل نقل الحرارة، غاز أو بخار أو سائل، الذي يتمدد بسرعة من الجانب الساخن نحو الجانب البارد، وعندما يبرد فإنه يتقلص قبل أن يعاد إدخاله إلى الجانب الساخن.
أول استخدام للتكنولوجيا النووية في الفضاء بدأ في الأقمار الصناعية باستخدام طاقة النظير المشع «بلوتونيوم-832» (Pu 238) في المولدات الكهروحرارية الإشعاعية (Radioactive Thermal Generator - RTG) بغية توليد الحرارة والكهرباء اللازمتين لتدفئة وتشغيل مختلف الأجهزة والمجسّات الإلكترونية، حيث إن تعرضها لصقيع الفضاء قد يؤثر على وظائفها الحساسة. والبلوتونيوم 238- هو نظير اصطناعي مشع، ونصف عمره 87 سنة، الأمر الذي يعطيه إمكانية الاستخدام كمصدر للطاقة لسنين عديدة.
بهذه التقنية (RTG) أمكن إنتاج الحرارة لتدفئة المركبات، إضافة إلى طاقة كهربائية متواضعة لم تتخطَّ الكيلو-واط الواحد لا أكثر. وبمثل هذه الطاقة تم تزويد أكثر من 25 مهمة لوكالة ناسا، بما فيها بعثات «أبولو» إلى القمر، ومهمات «فوياجر» في الفضاء السحيق التي تزال ترسل بياناتها منذ أكثر من خمسين سنة بفضل طاقة اضمحلال البلوتونيوم. أما في بعثات «كيوريوزيتي»، (Curiosity 2011) ثم «برسفيرانس» (Perseverance 2020) الحديثة إلى المريخ، فقد اعتمدت ناسا على نظام طاقة هجين مدمج استُخدمت فيه إلى جانب ألواح الطاقة الشمسية بطاريتان ليثيوم-آيون، وما سمّي بـ«مولد كهربائي إشعاعي حراري متعدد المهام» MMRTG) (Multi Mission Radio-Thermal Generator يعمل بالبلوتونيوم238- وينتج كهرباء بقوة 110 واط فقط، إضافة إلى حرارة لازمة للحماية أثناء الليالي المتجمدة على سطح المريخ. أما الطائرة الهليكوبتر الصغيرة «إنجنويتي» (Ingenuity) التابعة لمهمة «برسفيرانس» فقد زُوّدت بالإضافة إلى بطارياتها الصغيرة بلوحة شمسية صغيرة (16.5سم × 42.5 سم) لإعادة شحن البطاريات متى كانت الشمس متوفّرة.
لكن قوة البطاريات في النظام الإشعاعي كانت دائمًا محدودة ولا تتعدّى 1000 واط في أحسن الأحوال. لذلك، توجهت الأفكار منذ عقود إلى البحث عن تصنيع مفاعلات نووية انشطارية صغيرة الحجم وقليلة الوزن، يمكن حملها على متن المركبات الفضائية، وإيجاد طريقة آمنة لحماية الرواد المحتملين من خطر الإشعاع الذي لا بد أن يترافق مع عمل تلك المفاعلات.
منذ سبعينيات القرن المنصرم، استخدم السوفييت في مركباتهم «رورسات» (RORSAT) مفاعلات انشطارية نووية منخفضة الإنتاجية كمفاعلات «روماشكا» (Romashka Reactor) التي استخدمت أولًا اليورانيوم المخصّب بنسبة 90 في المئة، وكانت تعمل بدرجات حرارة عالية وأخطار كبيرة، ثم صنعوا مفاعلات «توباز» (TOPAZ) التي كانت تنتج حوالي 5 كيلو-واط من الكهرباء الآمنة لتشغيل أنظمة مركباتهم الفضائية. وقد أرسل السوفييت (ثم روسيا) حوالي 40 مفاعلًا نوويًا من طراز روماشكا وتوباز، ووصل إنتاج المفاعل منها إلى 10 كيلو-واط من الكهرباء.
هل ستنجح ناسا بإيصال مفاعل نووي انشطاري إلى القمر؟
المفاعلات النووية الانشطارية على الأرض بنىً عملاقة هائلة الوزن والحجم والكلفة، وينبغي أن تُزوّد بشكل مستمر بكميات كبيرة من المياه بغية الحفاظ على أمن المفاعل وقطاف طاقته الحرارية واستخدام بخار الماء الناتج لإدارة التوربينات الكهربائية. والمفاعلات المعروفة يزوّد واحدها بحوالي 130 طنًّا من اليورانيوم235- المخصّب لينتج حوالي 1000 ميغا-واط من الكهرباء، ولمدة لا تزيد عن سنتين في أحسن حال.
لذلك، في البدء كان التفكير في الانشطار النووي في الفضاء ضربًا من الخيال، فلإرسال مفاعل نووي انشطاري إلى الفضاء ينبغي أن يكون قابلاً للتوضيب في مقصورة صغيرة في المركبة الفضائية، وألا يتعدى وزنه الإجمالي بضعة أطنان قليلة بما فيها درع الحماية من الإشعاع ومنظومة التبريد ومنظومة إنتاج الكهرباء من المفاعل.
لكن الهم الأساس بالحصول على مصدر طاقة آمنة ونظيفة وكافية على القمر، دفع العلماء إلى تركيز جهودهم على مسألة الطاقة الانشطارية للقاعدة القمرية، حيث يمثّل الليل القمري تحديًا استثنائيًا.
باتجاه هذا الهدف أخذت وكالة ناسا تضع خططًا للحصول على مفاعلات نووية انشطارية من شأنها أن تعمل بطاقة كاملة لمدة عقد من الزمن على الأقل، دون تدخل بشري. لذلك أنشأت، عام 2006، مشروع مفاعل انشطاري نووي صغير الحجم، وبدأ فريق من باحثي وكالة ناسا بالتعاون مع وزارة الطاقة الأميركية، بتقديم تصوّر لمفاعل انشطاري سطحي خفيف الوزن (Fission Surface Power FSP). وقد أدار هذا المشروع مركز «جلِنّ» (Glenn) للأبحاث التابع لناسا.
المفاعل الانشطاري السطحي الأول سُمّي «كيلوباور» (Kilopower) وبدأ بتجارب محدودة لإنتاج طاقة لا تزيد عن 10 كيلو-واط. وامتد هذا المشروع لثلاث سنوات بين 2015 و 2017، وانتهى هذا المشروع رسميًا عام 2018، وكان بمثابة نقطة تحول في برنامج ناسا النووي، لتنتقل بعده إلى مرحلة أعلى من استثمار الانشطار النووي في الفضاء.
أجريت تجارب على تصميمين آخرين لتحويل الطاقة الحرارية إلى كهرباء: محرك «برايتون» المبرد بالغاز، والطريقة الكهروحرارية من المعدن السائل. ومحرك برايتون (على اسم المهندس الاميركي جورج برايتون (1830-1892)، يعتمد دورة ديناميكية حرارية تعمل بحركة أحد الغازات بين مكبس ضاغط ومقصورة تمدد، كما في حالة عمل البراد. أما الطريقة الكهروحرارية فتحول الفرق الحراري بين وسطين إلى تيار كهربائي أحادي الاتجاه (DC) باستخدام معدنين مختلفين في الموصلية الكهربائية.
وقد دلت التجارب أن نظام محرك ستيرلنغ العامل بالمعدن السائل يوفر خيارًا ذا كتلة أقل (حوالي 5300 كغم)، وبحساب كتلة التدريع على متن المركبة الفضائية تتضاعف تقريبًا كتلة النظام المعتمد. وأثبتت التجارب فائدة نقل الحرارة في المعادن السائلة في كل من تطبيقات الضغط المنخفض ودرجات الحرارة المرتفعة.
بدأ المشروع الجديد في مرحلته الأولية عام 2022، وتعاقدت ناسا مع ثلاث شركات كبرى لتقديم التصاميم الأولية خلال المرحلة الأولى التي امتدت لـ 12 شهرًا. وقد حددت «ناسا» مواصفات المفاعل المرجو تصميمه: أن يقل وزنه عن ستة أطنان، وينتج 40 كيلو-واط من الطاقة تقريبًا. وتتوقع الوكالة استلام المفاعل ونقله إلى القمر في أوائل ثلاثينيات القرن الحالي.
وقد رسا الاختيار على قلب مفاعل من كتلة صلبة من اليورانيوم المخصّب والموليبدينوم مع أنابيب تبريد مصنوعة من الألومينيوم، حيث يستخدم الصوديوم السائل لنقل الحرارة إلى نظام تحويل الطاقة، بسبب انخفاض نسبة امتصاصه للنيوترونات التي تؤمن التفاعل المتسلسل لليورانيوم.
دفع الصواريخ بالانشطار النووي!
مسألة دفع الصواريخ الفضائية بالانشطار النووي كانت منذ بدأ السباق إلى الفضاء هاجسًا لدى السوفييت والأمريكيين. لكن الدفع النووي بقي محدودًا للغاية مقارنة باستخدام الطاقة النووية لإنتاج الكهرباء في المركبات الفضائية والأقمار الصناعية.
والدفع النووي يستمد قوته من عملية الانشطار النووي بدلًا من احتراق الوقود الكيميائي التقليدي، ليوفر كثافة طاقة عالية جدًا ومستدامة لسنوات، ويفتح الباب أمام البعثات المأهولة المأمولة إلى المريخ وما بعده... ويتمحور تفكير الخبراء النوويّين حاليًا حول نوعين من أنظمة الدفع: إما الدفع النووي الحراري أو الدفع النووي الكهربائي.
نظام الدفع النووي الحراري يعمل عن طريق نقل الحرارة من المفاعل الانشطاري إلى الوقود السائل الدافع، بحيث يتبخر السائل بقوة ويخرج من فوهة الصاروخ الدافعة.
أما نظام الدفع الكهربائي النووي فيستخدم قسمًا من طاقته الحرارية لتوليد الكهرباء بغية شحن الكتلة الغازية الدافعة وتحويلها إلى آيونات، لتخرج من الصاروخ بالقوة الكهرومغناطيسية وتدفعه بقوة أكبر إلى الأمام.
التجارب الأمريكية الأولى للدفع النووي كانت في عام 1955 حين طلب من الجيش بالشراكة مع هيئة الطاقة الذرية تطوير مفاعل نووي انشطاري للصواريخ في إطار مشروع «روفر»، لكن الاختبارات لم تؤدِّ إلى النتيجة المطلوبة. المرحلة التالية كانت مشروع محرك «نيرفا» (NERVA) أو «المحرك النووي للتطبيق على المركبات الصاروخية»، الذي نجح على الأرض في عشرات التجارب عام 1969 لكنه لم يُختبر في أي عملية إطلاق فعلية، وألغي البرنامج عام 1973.
أما في روسيا، فقد كشف انفجار رهيب في شمال غرب روسيا عام 2018 عن فشل تجربة صاروخ بالدفع النووي، عرف لاحقًا باسم «بوريفيستنيك» Burevestnik ولم تعرف التفاصيل حول المحرك النووي للصاروخ المستخدم، نظرا للطبيعة السرية التي تحيط بالتكنولوجيا العسكرية الروسية. كل ما عرف، إثر ذلك الحدث، ما قاله الرئيس فلاديمير بوتين في مارس 2018 خلال أحد خطاباته أن بوريفيستنيك هو صاروخ كروز يعمل بالدفع النووي.
حبيبات نووية لتوفير الطاقة على القمر!
مبادرات نووية أخرى أخذت تظهر هنا وهناك على هامش الجهود المركزية لوكالة ناسا. فقد بدأت تتسرب أخبار عن تطوير «كريات نووية» لا يتجاوز مقاسها الميلليمتر الواحد، تتكون من اليورانيوم والكربون والأكسجين، وتحيط بها قشرة صلبة من السيراميك والتيتانيوم، يمكنها تزويد قاعدة أرتميس القمرية بالطاقة الكافية، بحسب ما جاء على موقع مجلة «العلوم الشعبية» (Popular Science) الأمريكية. وبحسب موقع «تك-أنرابد» (TechUnwrapped) سوف تعمل الخلايا النووية الصغيرة على تشغيل مفاعل صغير على شكل زهرة صممته شركة رولزرويس. وبحسب نفس الموقع سيتم تسليم كريات الوقود النووي إلى وكالة ناسا قريبًا، وستختبر الوكالة فعاليتها من خلال محاكاة قوة إقلاع الصاروخ الفضائي الاختباري.
من جهة أخرى، تأسّست في إنجلترا عام 2011 شركة «بولسار فيوجن» (Pulsar Fusion) التي تعمل على بناء ما تقول إنه محرك صاروخي يعمل بالاندماج النووي، ولديه القدرة على السفر بسرعة تصل إلى 805 ألف كلم في الساعة والوصول إلى المريخ في 30 يومًا فقط! وتعتزم الشركة القيام بإطلاق تجريبي لهذا المحرك عام 2027، كما جاء في موقع «بلايلود» (Playload) في 17 أغسطس عام 2023.
إذًا، لم تعد الأمور في إطار الحلم والتمنيات، فقد وصلت التجارب إلى مستوى الإنجازات الأولية، إن على مستوى الدفع النووي أو على مستوى المفاعلات الانشطارية القابلة للنقل إلى القمر حيث ستحتاج قاعدة أرتميس إلى حوالي 40 كيلو-واط من الطاقة بغية تدفئة القاعدة وتشغيل أجهزتها. وسوف يكون نجاح مشروع أرتميس القمري، بطاقته النووية الانشطارية، مقدمة مشجعة للانطلاق بالمركبات المأهولة إلى الكوكب الأحمر. والغد لناظره قريب ■