القدس عاصمة فلسطين السياسية والروحية

القدس عاصمة فلسطين السياسية والروحية

شهدت مدينة القدس في تاريخها الحديث والمعاصر مجموعة كبيرة من التحولات والتبدلات والتطورات، المادية منها، والمعنوية، التي أسهمت في رسم وتكوين منجزاتها الثقافية والنهوض برسالتها الحضارية السامية بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية، وما تزال تواصل مسيرتها الريادية إلى الأمام، وتدخل الألفية الثالثة بإرادة قوية وعزيمة لا تلين، وبتحد صارخ للغطرسة الصهيونية.

 

بدأت تلك التحولات بأبعادها الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، وتزامن انطلاقها مع قدوم الحملة المصرية إلى بلاد الشام عام 1831م والتي شنها والي مصر المتمرد على السلطة العثمانية «محمد علي باشا» (1769 - 1849)، وذلك بهدف نزعها من يد الدولة العثمانية وإلحاقها بولايته في مصر، لتحقيق أهدافه وطموحاته الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والسياسية وفي مقدمتها بناء دولة قوية على أنقاض الدولة العثمانية، وهو ما وضعه في مواجهة مفتوحة وغير متوازنة مع القوى الاستعمارية الكبرى التي رأت تطلعاته عملًا يحول دون تحقيق أطماعها الاستعمارية في هذه المنطقة الحيوية من العالم.

وفي كتابها «القدس عاصمة فلسطين السياسية والروحية 1908-1948/صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر-الأردن» استعرضت الباحثة الفلسطينية نائلة الوعري مسيرة مدينة القدس وما امتلكته من مقومات: حضارية، وسياسية، ودينية، تميزت بها على بقية المدن المنتشرة في المناطق الوسطى والجنوبية من بلاد الشام، وأسهمت بارتقائها إلى عاصمة سياسية وروحية في التاريخ الحديث والمعاصر في تسعة فصول، وثبتت بأهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة، بالإضافة إلى مجموعة من الوثائق والصور والأشكال والفهارس، وقائمة بالمصادر والمراجع التي اعتمدت الدراسة عليها في صياغة محتوياتها ومفردتها، بل وتجاوزها في بعض الأحيان إلى فترات متقدمة على عام 1908م، وذلك بغية تحليل وتفسير البنى الأساسية التي أسهمت في رفع مكانتها إلى مستوى العاصمة السياسية والروحية خلال الفترة التي نعالجها، وما تمتلكه من تراث يعود في محصلته إلى أعماق التاريخ، وفي مقدمته الحاضنة الجغرافية والتحصينات المادية والمعنوية وغيرها من مقومات.

 

التشكيلات الإدارية وأثرها

الملامح الأولى لتقدم مدينة القدس نحو مركز الصدارة السياسية في فلسطين بدأت تسير جنبًا إلى جنب، مع مكانتها الروحية التي لم تنقطع منذ أقدم العصور، وأسهم في دفعها لذلك مجموعة من العوامل بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية، والمتمثلة بسياسة التنظيمات العثمانية وما حتمته من تشكيلات إدارية، عملت على نقل المهام الإدارية التي اضطلعت بها مدينة عكا عاصمة ولاية صيدا بعد أن فشلت بالتصدي للحملة المصرية عامي 1831/1832م، ودخول مجالات التحديث المختلفة وفي مقدمتها الأسلحة الميدانية، والتي دفعت الدولة للقيام بإجراء تغييرات جوهرية في التشكيلات الإدارية فأخذت بعين الاعتبار تراجع دور تحصينات عكا التقليدية، وعدم مقدرتها على فرض هيبة الدولة وسيادتها في الولاية، لذلك سعت الإدارة العثمانية لسد الفراغ الذي خلفته عكا ومواجهة (الهجمة الاستعمارية) التي استهدفت مدينة القدس بفصلها عن ولاية سورية وإلحاقها بالعاصمة اسطنبول عام 1874م، ووضعها تحت إشراف الباب العالي ووزارة الداخلية مباشرة، وإغداق الأعطيات المادية والمعنوية عليها، وتطوير قطاع خدماتها المقدمة من مجلسها البلدي الذي تشكل بعد مجلس اسطنبول عام 1863م، وذلك بهدف رفع مستوى خدماتها وإظهارها بحلة جديدة تليق بها كعاصمة إدارية وسياسية وروحية في فلسطين.

 في المقابل تصاعدت قوة الدول الاستعمارية، وتضخمت ثرواتها مع انطلاق عجلة الثورة الصناعية، وتنامت تطلعاتها في السيطرة والهيمنة على المنطقة وانتزاع مدينة القدس من يد الدولة العثمانية، وحشدت الدول العظمى قواها لتسهيل احتلال المدينة، وهو ما تحقق على يد الجيش البريطاني خلال فعاليات الحرب العالمية الأولى، وبعد هزيمة الجيش العثماني وانسحابه من المدينة بتاريخ 9/12/1917م وفي نفس التاريخ دخلت الجيوش البريطانية القدس وشكلت قيادة عسكرية بقيادة الجنرال رونالد ستورز حتى تاريخ 11/9/1922م عندما أقرت عصبة الأمم الانتداب، وحظي ذلك باعتراف الدول العظمى المنتصرة بالحرب العالمية الأولى 1914 - 1918م وكانت عصبة الأمم قد تشكلت كمنظمة أممية عام 1919م، واتخذت من مدينة جنيف مقرًا لها وكانت غايتها حفظ الأمن والسلم الدوليين في إطار التسويات السياسية للحرب العالمية عام 1919م، وتم إلحاق منطقة شرق الأردن وإمارتها الناشئة فيها على يد الأمير عبد الله بن الحسين عام 1920م ضمن مسؤولية القدس الإدارية، إلى أن ألغى نظام الانتداب عنها ونالت استقلالها عام 1946م، وأصبحت تعرف باسم المملكة الأردنية الهاشمية.

 

المقومات الحضارية الاستثنائية

وقد ركزت الوعري في كتابها على البحث في المقومات الحضارية التي استندت إليها مدينة القدس وأهلتها لاحتلال مكانة الصدارة بين المدن الفلسطينية وتوليها دفة القيادة كمركز إداري متقدم وعاصمة سياسية ما بين 1908 - 1948م، وفي مجملها تعكس حجم التحول السياسي الذي انتاب مسيرتها وباتت تجمع في تكوينها ما بين المركزية الإدارية والسياسية والرمزية والروحية، وانطلقت في حدودها الزمنية من عودة الحياة الدستورية في الدولة العثمانية المجمدة منذ عام 1876م من جانب السلطان عبدالحميد الثاني وإجراء أول انتخابات برلمانية عام 1908م، وجرت احتفالات كبيرة في مدينة القدس بمناسبة عودة العمل بالدستور، وتم انتخاب شخصيات مقدسية لتولي تمثيل مدينة القدس والمناطق التابعة لها في مجلس المبعوثان في العاصمة اسطنبول. وبانتهاء فترة الحكم العثماني ورحيله عن مدينة القدس بتاريخ 9/12/1917م تابعت الدراسة مسيرة القدس إبان الاحتلال البريطاني ودخول الجنرال اللنبي المدينة بتاريخ 11/12/1917م محتلًا ومعلنًا انتهاء الحروب الصليبية.

وتوقفت الدراسة عند رحيل الانتداب البريطاني عنها بتاريخ 14/5/1948م، حيث أنزل العلم البريطاني ورفع علم الأمم المتحدة على قصر المندوب السامي في القدس، ودارت أول حروب الفلسطينيين والعرب مع العصابات الصهيونية «حرب 1948م»، «النكبة»، وسيطرت هذه العصابات على الشطر الغربي من القدس 1948م.

استعرض الفصل الأول المقدرات الجغرافية التي انفردت بها مدينة القدس عن غيرها من المدن الشامية الجنوبية، والتي تم إدراجها تحت عنوان حاضنتها الجغرافية، وتعتبر حجر الزاوية الذي يعتد به عند تأسيس المدن والعواصم، ويشترط فيها جمال طبيعتها وسهولة ويسر اتصالها وتواصلها مع المقاطعات التابعة لها والدفاع عنها، إذا ما تعرضت لخطر داهم لكونها مركز القيادة والتحكم والهيئات الإدارية الرسمية والمدنية والعسكرية، علاوة على المؤسسات الأهلية الكبرى التي تستظل بظلها، وتم التركيز فيه على مسألة التسمية، والموقع، والموضع، والحدود المادية والمعنوية التي أحيطت بها، والتضاريس، وفعالياتها الميدانية.

وفي الفصل الثاني تم تحليل ومناقشة ما تمتلكه مدينة القدس من تحصينات معنوية مستمدة من قيمها الروحية السامية، وهو ما حتم على أهلها وزوارها الخشوع والهدوء والسكينة، وتحصيناتها المادية العسكرية منها والمدنية، وما تشتمل عليه من الأسوار، والأبراج، والخنادق، والأنفاق، والقواعد العسكرية، والمراكز الأمنية، وهيئة العمران، ومستودعات التموين، والمواقع المأهولة المنتشرة في محيطها، وعمقها الإقليمي الموغل في الامتداد الجغرافي، والالتفاف السكاني، لتنسج لها درعًا قوية استخدمت في الدفاع عنها في مواجهة التعديات التي تعرضت لها عند بواباتها، وفي أزقتها، وعلى مشارفها، وفي المواقع المأهولة الفلسطينية من أم الرشراش جنوبًا إلى الخالصة شمالاً، وامتدادها إلى العمق العربي والإسلامي، بل ودعت أحرار العالم في الدول الأجنبية إلى مناصرتها ومؤازرتها فيما تتعرض له من اقتحامات ومواجهات في ساحات المسجد الأقصى وعند بواباتها على أيدي سلطات الاحتلال في الوقت الحاضر.

وجاء الفصل الثالث لوصف وتحليل النسيج العمراني لعاصمة فلسطين وهي الخصوصية المهمة التي تتميز بها الحواضر والعواصم عن غيرها من المدن، ولا نظن أن هناك مدينة فلسطينية قد تقدمت في نشاطها العمراني على مدينة القدس العاصمة، فظلت رائدة المدن الفلسطينية في هذا المسار، وقامت على إدارتها بلدية القدس التي تأسست عام 1863م، وتعد ثاني مجلس بلدي يشكل في الإمبراطورية العثمانية بعد اسطنبول مباشرة.

واقترن الفصل الرابع بدراسة وتحليل النسيج السكاني، وتم التركيز فيه على حركة النمو السكاني التي انتابت القدس العاصمة، نتيجة لسيادة الأمن والاستقرار وارتفاع معدلات الولادة وانخفاض الوفيات والهجرة الوافدة، بسبب المجاورة في رحاب الأماكن الدينية المقدسة، وحركة التغلغل الاستعمارية، والمقاومة الشعبية للاستعمار، واتساع سوق العمل والخدمات الجاذبة للهجرة الوافدة من المواقع المختلفة.

وتتبع الفصل الخامس تشكيلات مدينة القدس الإدارية العثمانية، والبريطانية، والأردنية، التي مارست السيادة عليها، ودورها في دفع المكانة الريادية للمدينة إلى الأمام.

وفي الفصل السادس تم تحليل البنية الإدارية التي مارستها السيادة في مدينة القدس ومستوى الإدارة التي حكمت المدينة، وأسهمت إلى حد كبير في إنفاذ الأوامر والتعليمات العليا الصادرة بشأن اتخاذ مدينة القدس عاصمة سياسية، وكانت بمنزلة حلقة الوصل بين الحكومة المركزية في اسطنبول ولندن وعمان من جهة، والشعب الفلسطيني والمستعمرات الصهيونية من جهة أخرى، وتمثيل الحكومة المحلية التي قامت على فرض السيادة على المدينة وإنفاذ الأوامر والتعليمات الصادرة عنها. ولم يغفل هذا الفصل الإدارة الفلسطينية المحلية في العهد العثماني ودورها في دفع المدينة نحو الريادة والازدهار، والمجلس الإسلامي الأعلى برئاسة الحاج أمين الحسيني والذي تحول من مؤسسة تعنى بالشؤون الشرعية الخاصة بالمحاكم الشرعية والأماكن الدينية المقدسة، إلى حكومة وطنية - إن جاز لنا التعبير - تقود الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونيـة.

وخصص الفصل السابع لعرض وتحليل ومناقشة الموقف المحلي وموقف الشعب الفلسطيني في دياره المدنية والريفية والبدوية والمهجر، ودوره في دفع مدينة القدس لاحتلال مكانة الريادة في قائمة المدن الفلسطينية، بل والحفاظ عليها بصفتها جزءا لا يتجزأ من العقيدة ورسالتها السامية ورمزيتها الوطنية والسياسية في مواجهة القوى الاستعمارية الطامعة، وغالبًا ما جاء على هيئة استفتاء شعبي عبر عنه في الوطن والمهجر بالعديد من الوسائل والطرق، وفي مقدمتها النزعة الفطرية، وشد الرحال والسفر، والأعطيات والتبرعات العينية والنقدية، والانتخابات، والحشد، والمواجهة.

وتناول الفصل الثامن مسألة الإجماع «العربي والإسلامي» ودوره لتقدم القدس نحو الريادة والمحافظة على مستوياتها، وتم التركيز فيه على مجموعة من الطرق والوسائل التي عبر فيها العرب والمسلمون على الصعيدين الرسمى والشعبي عن تعلقهم بمدينة القدس، فشدوا إليها الرحال وتضامنوا معها وأغدقوا عليها الأوقاف المنقولة وغير المنقولة والتبرعات والهبات العينية والنقدية، وفتحت بعض حكومات الدول العربية والإسلامية قنصلياتها، وأرسلت بقناصلها المعتمدين لتمثيلها دبلوماسيًا لدى الحكومة العثمانية والانتداب البريطاني من بعدها، وتمثل ذلك بالقنصلية المصرية والعراقية والسعودية والسورية واللبنانية والإيرانية والتركية والمكتب التجاري الهندي، ولم يتوان العرب والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها عن نصرتها والدفاع عنها ماديًا ومعنويًا، والاستجابة لنداءات استغاثتها كلما اقتضى الأمر.

أما الفصل التاسع والأخير فناقش الموقف الدولي وعلاقته بالدولة العثمانية وحكومة الانتداب البريطاني والمجلس الإسلامي الأعلى، ودورهم في اعتماد القدس كعاصمة سياسية وروحية في فلسطين، وإصرار الدول العظمى على إيجاد موطئ قدم لها في المدينة العاصمة، وهو ما أعطاها بعدًا عالميًا في المحافل الدولية، واستهدفت المدينة والمناطق التابعة لها عبر فتح الامتيازات، وشراء الأراضى، وإقامة المزارع والمقرات التجارية والقنصلية والمدارس والمشافي التبشيرية والبيوت والمساكن والمستوطنات الصهيونية، وتدفق سيل الهجرة والحجاج والزوار والبعثات العلمية والأثرية والدوائر الاستخبارية والتمثيل الدبلوماسي بفتح القنصليات ووكالاتها، وإن اعتراف المنظمات الدولية كالصليب والأحمر وعصبة الأمم ومنظمة الأمم المتحدة ولجان التحقيق الدولية بما شهدته مدينة القدس من تقدم وريادة حفزها على فتح مقرات لها في أراضيها، وباحتدام المقاومة الشعبية في مواجهة القوى الاستعمارية على أراضي مدينة القدس وانتشار أصدائها في كافة أنحاء العالم تضامنت مجموعات غير قليلة من أحرار العالم مع قضاياها العادلة ■