لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

في عالَمٍ سريع، تتسارَعُ فيه وتيرةُ الأحداث، وتُطوى فيه الأيامُ بما تحمل من تفاصيلِ حياتنا، كم قصةً تستحِقُّ التدوينَ تتسرَّبُ من بين أيدينا؟!

 نحن نعيشُ في عصرٍ كلُّ ساعةٍ فيه تمتلئ بما هو مُهمٌّ أو هامشي، بما يستحِقُّ التوقُّفَ عنده وما نسعى لنسيانِه ومَحوِه من ذاكرتنا. في عالمٍ السطوةُ فيه للعابِر واللقطةِ المصوَّرةِ وتسيد المِنَّصاتِ الافتراضيةِ، هل يَلزمُنا التقاطُ أنفاسِنا وتدوينُ ملحوظاتِنا أو بمعنىً أدقَّ لحظاتِنا الأكثرِ عُمقًا وتأثيرًا كي لا تتسرَّبَ منا في مَجرىً آخر؟

القصةُ فنُّ التقاطِ الفكرةِ وصياغتِها في قالَبٍ أدبيٍّ وتقديمِها للقارئ كشهادةٍ منا على حدَث لم يكن اعتياديًا في تأثيره... لاتزال محتفظةً برونقها، ومنها تتمدَّد الحكاياتُ التي تجمعنا كأفراد متفقين على أن لكلٍّ منا قصّتُه التي لم تُرْوَ كاملة!

في هذا العدد من مجلة العربي أمامكم القصصُ الثلاثُ الفائزةُ التي تباينت في مُستواها وفي أفكارها المطروحة ودرجة نُضجها. تراوحت بين الكلاسيكية ومحاولة التجريب، واتخذت من الحدث والفرد أرضيةً لبناء النص القصصي.

 الملاحظ أن القصصَ جاءت بِلغةٍ بسيطةٍ، والمواضيعُ لم تتماهَ مع واقعنا المعاصر، كانت مُحلِّقةً في منطقة موازية له، ما بين الخاطرة والغموض وتسجيل الاعتراض الخافت!

وجاءت القصص المختارة حسب المراتب الآتية:

 

المرتبةُ الأولى: «قصيدة رواندي الأخيرة» لزكية بلحساوية/ المغرب 

تبدأ القصةُ بعبارة تقريرية مُشوِّقة: «منذ وقت طويل لم يحظَ الشاعرُ بييس رواندي بفرصة لكتابة الشعر، فقد كان منشغلًا بالهروب من محاولات اغتياله». ومن هنا تبدأ الأحداث المتماهية في الغموض وإثارة علامات الاستفهام عن شخصية الشاعر الذي يشعر أنه «سمكة ذهبيّة داخلَ وعاء زجاجي»، ودورِه في المنزلِ الزجاجيِّ في مدينة الأفلام!

امتلكَ الكاتبُ قدرةً واضحةً على إثارة تشويق القارئ والتحكم في البناء السردي وعدم الانسياق في وصف التفاصيل، لكنه في الوقت نفسِه انجرفَ في إضافة طبقة ضبابية على نصِّه مما خلق فَجْوةً في التلقي لدى القارئ. 

سُيّاح وتصويرُ مشاهدِ قتلٍ بطلقات تُصيب القلبَ، وشاعرٌ يشاركُ في دور متفَّقٍ عليه، ونهايةٍ لم يَعرفُها قط! متاهةُ المنزلِ ذي الغرف المتشابهة، والحديقةُ ذاتُ النباتات الغريبة، أجاد الكاتبُ في إدخال القارئ لها، لكنه لم ينجح في إخراجِه منها بنهاية مقنعة. 

 

المرتبةُ الثانية: «إنارة الطريق» لعائشة النعمان الشاوي/ البحرين 

تتناولُ القصةُ الفوارقَ الطبقيّةَ بين الأفراد في المجتمع نفسِه، وإهمالَ الجهةِ الحكومية (البلدية) لدورِها في إصلاحِ الخللِ لكونِ المُتضرِّر في الهامش، ولن يصل صوته مهما كانت درجةُ اعتراضِه أو معاناتِه! 

على الجانبِ الآخر يظهرُ الإصلاحيُّ، ورُمِزَ له في النص بالجار الذي حاول إصلاح خلل مصابيح الشارع المطفأة دون جدوى! في النهاية نكتشف أنّ الظلامَ الدامسَ أضرَّ بالكل، ومنهم حفيدُ رئيس البلدية المُهمِل.

قصةٌ بإطار كلاسيكي وعنوان مباشر لموضوع مَطروق، نجح الكاتب بلغة رشيقة وموجزة في جذب انتباه القارئ، ووُفِّقَ في اختيار نهاية تتجاوز فضاء النص لتعلنَ رأيًا واضحًا فيما يتعلّق بالتفاوت الطبقي، وتخلَّي المسؤول عن واجباته، وأثَر ذلك على شريحة كبيرة من المجتمع.

 

المرتبةُ الثالثة: «كرواني أزرق أبيض» لأحمد مجدي/ مصر

العنوانُ غيرُ المشوِّق وقف حائلًا في البداية بين النصّ والمتلقي! على الرَّغم من أن البداية مثيرةٌ للتساؤلات لكنّها لم تكن واضحة؛ فهناك صديقةٌ ومريضٌ بالاكتئاب يجدُ صعوبة في النوم ومُنبِّهات مستعدةٌ للانطلاق الصباحي، وهناك أيضًا كروان يَعبُر شرفتَه كبارقة أمل ثم يَصحبُه في مَتاهة الشوارع بالدراجة النارية في جولة قصيرة تجعله سعيدًا كطفل وحيد سَمحَ له الآخرون باللعب.

القصةُ جاءت للتعبير عن حالة نفسية تتراوح بين طرفي نقيض. بدا الحدث فيها هامشيًا، والشخصيات لم تكنْ واضحةَ المعالِم، ما أنقذَ القصةَ جمالُ الوصف والقدرةُ على التماهي مع حالة البطل المُتذِبذبة.