ابن سينا في الفكر الإسلامي

ابن سينا  في الفكر الإسلامي

ابن سينا  (Avicenne  أو Avicenna) بالأجنبية صاحب الألقاب المتعددة: الشيخ الرئيس، مصدر التأسيس، الصاحب الأجلّ الحكيم، شرف الملك، أفضل المتأخرين، حجة الحق، الدستور، أرسطو الإسلام وأبقراطه، الفيلسوف الوزير  وفيلسوف الدهر (راجع كتابنا: ابن سينا - الشيخ الرئيس - بيروت 1990).

تعدد هذه الألقاب يشير إلى مكانة ابن سينا في الفكر الإسلامي، وما نحن بصدده في مقالتنا هذه يشهد بذلك. 

 ورد في كتاب «ثلاثة حكماء مسلمين» لمؤلفه سيد حسين نصر أن تلميذ ابن سينا أبو عبيد الجوزجاني «كان يرى فيه أعظم علماء زمانه، سأله يومًا: لماذا لا يدعي النبوة وينادي بدين جديد؟! فتبسم ابن سينا ولم يَحِرْ جوابًا».

 

 في فجر اليوم الثاني عندما ارتفع صوت الأذان، استيقظ التلميذ قاصدًا حوض الماء حتى يتوضأ للصلاة؛ كان الجو شديد البرودة فطلب إليه ابن سينا ألا يخرج للوضوء وإلا أصيب بالرشح ومرض، ولكن التلميذ لم يُذْعِن لنصيحته، بل خرج وتوضأ ثم أدى صلاته. 

عندما انتهى من صلاته دعاه ابن سينا وقال له: «هذا هو السبب في أنني لا أدعي النبوة، فها أنا أستاذك لا زلت حيًا، وأعظم مرجع طبي اليوم، أمنعك من أن تغسل نفسك بالماء البارد فلا تذعن لنصيحتي وتتبع تعاليم رجل عاش في الجزيرة العربية منذ أربعة قرون وكان أميًا مع أنك لم تقابله مطلقًا؛ هذا هو الفرق بين النبي والعالم الفيلسوف».

كان ابن سينا واقعيًا في رده، منطقيًا في إجابته، حين ميز بين النبي والفيلسوف، خاصة في مقارنته بين تلميذه أبو عبيد الذي لم يذعن لنصيحته بعدم الخروج في البرد الشديد قاصدًا حوض الماء للوضوء رغم اعتباره إياه أعظم علماء زمانه، في حين أنه لا يأبه لشدة البرد امتثالاً لأوامر النبي الأمي (صلى الله عليه وسلم) وإيمانًا بتعاليمه رغم أنه لم يَرَه.

ما يتبادر إلى الذهن هنا هو: هل أن سؤال التلميذ أبو عبيد لأستاذه الشيخ الرئيس كان تلقائيًا عفويًا، أم أن أمرًا ما استوحاه من خلال سلوك ابن سينا وتَلَمَّسَهُ في طموحه دفعه إلى ذلك التساؤل؟

الأرجح أن الجوزجاني استوحى تساؤله من سلوك ابن سينا وتلمسه في طموحه وتطلعه إلى ذلك، وذلك استنادًا إلى أدلة ثلاثة:

الدليل الأول: الظاهر والباطن في القرآن الكريم.

الدليل الثاني: الإشارة والرمز. 

الدليل الثالث: إحاطة ابن سينا في فلسفته سائر شؤون الحياة وتناوله مجمل القضايا والمسائل الفكرية والفلسفية والمعرفية.

قبل الشروع في إيراد الأدلة من المفيد الإشارة إلى إيمان ابن سينا وتَدَيُّنِه وإن كان ذلك بديهيًا حيث صرح بذلك غير مرة: «... والذي كنت أتحير فيه من المسائل ولا أظفر بالحد الأوسط في القياس، أتردّد بسبب ذلك إلى الجامع وأصلي وأبتهل إلى مبدع الكل حتى يفتح لي المنغلق ويسهل المتيسر».

 

الدليل الأول: الظاهر والباطن 

أجمع الفقهاء والمتخصصون في الدراسات القرآنية على أن القرآن الكريم فيه الظاهر والباطن: الظاهر للعامة والباطن للخاصة، دون أن يتعارض ذلك مع المضمون بالطبع، وذلك بشهادة آيات عديدة:

{أُدْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (سورة النحل - الآية: 125).

{وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا} (سورة آل عمران - الآية: 7)، على أن هناك آيات يلتبس معناها، يُصَارُ إلى تأويلها ضمن شروط التأويل.

انطلاقًا من ذلك اعتمد ابن سينا منهجين في فلسفته: منهجًا للعامة ومنهجًا للخاصة؛ وقد صرح بذلك في مقدمة كتابه «منطق المشرقيين»، حيث قال: «... ولما كان المشتغلون في العلم شديدي الاعتزاء إلى (المشائين) من اليونانيين، كرهنا شق العصا ومخالفة الجمهور، فانحزنا إليهم وتعصبنا للمشائين إذ كانوا أولى فرقهم بالتعصب لهم، وأكملنا ما أرادوه وقصروا فيه ولم يبلغوا أربهم منه، وأغضينا عمّا تخبطوا فيه وجعلنا له وجهًا ومخرجًا ونحن بدخلته شاعرون وعلى ظله واقفون؛ فإن جاهرنا بمخالفتهم ففي الشيء الذي يمكن الصبر عليه، وأما الكثير فقد غطيناه بأغطية التغافل».

 ثم يضيف: «... وما جمعنا هذا الكتاب (الحكمة المشرقية) لنظهره إلا لأنفسنا - أعني الذين يقومون منا مقام أنفسنا، وأما العامة من مزاولي هذا الشأن فقد أعطيناهم في (كتاب الشفاء) ما هو كثير لهم وفوق حاجتهم، وسنعطيهم في اللواحق ما يصلح لهم زيادة على ما أخذوه، وعلى كل حال فالاستعانة بالله وحده».

وفي القسم الأخير من كتابه «الإشارات والتنبيهات» يوصي ابن سينا القارئ الذي ائتمنه على خصوصية أفكاره قائلاً: «أيها الأخ، إني قد مخضت لك في هذه الإشارات عن زبدة الحق وألقمتك خفي الحكم في لطائف الكلم، فصنه عن المبتذلين والجاهلين، ومَن لم يرزق الفطنة الوقادة والدربة والعادة، وكان صفاه مع الغاغة، أو كان من ملاحدة هؤلاء المتفلسفة ومن همجهم. فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته واستقامة سيرته، وبتوقه عما يتسرّع إليه الوسواس، وينظر الى الحق بعين الرضا والصدق، فآتِهِ ما يسألك منه مدرجًا مجزءًا مفرقًا، تستفرس مما تسلفه لما يستقبله، وعاهده بالله وبأيمان لا مخارج لها، ليجري فيما يؤتيه مجراك متأسيًا بك». 

 

الدليل الثاني: الإشارة والرمز 

وردت فواتح العديد من سور القرآن بإشارات: كهيعص، ألم، حم ... وسواها الكثير، وقد حاكى ابن سينا ذلك في قصصه الرمزية (حي بن يقظان) وفي تأويله لقصة (سلامان وإبسال)، كما بدا ذلك جليًا في القصيدة العينية التي نظمها وضمنها نظريته في النفس الإنسانية:

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تعزز وتمنع 

إلى أن يقول في البيتين السادس والسابع:

حتى إذا اتصلت بـ (هاء) هبوطها

عن (ميم) مركزها بذات الأجـرع

علقت بها (ثاء) الثقيل فأصبحت

بين المعالم والطلول الخُضع 

مع الإشارة إلى أن القصيدة العينية بحد ذاتها تدخل ضمن المنهج الرمزي الذي اعتمده ابن سينا لعرض فلسفته وشرح نظرياته الفلسفية.

الدليل الثالث: شمول فلسفة ابن سينا ومعالجته لسائرالمسائل الفلسفية وتناوله لكافة القضايا المعرفية

هذا الدليل وإن كان لا يرتقي إلى الدليلين السابقين باعتبار أن الفلسفة، كما عرفها الفارابي، هي أم العلوم، والفيلسوف كي يكون فيلسوفًا يجب أن تتضمن نظرياته سائر جوانب الفلسفة والقضايا الفلسفية والرياضية والمنطقية والوجودية والفقهية والحكمية والفلكية والطبيعية وسواهـا. 

لقد عالج ابن سينا كافة هذه المسائل على مدى سني حياته في كافة مؤلفاته التي تجاوزت الـ283 مؤلفًا بين موسوعة وكتاب ورسالة.

أمام هذه الأدلة فإن سؤال التلميذ أبو عبيد الجوزجاني أستاذه ابن سينا لماذا لا يعلن نبوته وولادة دين جديد، أجل لم يكن هذا السؤال عفويًا وتلقائيًا، وإنما كان مستوحى من سلوك ابن سينا وطموحه وتطلعه إلى ذلك ■