البروفيسور اللبناني - الروسي د. سهيل فرح: الثقافة أصبحت مهمشة إلى حد ما
د. سهيل فرح من مواليد لبنان. حصل على العديد من الأوسمة الدولية، منها وسام الصداقة المسمى باسم ألكسندر بوشكين من الرئيس الروسي في الكرملين في العام 2011، والوسام الدولي المسمى باسم ي. م. بريماكوف في العام 2018. تشمل أعماله: «عالم الحضارات... هل من مستقبل؟» (موسكو، 2023)، «جبروت المكان والإنسان» (موسكو 2022)، و«حوار الثقافات في زمن العولمة» (موسكو 2015)، و«حوار الحضارات... الأفكار والتقنيات» (2005). وكان قد أصدر بأكثر من لغة 23 كتابًا بين تأليف وإعداد في علوم الحضارات والثقافات والأديان والكونيّات. ومؤخرًا، تعاون د. فرح مع فؤاد ماميدوف لنشر كتابٍ موسوعيّ باللغة الروسية بعنوان «الثقافة تُنقذ العالم». وقد صدر هذا الكتاب باللغة العربية في العام 2022، عن دار الهيئة العامة السورية للكتاب.
البروفيسور والأكاديمي اللبناني-الروسي د. سهيل فرح، عضو في أكاديمية التعليم الروسية، حاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم الفلسفية وعمل كأستاذ محاضر في لبنان والجزائر وروسيا. يشغل حاليًا منصب رئيس مناوب لنادي يالطا الحضاري، كما عمل رئيسًا للجامعة المفتوحة لحوار الحضارات التابعة لمعهد سوركين الدولي في موسكو، حتى العام 2021. ويُعدّ عضوًا في مجلس رئاسة المنتدى العالمي للثقافة الروحانية، وقد أجرينا معه الحوار التالي:
● الدكتور سهيل فرح، أنت فيلسوف عربي لبناني-روسي، ومن كبار المتخصصين في علم الثقافة والروحانيات وحوار الحضارات، كما أنك درّست هذا المجال بشموليته وأنتجت كتبًا فيه باللغة الروسية. هل لك أن تختصر لنا مراحل حياتك الخاصة والأكاديمية والظروف التي جعلتك تنتقل من العالم العربي إلى روسيا ودفعتك لتكتب وتفكر في هذا المستوى العالي وباللغة الروسية؟ وكيف أثّرت ثقافتك ولغتك الأم في أعمالك بالروسية؟ وكيف تقرّب في شخصيتك بين الثقافتين العربية والروسية؟
- أنا من أصل لبناني عربي، عملت في لبنان ودرّست في جامعاته، ولكنني أحمل أيضًا الجنسية الروسية، وأعمل في روسيا في مجال التعليم منذ أكثر من عشرين سنة. لقد نشأتُ في أسرة لبنانية متواضعة، وكنتُ منذ طفولتي مهتمًا بالتاريخ، والفلسفة، والمسرح، والحضارات. ثم تحول اهتمامي إلى الشعر والأدب والمسرح والكونيّات الروسية، متأثرًا في ذلك بصعود يوري غاغارين إلى الفضاء في عام 1961. بدأت دراستي في جامعة موسكو الحكومية، وعلى الرغم من تخصّصي في مجال الصحافة المرئية، إلا أنني شعرت بأنني أقرب إلى علوم الفلسفة. هكذا، حصلت على درجة الدكتوراه في الفلسفة، ثم شهادة ما بعد الدكتوراه في مجال الفلسفة الاجتماعية. أذكر مقالتي النقدية الأولى في لبنان قبل الدراسة الجامعية حول مسرح بريخت. وقد نُشرت في مجلة لبنانية، وكانت حدثًا كبيرًا شجعني على الكتابة. بعد التخرج الجامعي، أصدرت كتابي الأول «العلمانية المعاصرة بين ديننا ودنيانا»، الذي حاولت فيه تقديم مقاربة عقلانية للشخصية الإنسانية، وتوضيح الفرق بين العلمانية والإلحاد، وتأكيد وجود العلمانية المؤمنة. صدر هذا الكتاب عام 1997 وحقق صفة الكتاب الأكثر مبيعًا في تونس. بعد ذلك، توجهت مسيرتي الكتابية نحو استكشاف سؤال الثقافة في الفلسفة العربية الإسلامية، وكنت دائمًا مهتمًا بالمقارنة بين العقلين الغربي والشرقي، مع تركيز خاص على العقلية الروسية والعقلية العربية الإسلامية.
● صحيح. أنت معروف في العالم العربي كباحث. لكنك كنت معروفًا أيضًا في بداياتك الأكاديمية كأستاذ جامعي. وكما أعلم، أنت درّست في بعض الجامعات العربية بالإضافة إلى جامعات لبنان. كيف تقيّم تجربتك الجامعية في العالم العربي؟
- نعم. لقد قمت بتجربة تعليمية في جامعة الجزائر استمرت ست سنوات، ساهمت خلالها في تحضير كوادر جزائرية بارزة. لقد أفادتني هذه التجربة بإلقاء نظرة على الثقافة الغربية، كون الجزائر منفتحة على الفضاء الأوربي والفرنسي خصوصًا. كما أنها ساعدتني في فهمٍ أعمق للعالم العربي بمجمله وليس فقط البُعد المغاربي فيه. أما في لبنان، موطني الأول، فقد عملت فيه بصفة أستاذ في الجامعة اللبنانية، هذا بالإضافة إلى أنني أسست فيه «البيت اللبناني الروسي» الذي ركز على أولوية العلاقات الثقافية والمعرفية. ونظمت حينها سبع مؤتمرات، وأصدرت سبعة كتب تتناول لقاء الثقافتين الروسية والعربية الإسلامية، وحوار الحضارات والتنوع الثقافي، ومواقع القوة والضعف في هذا التنوع. كما نظمت عدة مؤتمرات حول أدباء روس، مثل بوشكين ودوستويفسكي وسوركين، مؤسس علم الاجتماع من جامعة هارفرد، ومؤسس علم البيوفيزياء والكيميوفيزياء وعلم الكونيات فلاديمير فرنادسكي. كل هذا دفعني للانغماس أكثر في الفضاء الروسي، فبدأت أخوض مغامرة الكتابة بهذه اللغة العريقة والصعبة في آن واحد.
الواقع أنني، عندما هاجرت إلى روسيا، بدأ اهتمامي بحقول حوار الحضارات والثقافات والأديان من أجل الدخول إلى علم البدائل الحضارية، وذلك على وقع المشهد العالمي الذي بدأ في أواخر القرن الماضي على خلفية الصراع الجيوسياسي، والصراع على الثروات، والنزاعات تحت اسم الأديان أو الهويات أو الحضارات. لقد أصيب الفكر الغربي الليبرالي بحالةٍ من النشوة المطلقة، حيث اعتبر المفكرون الغربيون أن الليبرالية هي خاتم الأيديولوجيات، وحاولوا بعد ترسيخ عولمة الاقتصاد العمل على عولمة الثقافة والفلسفة والقِيم. وقد اتصفت هذه العولمة بطابعها العدواني، وغلب على سياستها العامة الفلسفة الداروينية الاجتماعية، حيث الأقوى هو الذي يُملي نمط تفكيره وسلوكه على الآخرين الذين هم الأضعف حضاريًا أو اقتصاديًا أو علميًا. ثم إن هذه العلاقة رافقها عدد هائل من الحروب المدمرة.
تحديات خطيرة
● لا بد أن يثير هذا الواقع ردات فعل لدى العالم غير الغربي. كيف كانت هذه الانعكاسات، في نظرك، وفي أي مجال ظهرت؟
- لقد أدى هذا الواقع إلى بروز تحديات خطيرة ألقت بثقلها على العلاقات بين الغرب والشرق، وهي تمثلت بمحاولة فرض قيم العالم القوي «المنتصر» على باقي الحضارات، وعلى بنيتها الجيوثقافية وثوابتها الأسرية والدينية والثقافية. مما حمل بعضهم إلى التقوقع على نفسه والانعزال ورفض الآخر أيما كان، فقام بحماية نفسه بأسوار ثقافية ودينية اتسمت في معظمها بالتشدّد والتعصّب.
لذا كان لا بد من العمل على وضع بديلٍ حضاري على أساسٍ فكريّ وفلسفيّ جديد يعتمد الجانبَ الصحي والعقلاني والإنساني في كلتا الحضارتين، ويعمل على إبراز المساحات المشتركة السماوية والإنسانية لكلتيهما. وهذا لا يحصل إلا بتأصيلٍ جديد للحوار، عبر محاولة التفتيش عن القيم الإنسانية المشتركة، الكفيلة بنقل الإنسانية من مرحلة الصراعات التي لا حدود لها إلى مرحلة الشراكة في كل مجالات الحياة. فلتُعطِ كل حضارة، وكل ثقافة، وكل دين، أفضل ما لديها من قِيم إنسانية مشتركة، ولتتفاعل هذه القيم لبناء حضارةٍ كوكبية من نوعٍ جديد، ترتكز ليس فقط على ثقافة الاحترام المتبادل والثقة المتبادلة والود المتبادل، بل على ثقافة المنفعة والمصالح المشتركة المتبادلة. هكذا تتقلص مناخات الصراع والحروب والهيمنة السائدة حاليًا.
رباعية مهيمنة
● لكن، هل من الممكن أن يقبل العالم الغربي المسيطر على أرجاء المعمورة بهذا الحوار المتكافئ وبتبادل القيم الإنسانية على تنوعها؟ هل سيقبل الغرب أن تحلّ حضارة كوكبية من نوع جديد، كما تقول، محل حضارته هو ومحل ثقافته الخاصة به والتي يحاول فرضها على الجميع؟
- لا يمكن لهذه الفكرة الجديدة أن تلقى الدعم ممن لديه رُباعية المال والسلطة والسلاح والمعرفة، وهي رباعية مهيمنة وتستخدم علم النفس الاجتماعي والعلوم البيولوجية والطبيعية وغيرها لتسيير هذه العولمة الجديدة. إلا أن هناك مخاطر «غرق الحضارات» كما يشير إليها المفكر اللبناني - الفرنسي أمين معلوف وعدم إمكانية الخروج من هذه الأزمة إلا عبر مبادئ الحوار والشراكة. لقد ركزت في أعمالي على هذين الموضوعين، وشاركني في هذا الهم المعرفي زملاء من أكاديمية التعليم الروسية وأكاديمية العلوم الطبيعية الروسية، وكذلك أساتذة من جامعة روسيا الحكومية، التي وبالمناسبة استحدثت مادة جامعية جديدة سمّيت «حوار الحضارات»، وقد كُلفت أنا بتدريسها منذ العام 2007.
● لقد رُشِّحتَ لثلاث مرات إلى جائزة نوبل للسلام في أوسلو في الأعوام 2018، 2019، 2020. هل لك أن تشرح لنا ظروف هذا الترشيح: من قام بترشيحك؟ وعلى أي أساس معرفي وعلمي؟ وهل كان الترشيح فرديًا أم جماعيًا، مع مجموعة من الأكاديميين الآخرين؟
- لقد تأسست منظمات جديدة عالمية، منها «المنتدى العالمي لحوار الحضارات»، الذي كان يقيم مؤتمرات ضخمة سنويًا في جزيرة رودوس. وكنت مشاركًا فيها كلها، مما جعلني لصيقًا بكل ما أنتجه وأبدعه كبار الفعاليات الفكرية والروحية والعلمية والثقافية من القارات الخمس. وقد أدى ذلك إلى أنني نشرت أربع مجلدات في روسيا في موضوع حوار الحضارات. وأصدرت بالشراكة مع أحد كبار المفكرين الروس، يوري يكفتس، كتابي «حوار وشراكة الحضارات» و«البعد الروحي للقيم الحضارية المعاصرة»، ثم أصدرت كتاب «الحضارة الروسية» الذي وضعته باللغة العربية. كل هذه الأعمال لفتت انتباه أكاديمية العلوم الروسية، وتحديدًا قسم أوربا في الأكاديمية بشخص مديرها ألكسي غروميكو. فتم ترشيحي، مع زميلي يوري يكفتس، في أوسلو للحصول على جائزة نوبل للسلام، وذلك باعتبارنا قد دشَنَا حقلًا معرفيًا جديدًا في علوم الحضارات، ولكوننا قدمنا رؤية تكاملية معرفية جديدة في علم الحضارات لم يأت على ذكرها أحد من علماء الحضارات والفلاسفة. بالإضافة إلى أننا لم نركز فقط على علم البدائل الحضارية، بل ركزنا على كيفية التأسيس لمعرفة من نوع جديد ولتربيةٍ ترتكز على ثقافة السلام وتجمع شعوب العالم وثقافاتها وحضاراتها حول قِيَمٍ إنسانية مشتركة. قُدِّم هذا الترشيح في العام 2017، وأُعيد طرحه في عامي 2019 و2020. ونحن نعلم أن هذا النوع من الجوائز المرتبطة بالسلام يغلب عليها للأسف الجانب الأيديولوجي والسياسي، من دون أن ننسى أن الترشيح حصل من قبل روسيا.
بغض النظر عن كل ذلك، لا بد من الاستمرار بالعمل الجاد في سبيل التأصيل المعرفي والمنهجي الجديد لعلم الحضارات، وتعميق ثقافة الحوار العقلاني بين الثقافات والأديان المتنوعة، للوصول إلى تأسيس بدائل حضارية تقوم على قيم الحقيقة والجمال والثقافة المتعالية، وتُعطى الأولوية فيها لقيم الشراكة.
الثقافة مهمشة
● نقرأ في كتابك «الثقافة تنقذ العالم» أن العالم في خطر نتيجة التحديات المعقدة التي يواجهها، وأن العالم يسير في حقل ألغام نتيجة التوترات الثقافية والاجتماعية المتكررة. العالم يحتاج إذن إلى الإنقاذ: كيف يمكن تحقيق ذلك؟ وما هي، في نظرك، القواعد التي ينبغي أن يُؤسَّس عليها اختيار القائد الجديد، خاصة بعد بروز ظاهرة القيادات العامة التي تحتاج إلى الكثير من المعرفة لاعتبارها من الطليعة المثقفة في المجتمعات؟ بكلمة أخرى، هل يُمكنك توضيح الأسس التي يجب اتباعها لاختيار القيادات العامة في مختلف المجالات والدول، بهدف إنقاذ العالم؟ وكيف يمكن للمجتمع أن يؤثر في تعيين أفراد مثقفين وإيجابيين في المناصب العامة لتطوير القدرات المجتمعية ونشر روح السلام؟
- هذه الأسئلة ذات أهمية كبيرة. لقد أصبحت الثقافة مهمشة إلى حد ما. نحن نؤكد في أعمالنا المشتركة أن الأمور ستستقيم عندما تستتبّ الثقافة، بمعنى الثقافة العلمية والفنية والاقتصادية، وثقافة الحوكمة، والثقافة الدينية، والثقافة في الأسرة والتعليم وجميع مجالات الحياة. يتحقق ذلك عندما تحضر قيم الثقافة المتعالية على مستوى القول والفعل، بدءًا من رأس الهرم حتى أقل المهن تواضعًا. وبالتالي، لا بد من أن يكون هناك دور كبير للثقافة في إنقاذ هذا العالم المليء بالحروب والصراعات. فالثقافة شبه معدومة لدى بعض القادة الذين يقودون العالم ويُصدرون القرارات السياسية الكبرى. للأسف، نحن نعيش في زمن التفاهة الذي يعطي الأولوية للقيم المادية والاستهلاكية.
صحيح أن الحضارة الغربية نشأت كحضارة عظيمة خاصة في عصر النهضة، حيث أولت الحرية والأخوة والمساواة أهمية كبيرة، وساهمت في تقديم إنجازات كبيرة في الفنون والعلوم. لكن، مع تفشي القيم الاقتصادية الليبرالية في عالمنا، انتقلت تلك القيم نحو محاولة تعميم الثقافة الواحدة. فهي عملت بشكل حثيث كي تجعل العالم يتكلم بلغتين اثنتين فقط: لغة الدولار واللغة الإنجليزية.
● إنها العولمة التي اكتسحت موجاتُها العالم بأسره... أليس كذلك؟
- نعم. لقد طمست هذه العولمة ثقافات عريقة ومتنوعة، بسياسة الماكدونالدز وأساليبها في الموضة والموسيقى والأدب والمسرح والسينما. ونشرت السينما الهوليودية، على سبيل المثال، ثقافة العنف وأنشأت أجيالاً في أمريكا وعلى مستوى العالم كله على تبني قيم الاستهلاك، متجاهلة في ذلك الجماليات والأبعاد الروحية والثقافية الإيجابية.
كما ظهر ذلك على الساحة الدولية في الخطابات السياسية والدبلوماسية والعسكرية ووسائل الإعلام، حيث تبدو الأساليب مليئة بالسَّفاف ومجافاة الحقيقة بعيدة عن التسامح الثقافي. بالإضافة إلى ترويج ثقافات جنسية وإباحية، والتركيز على الحاجيات البيولوجية للإنسان، وزيادة التشجيع على الكراهية ورفض الآخر، والتطرف الديني، والأنانية، الفردية والجماعية. إننا نعيش حالة جنون على مستوى الكوكب ككل. وطال هذا الجنون المجتمعات الغربية بالتحديد حيث انتشرت ظواهر غريبة بعيدة عن القيم الحضارية الغربية نفسها، ناهيك عن القيم البشرية العالمية.
● إنّ كتابك «الثقافة تنقذ العالم»، الذي وضعته مع المفكر الأذربيجاني، فؤاد محمدوف، يقدم بديلًا عن هيمنة الثقافة الواحدة ويدعو إلى الاختلاف (وليس الخلاف) بين شعوب العالم من أجل تكوين مسافة مشتركة تتحاور فيها الثقافات على تنوعها... هل بالإمكان أن تحدثنا عن تجربتك في هذا الكتاب؟
- نعم. لقد أردنا في هذا الكتاب التأكيد على إمكانية إنقاذ العالم من خلال دعم الإنتاج الثقافي ذي المستوى العالي في مجالات العلوم والتعليم وثقافة الأسرة وجميع أنواع الفنون الرفيعة والثقافة الدينية وغيرها. أظهرنا أن أداء الأفراد في الأسرة والعمل والمعابد والشارع والإدارة يتحدد بشكل إيجابي أو سلبي بناءً على الثقافة والمعرفة التي يتمتعون بها. ويتحدد بناء على ذلك الجانبُ المظلم والآخر المضيء من جوانب الممارسات الإنسانية. وكلما ازداد حجم الممارسات المظلمة المتعلقة باللاثقافة والتعصب والأنانية والنرجسية، ورفض الآخر، زادت الصراعات وبالتالي الحروب السائدة حاليا في المشهد الكوكبي.
نحن نحاول أنْ نضيء نهاية هذا النفق المظلم المليء بالصراعات والحروب والكراهية، ونسعى إلى تقديم رؤية معرفية شاملة لتكون الثقافة حاضرةً في جميع المجالات. كما نتطلع إلى توسيع دائرة النور والأمل في هذا النفق، عسى أن ننتقل إلى مرحلة جديدة في بناء ثقافة وحضارة توفر مساحات أوسع للعدل والجمال والحق والخير، وبناء حضارة كونية جديدة تتبع مبادئ مختلفة عن الواقع الحالي.
● أخاف دكتور فرح أن يعتقد القارئ أنّ لديك نظرة طوباوية لبناء الجمهورية الفاضلة بعيدًا عن متطلبات الصراع الطبقي والصراع على الثروات والأنانية، وهي كلها تلازم الإنسان القديم والمعاصر.
- جوابي هو أنّ الحالمين والطوباويين يعلمون جيدًا عمق المأساة التراجيدية التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط والعالم، ونحن نُدرك أنّ منظومات القيم الثلاث المتمثلة بالليبرالية الكلاسيكية والاشتراكية الكلاسيكية والمنظومات التقليدية الدينية، لم تُشف غليل الرغبة الإنسانية في أن تعيش في نظامٍ تسوده قِيم العدل والمحبة والسلام. لقد آن الأوان للعقول النيّرة في مختلف المجموعات الحضارية أنْ تبحث في المنظومات الثلاث عن العناصر الإيجابية، وأنْ تستند إلى حكمة العلم في بُعده الأخلاقي وتطوير ثقافة الحوار وتعميقها. هذه كانت رسالة كتابنا «الثقافة تنقذ العالم»، وهو كتاب دخل حاليًا في المناهج العلمية في الجامعات الروسية. وآمل أن تلقى نسختُه العربية طريقها إلى مكتبات المثقفين وجامعات العالم العربي الواسع.
مشهد مظلم
● سؤالي التالي يتعلق بمستقبل البشرية: هل هو مستقبل إنساني أم كارثي، وما هو دور الثقافة والمورث الروحي والأخلاقي في التأثير فيما نسميه عصر الذكاء الاصطناعي؟ حيث يتم العمل بجد لتسليم أمورنا لقيادة اصطناعية غير واضحة المعالم، ولا نعرف قدرة حضارتنا الحالية على أنسنة هذه القيادة العتيدة. وهل هي إله جديد نصنعه بأيدينا؟
- لقد تطرقت إلى سؤالك هذا في الكتاب الأخير الذي وضعته باللغة الروسية مع يوري يكوفتس، وهو بعنوان «عالم الحضارات - هل من مستقبل؟»، والذي نتمنى ترجمته إلى العربية. لقد استعرضنا فيه السيناريوهات الممكنة لمستقبل الحضارة، التفاؤلية منها والتشاؤمية. وسَلّطنا الضوء على ظاهرة «الحضارة المعولمة». فالغالب على المشهد الحضاري الحالي هو المنطقة المظلمة منه، والتي تُترجم بالصراعات والحروب المتنقلة وغياب الثقة بين حكام الشرق والغرب. يتجلى ذلك من خلال استحداث وسائل وأسلحة وعلوم جديدة علّها تواجه التحديات البيئية والديموغرافية والجيوسياسية وأزمات القِيم والتكنولوجيا والطاقة وغيرها. بعض هذه الجهود تتسم بالبراءة، ولكنها تبدو في معظمها شريرة، إذ تحاول بعض الشركات العالمية والمراكز الكبرى أن تُسخّر العقل العلمي لحلّ هذه الأزمات. وقد استحدث هذا التيار منظرو عصر ما بعد الحداثة لدراسة «إنسان ما بعد الإنسانية». إنه عصرٌ يرتكز على الذكاء الاصطناعي ويعمل على تغيير البنية البيولوجية والجينية للإنسان.
صحيح أن هناك منظومة مستحدثة تشهد طفرة تكنولوجية وعلمية واسعة الانتشار في البلدان المتقدمة علميًا. ومع ذلك، نشهد في المقابل انحدارًا مأساويًا للثقافة، حيث يتم تجاوز الأخلاق والأبعاد المضيئة للقيم الروحية في الشخصية الإنسانية، التي تمثل الخزان الثقافي لشعوب الشرق والغرب على حد سواء. تتصادم هاتان المنظومتان بشكل واسع في مواجهةٍ مصيرية تشبه «سياسة كسر العظم». ويشهد العصر الرقمي، مع ذكاء الآلة ووسائل الهندسة الجينية وتكنولوجيا النانو، تطورًا علميًا ذا بُعدٍ تقدمي وتحديثي، ويشهد، في المقابل، تدميرًا خطيرًا للثوابت النفسية والعقلية والروحية، حتى الفيزيوبيولوجية للإنسان.
● يبدو كذلك أن الذكاء الاصطناعي يقوم بدورٍ كبير في هذه المنظومة، وهو الذي شهد مؤخرًا توسعًا كبيرًا في إمكاناته على جميع الصعد: تخزين المعلومات، وحجم هذه المعلومات، والسرعة الهائلة في محركات البحث. لكن التكنولوجيا مهما تطورت لا تصنع الثقافة. ما رأيك في ذلك؟
- إذا تُرك المجال للذكاء الاصطناعي ليضع أسس المستقبل، فإننا نتعرض لخطر الفاشية العلمية، وهي مغامرة خطيرة. الأفراد الذين يطورون تلك التقنيات يمتلكون الأموال ويستخدمون مختبرات فائقة التقنية، مما يمكنهم من شراء أذكى العقول البشرية في سعيهم لخلق بدائل لمستقبل الحضارة. أرى في هذه المغامرة خطرًا جسيمًا، حيث يمكن للعلم أن يكون مدمرًا بغياب الأخلاق. ينبغي علينا تعزيز القيم الأخلاقية في المجال العلمي لضمان أنْ يتجه العلم نحو التقدم الحقيقي للحضارة على هذا الكوكب. إنّ النشاطات السياسية والاقتصادية التي تتجاهل الثقافة تزيد من توسع البقعة السوداء المظلمة في الشخصية الإنسانية، مما يؤدّي بالضرورة إلى حدوث حروب ودمار، وهذه تعتبر أم المغامرات. الحياة تتقاطع في الصراعات بين الخير والشر، النور والظلام، التقدم والتأخر، الكراهية وقبول الآخر، الأنانية والشراكة. على الثقافة العلمية والإنسانية أن ترفع من قيم الأخلاق وثقافة العدل، لتحقيق تفوُّق الخير في صراعه مع الشر داخل هذه الثنائيات.
هكذا، يُمكن إنقاذ الحضارة من نهاياتها، حيث يتراجع السيناريو التفاؤلي أمام التشاؤم مع استمرار الحروب وتوسّعها، والتي يمكن أن تؤدي إلى نهاية الحضارة. على الطاقات الخيرة المبدعة والنيرة التي تنتمي إلى المجموعات الحضارية المختلفة أن تعمل على إنقاذ العالم. ويتوجب على كل حضارة أن تنقي نفسها من أمراضها الداخلية وتعمل بشكل جماعي مع الطاقات الخيرة في باقي الحضارات الأخرى، ليكون الحل جماعيًا، وتكون الثقافة الإنسانية الجماعية هي ثقافة منقذة لحضارتنا المليئة بالصراعات، عسى ننتقل إلى بدائل حضارية أكثر عدلًا وجمالًا وثقافة.
هذا ما أطمح إليه وتطمح إليه جميع العقول النيرة والخيرة على هذا الكوكب ■