معنى النقد السينمائي هو نفسه معنى الفلسفة
«السينما كتابة حديثة حبرها الضوء» (جان كوكتو)
لم يعد بإمكان السينما سوى أن تصبح فلسفة للصورة ومدرسة للذوق، لأن الذوق سمة عامة لتجليات الفن في الروح مما يساعدها على بناء فن الحياة، وكم هي جميلة الحياة في السينما، فما يجري على الشاشة أفضل مما يجري في الوجود، ولذلك فإن مهمة النقد السينمائي هي تفسير وتفكيك معنى السينما في الفيلم، وليس سرد أحداث الفيلم وتكرار كلمات جميل، مدهش، رائع... فبأي معنى الفيلم مدهش سينمائيًا، وبعبارة أخرى كيف يستطيع الفيلم أن يكون بمنزلة سؤال ما السينما؟ وما معنى الحكي بالصورة بدلاً من الحكي بالكلمات؟ وما علاقة السينما بالفنون التي استعمرتها؟ هل تحول إلى امبراطورية الفنون؟
النقد السينمائي متعة لا يعرفها سوى من تجول في امبراطورية الفنون على ظهر سفينة الفلسفة، وكان هدفه الإقامة طويلًا في فن السينما وتذوق استيطيقا الأفلام التي استطاعت أن تنقل حب السينما من القوة إلى الفعل، وتحفر في قلوب الشعوب ووجدانها هذا الحب ومعناه سينمائيًا، ذلك أن فن السينما أحدث ثورة شعبية للفن في العالم.
هكذا تحولت صناعة السينما إلى أفلام، وهذه الأفلام إلى جزء من الحياة الثقافية والجمالية، وبما أن مهمة الناقد لا تتوقف عند متعة هذه الأفلام، بل تجاوزها نحو الوعي الجمالي فإن فن النقد هو نفسه فن السينما، لأنهما معًا يتوجهان نحو تجربة التلقي، باعتبارها كشفا للإبداع والجمال وأي علاقة تجمعها؟ هل يحقق الإبداع السينمائي تجاوبًا مع جمالية الأفلام؟ وما الذي تضيفه آراء النقد السينمائي للمشاهد؟ ألا تكون إعادة تكرار قصة الفيلم مملة؟
من أجل الكشف عن عمق الأبعاد السينمائية للفيلم، لابد من تحليله استيطيقًا، بيد أن الناقد الذي يفتقر إلى معرفة بعلم الجمال كما حدده هيغل في كتاب الاستيطيقا، سيسقط في النقد الانطباعي الذي يعرف الفيلم بالفيلم، ومن المؤسف أن سيادة هذا النقد قد ساهمت في قتل السينما في تلك الأفلام التي يتم ترويجها بشكل عنيف في الفضاءات العامة، هكذا نكون أمام نقاد يوظفون انطباعاتهم ومشاعرهم الذاتية في تناولهم للأفلام، ويظل الغائب الأكبر هو فن السينما كصورة بما هي صورة حين تتشكل في الفيلم من خلال المشاهد وزوايا الكاميرا والإضاءة واستغلال العمق وعلاقته بالشخصيات، وتجلياتها في الظل داخل وخارج الإطار.
نحن إذن أمام أسئلة أنطولوجية تتساءل عن العمق والماهية، باعتبارهما يتوجهان نحو ظاهريات الروح من أجل إيقاظ شعلتها الاستيطيقية، فالروح هي التي تشاهد الفيلم بواسطة الوعي الجمالي، إلى أن يصبح قابلاً للفهم.
ولذلك فإن المعنى الأنطولوجي للسينما ليس سوى الفكرة، حيث تتجسد في الصورة بوصفها موجودًا في ذاتها: «فالموجود لا يصير كذلك إلا داخل العلاقة الأنطولوجية بالآخر»، فالصورة لا توجد على نحو مستقل إنها لحظة المرئي في اللامرئي، تحمل في ماهيتها تلك العلاقة الجدلية بين المبدع والمشاهد، إذ لا يكون لها وجود إلا القابلية للحركة اللامتناهية مع الآخر ونحو الآخر.
إذا كانت كل فلسفة مثالية من حيث الجوهر بمعنى أنها تؤمن بالمثل، فإن السينما التي تسعى إلى إدماج الجميل في المثال الأفلاطوني قد تحولت إلى فلسفة أخرى تحرك الصورة الثابثة وتحولها إلى حقيقة تعلن عن الوجود المنعكس في ذاته، فما هو الوضع الأنطولوجي للصورة في السينما؟ هل الموجود في ذاته متحركًا؟ وماذا يعني أن كل صورة موجودة على الرغم من صيرورتها العدمية؟ وهل مبدأها الأنطولوجي يقوم على المثل الأفلاطونية التي تتجاوز العدم؟
فالصورة التي يكون المتناهي بمقتضاها مثاليًا هي التي تشكل المثالية، وهذا الغرب من المثالية لا يخضع لمنطق التجاوز والإلغاء، لأنه يستمد عمقه من المطلق، ولذلك فإن ما يشكل ماهية السينما هو استقلال الصورة عن مادتها، أي تمثل ما كان عليه الوجود دائمًا بوصفه ماضيًا حاضرًا، لأن مفهوم الاسترجاع هو التأسيس الإنطولولوجي للصورة.
السكن في مأوى السينما السوريالية
من أجل الرقي بالسينما نحو التأمل في السماء لتنافس الفلسفة، سيسعى التيار السينمائي السوريالي والوجودي إلى الهروب من صدمة الواقع البشع الذي مزقته الحرب ودمرته الأيديولوجيا، والحال أن السوريالية ليست سوى فلسفة الهروب من المحسوس الشرس إلى المعقول الناعم مع الاحتفاظ بالجنون بدلا من تلك الإقامة الشعرية في الوجود كما دافع عنها التيار الرومانسي، بل إن فلسفة العبث التي أثرت في سينما العبث تدير ظهرها للواقع وتعشق أنقاضه، عشق الأنقاض باعتبارها أفكارًا تصلح للكتابة والرسم والسينما، فبأي معنى يمكن الجمع بين الفلسفة والسينمائي في تيار عبثي؟ ومن أين يتزود الفيلم السوريالي استيطيقيته؟ هل من آراء الفلاسفة؟ أم من النص الأدبي والرسم التجريدي؟
النقد الاستيطيقي
ذات يوم اجتمع أندري بروتون وبينويل وبيكاسو ودالي وأسسوا التيار السوريالي الذي يدير ظهره للواقع، فنسيان الواقع الممزق بواسطة الحرب شعارهم وبناء واقع استيطيقي غارق في جمالية تجريدية هدفهم، هكذا جاءت شظايا الصورة انعكاسًا لتشظي الواقع، ومن الطبيعي أن النقد الاستيطيقي لهذه الصورة السينمائية والتشكيلية، قد انفصل عن التدريس للاستيطيقا، لأن إسقاط نظرية الأدب المقارن على الإبداع السوريالي يفقده هويته، ويحكم على المبدع وجنونه بقيم دوغمائية تقود نحو الصمت والاغتراب، ولذلك قال باشلار: «ينبغي على النقد أن يتحرر من كل نظرية، لكي يصبح إبداعا بدوره». وإلا سيتحول إلى نقد للأشباح واستعارة للغياب، ولا يمس الفيلم في كينونته وبالأحرى الذوق. ولعل شعار الجودة من حيث التقنية والأداء والذي تدافع عنه السينما التقليدية لم يعد نافعًا مما حكم على النقد الكلاسيكي بالانهيار، ولذلك قامت الموجة الجديدة في فرنسا باحتقار معيار الجودة، لأن هذا المعيار لا يعبر سوى عن احتقار للسينما والنقد معًا، هكذا استطاعت هذه الموجة أن تحدث الفوضى داخل مجال الإخراج السينمائي ويعود ذلك إلى تأثرها بالتيار السوريالي والوجودي.
سينما الفلسفة
أجمل سنوات السينما هي التي واكبت أجمل سنوات الإبداع السوريالي، والشاهد على ذلك مولد عباقرة الإخراج والنقد، فظهور سينما الفلسفة مع روسوليني وغودار وتريغو أدى إلى ظهور النقد الاستيطيقي والفينومينولوجي مع رواد مجلة دفاتر السينما، والواقعية الجديدة، لأن كل سينما عظيمة تحمل في ماهيتها بذرة نقد سينمائي عظيم. فجدلية التأثير والتأثر لم تعد ممكنة إلا عندما يصبح فهم المعنى هو هدم ما يعنيه، وبما أن معنى السينما السوريالي لا علاقة له بالواقع، فإن النقد سيتوجه إلى ما بعد الواقع من أجل فهم هذه السينما: «رأيت في هذا الفيلم صورًا تخفي صورًا أخرى»، بمعنى أن الفيلم السوريالي يكون دائمًا تجريديًا، مثل الآراء الفلسفية: «لكن بمجرد ما شاهدت صورة الفرس المعلق في غصن الشجرة اختفت هذه الصورة»، ولعل هذا هو رأي أحد نقاد السينما في فيلم الصعود إلى السماء لبينويل.
قد يقال إن الفيلم السوريالي ليس سوى فوضى استيطيقية بلا معنى، لكن هذه الفوضى هي المعنى ذاته، لأنه بمجرد ما يختفي جنون المخرج، يحتفي الإبداع السينمائي، فالكلب الأندلسي ليس إلا إخراجًا لجنون بينويل في غاية الروعة، كما أن ألمانيا في سنوات الصغر عبارة عن جمالية الجنون في شعرية الأنقاض، أما سارق الدراجة، فإنه يقدم استيطيقا السينما بأدوات فقيرة تمجيدًا للفقر الروحي الذي يقاوم الفقر المادي، فالاختلاف بين البطل وزوجته حول العرافة لخير شاهد على جدلية الفقر.
ما يهم التيار السوريالي هو بناء الذات الاستيطيقية اعتمادًا على الذوق الجمالي، ذلك أن الإبداع حين يتسلل إلى الكينونة ويحرضها على التمرد والمقاومة للبؤس واليأس يحقق هدفه، فعندما تصبح العلاقة بين الإنسان والإبداع راهنية تتحول الحقيقة إلى صورة جميلة تدعو إلى الشغف الوجودي.
هذا الشغف بالحقيقة والذي يطل من ثقب حذاء فان جوخ على نداء الأرض المكتوب وشقاء الإنسان الصامت، كما أن فيلم الكلب الأندلسي يفسر معنى الكون بالحواس بواسطة جدلية البرهان والنظر، وكأن حاسة الذوق الجمالي هي تأسيس للإبداع الاستيطيقي، ولذلك يصبح الذوق هو معيار الحكم على الفيلم «أعجبني الفيلم ولم يعجبني الفيلم».
من خلال حاسة الذوق نستحضر حياتنا، سعادتنا، أحزاننا، أفراحنا وكأن الذوق هو فكرة الحياة العميقة: ذوق الحواس، وحواس الذوق جدلية استيطيقية، وغاية السينما الاستحواذ على الجمال بالاستيطيقا، كما أن غاية الفلسفة الاستحواذ على العالم بواسطة الحقيقة، فالسينيفليا والفيلوسوفيا مولعان بالإنسان، ولذلك يسعيان إلى امتلاكه: «le bon gout = le bon sens» ■